طرق الكشف عن الإدراج
لَمْ يَكُن النقد الحديثي في وقت من
أوقاته عبارة عن إلقاء للكلام عَلَى عواهنه ،
بَلْ هُوَ أمر في غاية العسر ، تحكمه القرائن وتقويه المرجحات وتسنده أقوال أئمة
هَذَا الشأن .
ولا ريب أن الكشف عن الْحَدِيْث المعل
بأية علة كانت يفتقر إلى اطلاع واسع وخبرة بالرجال ودراية بأقوال النقاد وملاحظة
مواضع كلامهم ، ومن هنا كَانَ الحكم عَلَى حَدِيْث ما بالإدراج شَيْئاً ليس بالهين
لذا نجد الإمام ابن دقيق العيد يضعف الحكم
بالإدراج عَلَى الْحَدِيْث إذا كَانَ
اللفظ المدرج في أثناء متن الْحَدِيْث ، ويضعف أكثر إذا كَانَ قَبْلَ اللفظ
المرفوع ، أو معطوفاً عليه بواو العطف ([1])
.
ويعلل هَذَا الضعف بقوله : (( لما
فِيْهِ من اتصال هَذِهِ اللفظة بالعامل
الَّذِيْ هُوَ من لفظ الرسول r )) ([2])
.
والحق أنه إذا قامت قرائن ومرجحات تقوي
في نفس الناقد الحكم عَلَى تِلْكَ اللفظة
بالإدراج فلا مانع من ذَلِكَ ، وفي هَذَا يقول الحافظ ابن حجر : (( وفي الجملة إذا
قام الدليل عَلَى إدراج جملة معينة بحيث يغلب عَلَى الظن ذَلِكَ ، فسواء كَانَ في
الأول أو الوسط أَو الآخر ، فإن سبب ذَلِكَ الاختصار من بعض الرُّوَاة بحذف أداة
التفسير أَو التفصيل ، فيجيء مَن بعده فيرويه مدمجاً من غَيْر تفصيل فيقع ذَلِكَ ))([3]).
وَقَد وضع العلماء جملة من القواعد
الَّتِيْ يعرف بِهَا كون الْحَدِيْث مدرجاً ، يمكننا حصرها فِيْمَا يأتي :
1. أن يَكُوْن لفظه مِمَّا تستحيل إضافته
إلى النَّبِيّ r .
مثاله: حَدِيْث عَبْد الله بن المبارك،
عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري،عن سعيد بن المسيب،عن أبي هُرَيْرَة t قَالَ:قَالَ رَسُوْل الله r : (( للعبد
المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن
أموت وأنا مملوك )) ([4]).
فقوله : (( والذي نفسي بيده … الخ
الْحَدِيْث )) ، مِمَّا تستحيل نسبته إلى النَّبِيّ r إِذْ لا يجوز في
حقه أن يتمنى الرِّق ، وأيضاً لَمْ تكن لَهُ أم يبرها ، ولما فتشنا وجدناه مدرجاً
من كلام أبي هُرَيْرَة .
فَقَدْ أخرجه البخاري ([5]) عن بشر بن محمد([6])، عن عَبْد الله بن
المبارك، عن يونس، عن الزهري ، عن أبي هُرَيْرَة ، بِهِ . فأدرج كلام أبي
هُرَيْرَة في المرفوع ، وفصل القدر المدرج ثلاثة من الرُّوَاة عن ابن المبارك هم :
إِبْرَاهِيْم بن إسحاق الطالقاني :
عِنْدَ أحمد ([7]) .
عبدان المروزي([8])
: عِنْدَ البيهقي ([9]) .
حبان بن موسى المروزي([10]) : عِنْدَ الْخَطِيْب ([11]) .
كَمَا أن ابن المبارك متابع في روايته عن
يونس متابعة تامة ، تابعه :
أبو صفوان الأموي([12])
: عِنْدَ مُسْلِم ([13]) .
سليمان بن بلال : عِنْدَ البخاري في
" الأدب المفرد " ([14]) .
عَبْد الله بن وهب : عِنْدَ مُسْلِم ([15])، وأبي عوانة ([16])، والخطيب ([17]) .
عثمان بن عمر([18])
: عِنْدَ أحمد ([19]) ، وأبي عوانة ([20]) .
فظهر أن هَذَا الجزء من الْمَتْن مدرج في
حَدِيْث رَسُوْل الله r من كلام أبي
هُرَيْرَة، قَالَ الْخَطِيْب : (( وقول النَّبِيّ r هُوَ: (( للعبد
الصالح أجران )) فَقَطْ ، وما بَعْدَ ذَلِكَ إنما هُوَ كلام أبي هُرَيْرَة )) ([21]) .
2. أن يرد التصريح من الصَّحَابِيّ بأنه
لَمْ يَسْمَع تِلْكَ الجملة من النَّبِيّ r
مثاله : ما رواه أحمد بن عَبْد الجبار
العطاردي([22]) ، عن أبي بكر بن عياش([23]) ،
عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش([24])،
عن عَبْد الله بن مسعود ، عن النَّبِيّ r: (( من مات وَهُوَ
لا يشرك بالله شَيْئاً دخل الجنة، ومن مات وَهُوَ يشرك بالله شَيْئاً دخل النار ))([25]).
فأحمد بن عَبْد الجبار وهم في هَذَا
الْحَدِيْث ، فأدرج الجملة الثانية في المرفوع من الْحَدِيْث وَهُوَ الجملة الأولى
، قَالَ الْخَطِيْب : (( هكذا رَوَى هَذَا الْحَدِيْث أحمد بن
عَبْد الجبار العطاردي ، عن أبي بكر بن عياش ، ووهم في إسناده وفي متنه .
أما الوهم في إسناده فإن عاصماً إنما
كَانَ يرويه عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عَبْد الله ، لا عن زر ، وَقَدْ
رَوَاهُ كذلك عن أبي بكر : أسود بن عامر([26])
شاذان ، وأبو هشام مُحَمَّد بن يزيد الرفاعي([27])،
وأبو كريب مُحَمَّد بن العلاء الهمداني ، ووافقهم حماد ابن شعيب([28]) والهيثم بن جهم([29]) والد عثمان بن الهيثم
المؤذن ، فروياه عن عاصم، عن أبي وائل كذلك.
وأما الوهم في متن الْحَدِيْث : فإن
العطاردي في روايته جعله كله كلام النَّبِيّ r وليس كذلك ، وإنما
الفصل في ذكر من مات مشركاً قَوْل رَسُوْل الله r ، والفصل الثاني
في ذكر من مات غَيْر مشرك قَوْل عَبْد الله بن مسعود )) ([30])
.
وَقَدْ رَوَاهُ جمع من الرُّوَاة عن أبي
بكر بن عياش وميزوا بَيْنَ الفصلين ، وهم :
أبوكريب مُحَمَّد بن العلاء : عِنْدَ
الْخَطِيْب في " الفصل " ([31])
.
الأسود بن عامر ( شاذان ) : عِنْدَ :
أحمد ([32]) ، ومن طريقه
الْخَطِيْب ([33]) .
مُحَمَّد بن يزيد أبو هاشم الرفاعي :
عِنْدَ أبي يعلى ([34]) ، والخطيب ([35]).
ثُمَّ إن أبا بكر بن عياش متابع عليه في
روايته عن عاصم ، تابعه :
حماد بن شعيب : عند الْخَطِيْب ([36]).
الهيثم بن جهم : عِنْدَ الْخَطِيْب
أَيْضاً ([37]) .
أبو أيوب الإفريقي([38])
: عِنْدَ الطبراني في " الكبير " ([39])
و " الأوسط "([40]) .
ورواه أحمد بن يونس ، عن أبي بكر بن عياش
مقتصراً عَلَى اللفظ المرفوع ([41]) .
ولفظ الْحَدِيْث كَمَا رَوَاهُ أحمد ([42]) من طريق أسود بن عامر
: قَالَ عَبْد الله : سَمِعْتُ رَسُوْل الله r يقول: (( من جعل
لله نداً جعله الله في النار )) ، وَقَالَ: وأخرى أقولها لَمْ أسمعها مِنْهُ : من
مات لا يجعل لله نداً أدخله الله الجنة .
3. أن يفصِّل بعض الرُّوَاة فيبينوا
المدرج ويَفْصِلُوه عن الْمَتْن المرفوع ، ويضيفوه إلى قائله :
مثاله : ما رَوَاهُ عَبْد الله بن خيران ([43])، عن شعبة ، عن أنس بن
سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر رضي الله تَعَالَى عنهما يقول : طلقت امرأتي وَهِيَ
حائض ، فذكر عمر t ذَلِكَ للنبي r فَقَالَ : (( مُرهُ
فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلقها )) قَالَ : فتحتسب بالتطليقة ؟ قَالَ : فمه ([44]) .
قَالَ الْخَطِيْب: (( والصواب أن
الاستفهام من قَوْل أنس بن سيرين ، وأن جوابه من قول ابن عمر )) ([45]) .
وَقَدْ بيّن ذَلِكَ جَمَاعَة الرُّوَاة
عن شعبة ، وهم :
بهز بن أسد([46])
: وروايته عِنْدَ أحمد ([47]) ، ومسلم ([48]).
الحجاج بن منهال([49])
: عِنْدَ الطحاوي ([50]) .
خالد بن الحارث : عِنْدَ مُسْلِم ([51]) .
سليمان بن حرب : عِنْدَ البخاري ([52]) .
مُحَمَّد بن جعفر ( غندر ) : عِنْدَ أحمد ([53])،
ومسلم ([54])، والخطيب ([55]) .
النضر بن شميل المازني عِنْدَ الْخَطِيْب
([56]) .
يحيى بن سعيد القطان : عِنْدَ الْخَطِيْب
([57]) .
يزيد بن هارون : عِنْدَ ابن الجارود ([58]) .
فظهر أن عَبْد الله بن خيران أدرج سؤال
ابن سيرين وجواب ابن عمر لَهُ في الْحَدِيْث وجعل صورة الكل كأنه مرفوع .
ولفظ الْحَدِيْث كَمَا أخرجه أحمد ([59]) من طريق مُحَمَّد بن
جعفر ( غندر ) ، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر قَالَ : طلقت
امرأتي وَهِيَ حائض ، فأتى عمر النَّبِيّ r فأخبره ، فَقَالَ
: (( مُره فليراجعها ، ثُمَّ إذا طهرت فليطلقها )) .
قُلْتُ لابن عمر : أحسب تِلْكَ تطليقة ؟
قَالَ : فمه !!
إلا أن الحَافِظ ابن حجر استدرك عَلَى
حكمنا عَلَى الْحَدِيْث بالإدراج موافقة لهذه القاعدة الثالثة بأن البت بالحكم هنا
لَيْسَ لَهُ قوة البت بالحكم في النوعين الماضيين ، فَقَالَ: (( والحكم عَلَى
هَذَا القسم الثالث بالإدراج يَكُوْن بحسب غلبة ظن المحدّث الحَافِظ الناقد، ولا
يوجب القطع بِذَلِكَ خلاف القسمين الأولين ، وأكثر هَذَا الثالث يقع تفسيراً لبعض
الألفاظ الواقعة في الْحَدِيْث كَمَا في أحاديث الشغار والمحاقلة والمزابنة )) ([60]) .