ج 2 .حاشية ابن القيم على سنن أبي داود لمحمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
والنساء قالوا وقوله التصفيق للنساء هو على طريق الذم والعيب لهن كما يقال كفران العشير من فعل النساء
وهذا باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن في نفس الحديث تقسيم التنبيه بين الرجال
والنساء وإنما ساقه في معرض التقسيم وبيان اختصاص كل نوع بما يصلح له
فالمرأة لما كان صوتها عورة منعت من التسبيح وجعل لها التصفيق والرجل لما
خالفها في ذلك شرع له التسبيح
الثاني أن في الصحيحين من حديث أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم التسبيح للرجال والتصفيق
للنساء فهذا التقسيم والتنويع صريح في أن حكم كل نوع ما خصه به
وخرجه مسلم بهذا اللفظ وقال في آخره في الصلاة
الثالث أنه أمر به في قوله وليصفق النساء ولو كان قوله التصفيق للنساء على جهة الذم والعيب لم يأذن فيه والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى الدارقطني من حديث معاذ
بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق
وفيه حميد بن مالك وهو ضعيف
وفي مسند البزار من حديث أبي موسى عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تطلق النساء إلا من ريبة إن الله لا يحب
الذواقين ولا الذواقات
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث أبي الزبير هذا بحروفه إلا أنه لم يقل ولم
يرها شيئا بل قال فردها وقال إذا طهرت إلى آخره
وقد دل حديث ابن عمر هذا على أمور منها تحريم الطلاق في الحيض
ومنها أنه حجة لمن قال بوقوعه قالوا لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق ونازعهم في ذلك آخرون
وقالوا لا معنى لوقوع الطلاق والأمر بالمراجعة فإنه لو لم يعد الطلاق لم
يكن لأمره بالرجعة معنى بل أمره بارتجاعها وهو ردها إلى حالها الأولى قبل
تطليقها دليل على أن الطلاق لم يقع
قالوا وقد صرح بهذا في حديث أبي الزبير المذكور آنفا
قالوا وأبو الزبير ثقة في نفسه صدوق حافظ إنما تكلم في بعض ما رواه عن
جابر معنعنا لم يصرح بسماعه منه وقد صرح في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر
فلا وجه لرده
قالوا ولا يناقض حديثه ما تقدم من قول ابن عمر فيه أرأيت
إن عجز واستحمق وقوله فحسبت من طلاقها لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى
النبي
وقوله ولم يرها شيئا مرفوع صريح في عدم الوقوع
قالوا وهذا مقتضى قواعد الشريعة
فإن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام كان قياس قواعد الشرع أن حرامه
باطل غير معتد به كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام ولا يرد
على ذلك الظهار فإنه لا يكون قط إلا حراما لأنه منكر من القول وزور فلو قيل
لا يصح لم يكن للظهار حكم أصلا
قالوا وكما أن قواعد الشريعة أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد وليس معنا ما يستدل به على فساد العقد إلا النهي عنه
قالوا ولأن هذا طلاق منع منه صاحب الشرع وحجر على العبد في اتباعه فكما
أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه وإلا لم يكن للحجر فائدة
وإنما فائدة الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه
قالوا ولأن الزوج لو أذن له رجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له فيه لم ينفذ لعدم إذنه
والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح ولم يأذن له في المحرم فكيف
تصصحون ما لم يأذن به وتوقعونه وتجعلونه من صحيح أحكام الشرع
قالوا ولأنه لو كان الطلاق نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق
بعده تكثيرا من الطلاق البغيض إلى الله وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن
من المراجعة معه
ومعلوم أنه لا مصلحة في ذلك
قالوا وإن مفسدة
الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعا لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها بل
إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح وترقع خرقه
فأما رجعة يعقبها طلاق فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول لو كان واقعا
قالوا وأيضا فما حرمه الله سبحانه من العقود فهو مطلوب الإعدام بكل طريق
حتى يجعل وجوده كعدمه في حكم الشرع ولهذا كان ممنوعا من فعله باطلا في حكم
الشرع والباطل شرعا كالمعدوم
ومعلوم أن هذا هو مقصود الشارع مما حرمه
ونهى عنه فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب
بخلاف ما إذا صحح فإنه يثبت له حكم الوجود
قالوا ولأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي وهو الصحة
وإنما يفترقان في موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه البتة
قالوا وأيضا فإنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح فإذا نفذ وصح وترتب عليه حكم الصحيح كان ذلك عائدا على مقتضى النهي بالابطال
قالوا وأيضا فالشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه
فإن ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة
فنهى عنه قصدا لإعدام تلك المفسدة
فلو حكم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها وإثباتا لها
قالوا وأيضا فالعقد الصحيح هو الذي يترتب عليه أثره ويحصل منه مقصوده
وهذا إنما يكون في العقود التي أذن فيها الشارع وجعلها أسبابا لترتب
آثارها عليها فما لم يأذن فيه ولم يشرعه كيف يكون سببا لترتب آثاره عليه
ويجعل كالمشروع المأذون فيه
قالوا وأيضا فالشارع إنما جعل للمكلف
مباشرة الأسباب فقط وأما أحكامها المترتبة عليها فليست إلى المكلف وإنما هي
إلى الشارع فهو قد نصب الأسباب جعلها مقتضيات لأحكامها وجعل السبب مقدورا
للعبد فإذا باشره رتب عليه الشارع أحكامه
فإذا كان السبب محرما كان
ممنوعا منه ولم ينصبه الشارع مقتضيا لآثار السبب المأذون فيه والحكم ليس
إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه ولا نصبه الشارع لترتب
الآثار عليه فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه
وهو قياس في غاية الفساد إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية
بينهما في الحكم ولا يخفى فساده
قالوا وأيضا فصحة العقد هو عبارة عن
ترتب أثره المقصود للمكلف عليه وهذا الترتب نعمة من الشارع أنعم بها على
العبد وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها فإذا كان
السبب محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية فكيف تكون المعصية سببا لترتب
النعمة التي قصد المكلف حصولها قالوا وقد علل من أوقع الطلاق وأوجب الرجعة
إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها وقالوا أوجبنا عليه الرجعة معاملة له بنقيض
قصده فانه ارتكب أمرا محرما يقصد به الخلاص من الزوجة فعومل بنقيض قصده
فأمر برجعتها
قالوا فما جعلتموه أنتم علة لإيجاب الرجعة فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قصده المكلف بارتكابه ما حرم الله عليه
ولا ريب أن دفع وقوع الطلاق أسهل من دفعه بالرجعة فإذا اقتضت هذه العلة دفع أثر الطلاق بالرجعة فلأن تقتضي دفع وقوعه أولى وأحرى
قالوا وأيضا فلله تعالى في الطلاق المباح حكمان أحدهما إباحته والإذن فيه والثاني جعله سببا للتخلص من الزوجة
فإذا لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول وهو الإباحة فما
الموجب لبقاء الحكم الثاني وقد ارتفع سببه
ومعلوم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع ولا تصح دعوى أن الطلاق المحرم سبب
لما تقدم قالوا وأيضا فليس في لفظ الشارع يصح كذا ولا يصح وإنما يستفاد ذلك
من إطلاقه ومنعه فما أطلقه وأباحه فباشره المكلف حكم بصحته بمعى أنه وافق
أمر الشارع
فصح وما لم يأذن فيه ولم يطلقه فباشره المكلف حكم بعدم صحته بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه
وليس معنا ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن وعدم موافقتهما
فإن حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته لم يبق طريق إلى معرفة
الصحيح من الفاسد إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير
الإباحة والتحريم فإذا جوزتم ثبوت الصحة مع التحريم فبأي شيء تستدلون بعد
ذلك على فساد العقد وبطلانه
قالوا وأيضا فإن النبي قال كل عمل ليس
عليه أمرنا فهو رد وفي لفظ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والرد فعل
بمعنى المفعول أي فهو مردود وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس
الرد وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده وعدم اعتباره في حكمه
المقبول ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه بل كونه ردا أبلغ من كونه باطلا
إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه أو لما منفعته قليلة جدا وقد يقال لما
ينتفع به ثم يبطل نفعه وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئا ولم يترتب عليه
مقصوده أصلا
قالوا فالمطلق في الحيض قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع فيكون مردودا فلو صح ولزم لكان مقبولا منه وهو خلاف النص
قالوا وأيضا فالشارع أباح للمكلف من الطلاق قدرا معلوما في زمن مخصوص ولم
يملكه أن يتعدى القدر الذي حد له ولا الزمن الذي عين له فإذا تعدى ما حد له
من العدد كان لغوا باطلا فكذلك إذا تعدى ما حد له من الزمان يكون لغوا
باطلا فكيف يكون عدوانه في الوقت صحيحا معتبرا لازما وعدوانه أنه في العدد
لغوا باطلا قالوا وهذا كما أن الشارع حد له عددا من النساء معينا في وقت
معين فلو تعدى ما حد له من العدد كان لغوا وباطلا
وكذلك لو تعدى ما حد له من الوقت بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلا أو في وقت الإحرام فإنه يكون لغوا باطلا
فقد شمل البطلان نوعي التعدي عددا أو وقتا
قالوا وأيضا فالصحة إما أن تفسر بموافقة أمر الشارع وإما أن تفسر بترتب
أثر الفعل عليه فإن فسرت بالأول لم يكن تصحيح هذا الطلاق ممكنا وإن فسرت
بالثاني وجب أيضا أن لا يكون العقد
المحرم صحيحا لأن ترتب الثمرة
على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك ومعلوم أنه لم يعتبر العقد
المحرم ولم يجعله مثمرا لمقصوده كما مر تقديره
قالوا وأيضا فوصف العقد
المحرم بالصحة مع كونه منشئا للمفسدة ومشتملا على الوصف المقتصي لتحريمه
وفساده جمع بين النقيضين فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة والعقد المحرم لا
مصلحة فيه
بل هو منشأ لمفسدة خالصة أو راجحة
فكيف تنشأ الصحة من شيء هو منشأ المفسدة
قالوا وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع أو من
قياسه أو من توارد عرفه في محال حكمه بالصحة أو من إجماع الأمة
ولا
يمكن إثبات شيء من ذلك في محل النزاع بل نصوص الشرع تقتضي رده وبطلانه كما
تقدم وكذلك قياس الشريعة كما ذكرناه وكذلك استقراء موارد عرف الشرع في مجال
الحكم بالصحة إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا الصحة وكذلك الإجماع
فإن الأمة لم تجمع قط ولله الحمد على صحة شيء حرمه الله ورسوله لا في هذه
المسئلة ولا في غيرها فالحكم بالصحة فيها إلى أي دليل يستند
قالوا وأما قول النبي مره فليراجعها فهذا حجة لنا على عدم الوقوع لأنه لما طلقها
والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه أمره بأن يراجعها ويمسكها
فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعا ولا تخرج المرأة عن الزوجية
بسببه فهو كقوله لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان غلاما رده
ولا
يدل أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام وأن الرد إنما يكون بعد
الملك فكذلك امره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ
الطلاق بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصدا لوقوعه رد إليه
النبي امرأته وأمره أن يردها ورد الشيء إلى ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه
عن ملكه شرعا كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها ويقال للغاصب ردها إليه
ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها وكذلك إذا قيل رد على فلان ضألته
ولما باع على أحد الغلامين الأخوين قال له النبي رده رده وهذا أمر بالرد
حقيقة
قالوا فقد وفينا اللفظ حقيقته التي وضع لها
قالوا وأيضا
فقد صرح ابن عمر أن النبي ردها عليه ولم يرها شيئا وتعلقكم على أبي الزبير
مما لا متعلق فيه فإن أبا الزبير إنما يخاف من تدليسه وقد صرح هذا بالسماع
كما تقدم فدل على أن الأمر بمراجعتها لا يستلزم نفوذ الطلاق
قالوا والذي يدل عليه أن ابن عمر قال في الرجل
يطلق امرأته وهي حائض لا يعتد بذلك ذكره الإشبيلي في الأحكام من طريق محمد
بن عبدالسلام الخشني قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبدالوهاب بن عبدالمجيد
الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق
امرأته وهي حائض قال ابن عمر لا يعتد بذلك وذكره ابن حزم في كتاب المحلي
باسناده من طريق الخشني
وهذا إسناد صحيح
قالوا وقد روى الدارقطني
في سننه باسناد شيعي عن أبي الزبير قال سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته
ثلاثا وهي حائض فقال لي أتعرف عبد الله بن عمر قلت نعم قال طلقت امرأتي
ثلاثا على عهد النبي فردها رسول الله إلى السنة قال الدارقطني كلهم شيعة
ولم يزد على هذا
ولكن هذا الحديث باطل قطعا ولا تحتج به وإنما ذكرناه
للتعريف بحاله ولو كان إسناده ثقات لكان غلطا فإن المعروف من رواية الأثبات
عن ابن عمر أنه إنما طلق تطليقة واحدة كما رواه مسلم في الصحيح من حديث
يونس بن جبير ولكن لو حاكمنا منازعينا إلى ما يقرون به من أن رواية أهل
البدع مقبولة فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة والقدرية والخوارج
والمرجئة وغيرهم لم يتمكنوا من الطعن في هذا الحديث بأن رواته شيعة إذ مجرد
كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم
وبعد ففي معارضته بحديث يونس بن جبير
أنه طلقها تطليقة كلام ليس هذا موضعه فان من جعل الثلاث واحدة قال هي ثلاث
في اللفظ وهي واحدة في الحكم على ما في حديث أبي الصهباء عن ابن عباس
والله أعلم
قالوا وأما قولكم إن نافعا أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص
فروايته أولى أن نأخذ بها فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض فكيف ولا تعارض
بينهما فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه وأما نافع
فرواياته ليس فيها شيء صريح قط أن النبي حسبها عليه بل مرة قال فمه أي فما
يكون وهذا ليس بإخبار عن النبي أنه حسبها ومرة قال أرأيت إن عجز واستحمق
وهذا رأي محض ومعناه أنه ركب خطة عجز واستحمق أي ركب أحموقة وجهالة فطلق في
زمن لم يؤذن له في الطلاق فيه ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه حسبها
عليه لم يحتج أن يقول للسائل أرأيت إن عجز واستحمق فإن هذا ليس بدليل على
وقوع الطلاق فإن من عجز واستحمق يرد إلى العلم والسنة التي سنها رسول الله
فكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصا عن رسول الله في الاعتداد بتلك الطلقة ثم
يحتج بقوله أرأيت إن عجز واستحمق وقد سأله مرة رجل عن شيء فأجابه بالنص
فقال السائل أرأيت إن كان كذا وكذا قال اجعل أرأيت باليمن ومرة قال تحسب من
طلاقها وهذا قول نافع ليس قول ابن عمر كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في
الصحيحين قال عبد الله لنافع ما فعلت التطليقة قال واحدة اعتد بها وفي بعض
ألفاظه فحسبت تطليقة وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر فحسبت
علي بتطليقة ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه وخالف نافع وأنس
بن سيرين ويونس بن جبير وسائر الرواة عن ابن عمر فلم يذكروا فحسبت علي
وانفراد ابن جبير بها كانفراد أبي الزبير
بقوله ولم يرها شيئا فإن
تساقطت الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع وإن رجح إحداهما
على الأخرى فرواية أبي الزبير صريحة في الرفع ورواية سعيد بن جبير غير
صريحة في الرفع فإنه لم يذكر فاعل الحساب فلعل أباه رضي الله عنه حسبها
عليه بعد موت النبي في الوقت الذي ألزم الناس فيه بالطلاق الثلاث وحسبه
عليهم اجتهادا منه ومصلحة رآها للأمة لئلا يتتابعوا في الطلاق المحرم فإذا
علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه وقد كان في زمن النبي لا يحتسب
عليهم به ثلاثا في لفظ واحد فلما رأى عمر الناس قد أكثروا منه رأى إلزامهم
به والاحتساب عليهم به
قالوا وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا
الباب ويتبين وجهها ويزول عنها التناقض والاضطراب ويستغنى عن تكلف
التأويلات المستكرهة لها ويتبين موافقتها لقواعد الشرع وأصوله
قالوا
وهذا الظن بعمر رضي الله عنه أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث احتسب
على ابنه بتطليقته التي طلقها في الحيض وكون النبي لم يرها شيئا مثل كون
الطلاق الثلاث على عهده كان واحدة
وإلزام عمر الناس بذلك كالزامه له
بهذا وأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن ذلك كان تخفيفا ورفقا بالأمة لعلة
إيقاعهم الطلاق وعدم تتابعهم فيه فلما أكثروا منه وتتابعوا فيه ألزمهم بما
التزموه وهذا كما أداه اجتهاده في الجلد في الخمر ثمانين وحلق الرأس فيه
والنفي والنبي إنما جلد فيه أربعين ولم يحلق فيه رأسا ولم يغرب فلما رأى
الناس قد أكثروا منه واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم وحلق ونفى
ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع آخر إن شاء الله
قالوا وتوهم من توهم أنا خالفنا الإجماع في هذه المسئلة غلط فإن الخلاف فيها أشهر من أن يجحد وأظهر من أن يستر
وإذا كانت المسئلة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به
ورسوله من رد ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله دون
تحكيم أحد من الخلق قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
فهذه بعض كلمات المانعين من الوقوع
ولو استوفينا الكلام في المسئلة لاحتملت سفرا كبيرا فلنقتصر على فوائد الحديث
قال الموقعون
وفيه دليل على أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة لأنه جعل
ذلك إليه دون غيره ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة
قال تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فجعل الأزواج أحق بالرجعة من المرأة والولي
واختلفوا في قوله مره فليراجعها هل الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب
فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمد في
إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه الأمر بالرجعة استحباب
قال بعضهم لأن
ابتداء النكاح إذا لم يكن واجبا فاستدامته كذلك وقال مالك في الأشهر عنه
وداود وأحمد في الرواية الأخرى الرجعة واجبة الأمر بها ولأن الطلاق لما كان
محرما في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه واجبا وبهذا يبطل قولهم
إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته فإن الاستدامة ههنا واجبة لأجل
الوقت فإنه لا يجوز فيه الطلاق
قالوا ولأن الرجعة إمساك بدليل قوله الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فالامساك مراجعتها في العدة والتسريح تركها حتى
تنقضي عدتها
وإذا كانت الرجعة إمساكا فلا ريب في وجوب إمساكها في زمن الحيض وتحريم طلاقها فتكون واجبة
ثم اختلف الموجبون للرجعة في علة ذلك فقالت طائفة
إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي أراده في زمن الإباحة وهو الطهر الذي
لم يمسها فيه فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي ترتبت عليه الأحكام هو
الطلاق المحرم والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم فأمر برجعتها ليطلقها
طلاقا مباحا يترتب عليه أحكام الطلاق
وقالت طائفة بل أمره برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض فعاقبه بنقيض قصده وأمره بارتجاعها عكس مقصوده
وقالت طائفة بل العلة في ذلك أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل
العدة فأمره برجعتها ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله
وقال بعض الموجبين إن أبى رجعتها أجبر عليها
فإن امتنع ضرب وحبس فإن أصر حكم عليه برجعتها وأشهد أنه قد ردها عليه
فتكون امرأته يتوارثان ويلزمه جميع حقوقها حتى يفارقها فراقا ثانيا قاله
أصبغ وغيره من المالكية
ثم اختلفوا
فقال مالك يجبر على الرجعة إن طهرت ما دامت في العدة لأنه وقت للرجعة
وقال أشهب إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال وإن كانت
في العدة لأنه لا يجب عليه إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه فلا يجب
عليه رجعتها فيه إذ لو وجبت الرجعة في هذا الوقت لحرم الطلاق فيه
وقوله حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء امسك بعد ذلك وإن شاء طلق قال
البيهقي أكثر الروايات عن ابن عمر أن النبي أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن
شاء طلق وإن شاء أمسك فإن كانت الرواية عن سالم ونافع وابن دينار في امره
بأن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر محفوظة فقد قال الشافعي يحتمل أن
يكون إنما أراد بذلك الاستبراء أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها
بطهر تام ثم حيض تام ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها أبالحمل هي أم بالحيض أو
ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو
غير جاهل ما صنع أو يرغب فيمسك للحمل أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير حامل أن تكف عنه حاملا
آخر كلامه
وأكثر الروايات في حديث ابن عمر مصرحة بأنه إنما أذن في طلاقها بعد أن
تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر هكذا أخرجاه في الصحيحين من رواية نافع
عنه ومن رواية ابنه سالم عنه
وفي لفظ متفق عليه ثم يمسكها حتى تطهر
ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها وفي لفظ آخر متفق عليه
مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها ففى تعدد
الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها من رواية ابنه سالم ومولاه
نافع وعبد الله بن دينار وغيرهم والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء
ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به فرواياتهم أولى
لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه وسالم ابنه كذلك وعبد الله بن دينار من
أثبت الناس فيه وأرواهم عنه فكيف يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على
هؤلاء ومن العجب تعليل حديث أبي الزبير في ردها عليه من غير احتساب
بالطلقة بمخالفة غيره له ثم تقدم روايته التي سكت فيها عن تعدد الحيض
والطهر على رواية نافع وابن دينار وسالم فالصواب الذي لا يشك فيه أن هذه
الرواية ثابتة محفوظة ولذلك أخرجها أصحاب الصحيحين
واختلف في جواز
طلاقها في الطهر المتعقب للحيضة التي طلق فيها على قولين هما روايتان عن
أحمد ومالك أشهرهما عند أصحاب مالك المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك
الحيضة ثم تطهر كما أمر به النبي
والثاني يجوز طلاقها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى
ووجهه أن التحريم إنما كان لأجل الحيض فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز
طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده وكما يجوز أيضا طلاقها
فيه لو لم يتقدم طلاق في الحيض ولأن في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيح ثم
ليطلقها طاهرا أو حاملا وفي لفظ ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع في قبل عدتها
وفي لفظ فإذا طهرت فليطلقها لطهرها قال فراجعها ثم طلقها لطهرها وفي حديث
أبي الزبير وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك وكل هذه الألفاظ في الصحيح
وأما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بما تقدم من أمره بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر
وقد تقدم
قالوا وحكمة ذلك من وجوه
أحدها أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها
وهذا عكس مقصود الرجعة فإن الله سبحانه إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة
وإيوائها ولم شعث النكاح وقطع سبب الفرقة ولهذا سماه إمساكا فأمره الشارع
أن يمسكها في ذلك الطهر وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون
الرجعة للامساك لا للطلاق
قالوا وقد أكد الشارع هذا المعنى حتى إنه
أمر في بعض طرق هذا الحديث بأن يمسكها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة فإذا
حاضت بعده وطهرت فإن شاء طلقها قبل أن يمسها فإنه قال مره فليراجعها فإذا
طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ذكره ابن
عبدالبر وقال الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء لأنه المبتغى من النكاح
ولا يحصل الوطء إلا في الطهر فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض
ثم تطهر فاعتبرنا مظنه الوطء ومحله ولم يجعله محلا للطلاق
الثاني أن الطلاق حرم في الحيض لتطويل العدة عليها فلو طلقها عقب الرجعة
من غير وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة فإن تلك الحيضة التي طلقت فيها
لم تكن تحتسب عليها من العدة وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها أو
من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء فإذا طلقها عقب تلك الحيضة كانت
في معنى ممن طلقت ثم راجعها ولم يمسها حتى طلقها فإنها تبنى على عدتها في
أحد القولين لأنها لم تنقطع بوطء فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة
موجود بعينه هنا لم يزل بطلاقها عقب الحيضة فأراد رسول الله قطع حكم الطلاق
جملة بالوطء فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء فإذا وطىء حرم طلاقها حتى
تحيض ثم تطهر
ومنها أنها ربما كانت حاملا وهو لا يشعر فإن الحامل قد
ترى الدم بلا ريب وهل حكمه حكم الحيض أو دم فساد على الخلاف فيه فأراد
الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام ثم بحيض تام فحينئذ تعلم هل هي
حامل أو حائل فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه وربما تكف هي عن
الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور
الحمل فأراد الشارع تحيق علمها بذلك نظرا للزوجين ومراعاة لمصلحتهما وحسما
لباب الندم وهذا من أحسن محاسن الشريعة
وقيل الحكمة فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاء له على ما فعله من إيقاعه على الوجه المحرم
ورد بأن ابن عمر لم يكن يعلم التحريم
وأجيب عنه بأن هذا حكم شامل له ولغيره من الأمة وكونه رضي الله عنه لم يكن
عالما بالتحريم يفيد نفي الإثم لا عدم ترتب هذه المصلحة على الطلاق المحرم
في نفسه
وقيل حكمته أن الطهر الذي بعد تلك الحيضة هو من حريم تلك
الحيضة فهما كالقرء الواحد فلو شرع الطلاق فيه لصار كموقع طلقتين في قرء
واحد وليس هذا بطلاق السنة
وقيل حكمته أنه نهى عن الطلاق في الطهر
ليطول مقامه معها ولعله تدعوه نفسه إلى وطئها وذهاب ما في نفسه من الكراهة
لها فيكون ذلك حرصا على ارتفاع الطلاق البغيض إلى الله المحبوب إلى الشيطان
وحضا على بقاء النكاح ودوام المودة والرحمة والله أعلم
وقوله ثم
ليطلقها طاهرا وفي اللفظ الآخر فإذا طهرت فليطلقها إن شاء هل المراد به
انقطاع الدم أو التطهر بالغسل أو ما يقوم مقامه من التيمم على قولين هما
روايتان عن أحمد أحداهما أنه انقطاع الدم وهو قول الشافعي
والثانية
أنه الاغتسال وقال أبو حنيفة إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم
وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة
أشياء إما أن تغتسل وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي وإما أن يخرج عنها وقت
صلاة لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها
وسر المسألة أن الأحكام المترتبة على الحيض نوعان منها ما يزول بنفس انقطاعه كصحة الغسل والصوم ووجوب الصلاة في ذمتها
ومنها ما لا يزول إلا بالغسل كحل الوطء وصحة الصلاة وجواز الليث في المسجد
وصحة الطواف وقراءة القرآن على أحد الأقوال فهل يقال الطلاق من النوع
الأول أو من الثاني ولمن رجح إباحته قبل الغسل أن يقول الحائض إذا انقطع
دمها صارت كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه ويصح منها ما يصح منه ومعلوم أن
المرأة الجنب لا يحرم طلاقها
ولمن رجح الثاني أن يجيب عن هذا بأنها لو
كانت كالجنب لحل وطؤها ويحتج بما رواه النسائي في سننه من حديث المعتمر بن
سليمان قال سمعت عبيد الله عن نافع عن عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض
تطليقة فانطلق عمر فأخبر النبي بذلك فقال النبي مر عبد الله فليراجعها فإذا
اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتي يطلقها فإن شاء أن يمسكها فليمسكها
فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء
وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله فإذا طهرت فيجب حمله عليه
وتمام هذه المسألة أن العدة هل تنقضي بنفس انقطاع الدم وتنقطع الرجعة أم
لا تنقطع إلا بالغسل وفيه خلاف بين السلف والخلف يأتي في موضعه إن شاء الله
تعالى
وقوله ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمس دليل على أن طلاقها في الطهر الذي مس فيه ممنوع منه وهو طلاق بدعة وهذا متفق عليه فلو طلق فيه
قالوا لم يجب عليه رجعتها قال ابن عبدالبر أجمعوا على أن الرجعة لا تجب في
هذه الصورة وليس هذا الإجماع ثابتا وإن كان قد حكاه صاحب المغني أيضا فإن
أحد الوجهين في مذهب أحمد وجوب الرجعة في هذا الطلاق حكاه في الرعاية وهو
القياس لأنه طلاق محرم فتجب الرجعة فيه كما تجب في الطلاق في زمن الحيض
ولمن فرق بينهما أن يقول زمن الطهر وقت للوطء وللطلاق وزمن الحيض ليس وقتا
لواحد منهما فظهر الفرق بينهما فلا يلزم من الأمر بالرجعة في غير زمن
الطلاق الأمر بها في زمنه ولكن هذا الفرق ضعيف جدا فإن زمن الطهر متى اتصل
به المسيس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق سواء ولا فرق بينهما بل الفرق
المؤثر عند الناس أن المعنى الذي وجبت لأجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف
في صورة الطلاق في الطهر الذي مسها فيه فإنها إنما حرم طلاقها في زمن الحيض
لتطويل العدة عليها فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا اتفاقا
فتحتاج
إلى استئناف ثلاثة قروء كوامل وأما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو
كان لحظة فلا حاجة بها إلى أن يراجعها فإن من قال الأقراء الأطهار كانت أول
عدتها عنده عقب طلاقها ومن قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر وهو لو
راجعها ثم أراد أن يطلقها لم يطلقها إلا في طهر فلا فائدة في الرجعة
هذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين
وبعد ففيه إشكال لا ينتبه له إلا من به خبرة بمأخذ الشرع وأسراره وجمعه وفرقه
وذلك أن النبي أمره أن يطلقها إذا شاء قبل أن يمسها وقال فتلك العدة التي
أمر بها الله أن تطلق النساء وهذا ظاهر في أن العدة إنما يكون استقبالها من
طهر لم يمسها فيه إن دل على أنها بالاطهار وأما طهر قد أصابها فيه فلم
يجعله النبي من العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء فكما لا تكون عدتها
متصلة بالحيضة التي طلق فيها ينبغي أن لا تكون متصلة بالطهر الذي مسها فيه
لأن النبي سوى بينهما في المنع من الطلاق فيهما وأخبر أن العدة التي
أمر بها الله أن يطلق لها النساء هي من وقت الطهر الذي لم يمسها فيه فمن
أين لنا أن الطهر الذي مسها فيه هو أول العدة التي أمر الله أن تطلق لها
النساء وهذا مذهب أبي عبيد وهو في الظهور والحجة كما ترى وقال الإمام أحمد
والشافعي ومالك وأصحابهم لو بقي من الطهر لحظة حسبت لها قرءا وإن كان قد
جامع فيه إذا قلنا الأقراء الأطهار
قال المنتصرون لهذا القول إنما حرم
الطلاق في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم تحتسب ببقية
الطهر قرءا كان الطلاق في زمن الطهر أضر بها وأطول عليها
وهذا ضعيف
جدا فإنها إذ اطلقت فيه قبل المسيس احتسب به وأما إذا طلقت بعد المسيس كان
حكمها حكم المطلقة في زمن الحيض فكما لا تحتسب ببقية الحيضة لا تحتسب ببقية
هذا الطهر الممسوسة فيه
قالوا ولم يحرم الطلاق في الطهر لأجل
التطويل الموجود في الحيض بل إنما حرم لكونها مرتابة فلعلها قد حملت من ذلك
الوطء فيشتد ندمه إذا تحقق الحمل ويكثر الضرر
فإذا أراد أن يطلقها
طلقها طاهرا من غير جماع لأنهما قد تيقنا عدم الريبة وأما إذا ظهر الحمل
فقد دخل على بصيرة وأقدم على فراقها حاملا
قالوا فهذا الفرق بين الطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه
قالوا وسر ذلك أن المرأة إن كانت حاملا من هذا الوطء فعدتها بوضع الحمل
وإن لم تكن قد حملت منه فهو قرء صحيح فلا ضرر عليها في طلاقها فيه
ولمن نصر قول أبي عبيد أن يقول الشارع إنما جعل استقبال عدة المطلقة من طهر
لم يمسها فيه ليكون المطلق على بصيرة من أمره والمطلقة على بصيرة من عدتها
أنها بالإقراء
فأما إذا مسها في الطهر ثم طلقها لم يدر أحاملا أم
حائلا ولم تدر المرأة أعدتها بالحمل أم بالأقراء فكان الضرر عليهما في هذا
الطلاق أشد من الضرر في طللاقها وهي حائض فلا تحتسب ببقية ذلك الطهر قرءا
كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع الطلاق فيه
وهذا التفريع كله على أقوال الأئمة والجمهور
وأما من لم يوقع الطلاق البدعي فلا يحتاج إلى شيء من هذا
وقوله ليطلقها طاهرا أو حاملا دليل على أن الحامل طلاقها سني قال ابن
عبدالبر لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة قال الإمام أحمد أذهب
إلى حديث سالم عن أبيه ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا وعن أحمد رواية أخرى أن
طلاق الحامل ليس بسني ولا بدعي وإنما يثبت لها ذلك عن جهة العدد لامن جهة
الوقت ولفظه الحمل في حديث ابن عمر انفرد بها مسلم وحده في بعض طرق الحديث
ولم يذكرها البخاري
فلذلك لم يكن طلاقها سنيا ولا بدعيا لأن الشارع لم يمنع منه
فإن قيل إذا لم يكن سنيا كان طلاقها بدعيا لأن النبي إنما أباح طلاقها في
طهر لم يمسها فيه فإذا مسها في الطهر وحملت واستمر حملها استمر المنع من
الطلاق فكيف يبيحه تجدد ظهور الحمل فإذا لم يثبتوا هذه اللفظة لم يكن طلاق
الحامل جائزا
فالجواب أن المعنى الذي لأجله حرم الطلاق بعد المسيس
معدوم عند ظهور الحمل لأن المطلق عند ظهور الحمل قد دخل على بصيرة فلا يخاف
ظهور أمر يتجدد به الندم وليست المرأة مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها
بخلاف طلاقها مع الشك في حملها
والله أعلم
وقوله طاهرا أو حاملا
احتج به من قال الحامل لا تحيض لأنه حرم الطلاق في زمن الحيض وأباحه في وقت
الطهر والحمل فلو كانت الحامل تحيض لم يبح طلاقها حاملا إذا رأت الدم وهو
خلاف الحديث
ولأصحاب القول الآخر أن يجيبوا عن ذلك بأن حيض الحامل
لم يكن له تأثير في العدة بحال لا في تطويلها ولا تخفيفها إذا عدتها بوضع
الحمل أباح الشارع طلاقها حاملا مطلقا وغير الحامل لم يبح طلاقها إلا إذا
لم تكن حائضا لأن الحيض يؤثر في العدة لأن عدتها بالأقراء فالحديث دل على
أن المرأة لها حالتان أحدهما أن تكون حائلا فلا تطلق إلا في طهر لم يمسها
فيه
والثانية أن تكون حاملا فيجوز طلاقها
والفرق بين الحامل
وغيرها في الطلاق إنما هو بسبب الحمل وعدمه لا بسبب حيض ولا طهر ولهذا يجوز
طلاق الحامل بعد المسيس دون الحائل وهذا جواب سديد والله أعلم
وقد أفردت لمسألة الحامل هل تحيض أم لا مصنفا مفردا
وقد احتج بالحديث من يرى أن السنة تفريق الطلقات على الأقراء فيطلق لكل
قرء طلقة وهذا قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين وعن أحمد رواية كقولهم
قالوا وذلك لأن النبي إنما أمره بإمساكها في الطهر المتعقب للحيض لأنه لم
يفصل بينه وبين الطلاق طهر كامل والسنة أن يفصل بين الطلقة والطلقة قرء
كامل فإذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت
طلقها طلقة بائنة لحصول الفصل بين الطلقتين بطهر كامل
قالوا فلهذا المعنى اعتبر الشارع الفصل بين الطلاق الأول والثاني
قالوا وفي بعض حديث ابن عمر السنة أن يستقبل الطهر فيطلق لكل قرء وروى
النسائي في سننه عن ابن مسعود قال طلاق السنة أن يطلقها تطليقة وهي طاهر في
غير جماع فإذا حاضت فطهرت طلقها أخرى فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد
بعد ذلك بحيضة
وهذا الاستدلال ضعيف فإن النبي لم يأمره بإمساكها في
الطهر الثاني ليفرق الطلقات الثلاث على الأقراء ولا في الحديث ما يدل على
ذلك وإنما أمره بطلاقها طاهرا قبل أن يمسها وقد ذكرنا حكمة إمساكها في
الطهر الأول
وأما قوله والسنة أن يستقبل الطهر فيطلق لكل قرء فهو حديث
قد تكلم الناس فيه وأنكروه على عطاء الخراساني فإنه انفرد بهذه اللفظة دون
سائر الرواة قال البيهقي وأما الحديث الذي رواه عطاء الخراساني عن ابن عمر
في هذه القصة أن النبي قال السنة أن يستقبل الطهر فيطلق لكل قرء فإنه أتى
في هذا الحديث بزيادات لم يتابع عليها وهو ضعيف في الحديث لا يقبل منه ما
ينفرد به
وأما حديث ابن مسعود فمع أنه موقوف عليه فهو حديث يرويه أبو
إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله واختلف على أبي إسحاق فيه فقال الأعمش عنه
كما تقدم وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه طلاق السنة أن
يطلقها طاهرا من غير جماع ولعل هذا حديثان
والذي يدل عليه أن الأعمش قال سألت إبراهيم فقال لي مثل ذلك
وبالجملة فهذا غايته أن يكون قول ابن مسعود وقد خالفه علي وغيره
وقد روي عن ابن مسعود روايتان إحداهما التفريق والثانية إفراد الطلقة وتركها حتى تنقضي عدتها
قال طلاق السنة أن يطلقها وهي طاهر ثم يدعها حتى تنقضي عدتها أو يراجعها إن شاء ذكره ابن عبدالبر عنه
ولأن هذا أردأ طلاق لأنه طلاق من غير حاجة إليه وتعريض لتحريم المرأة عليه
إلا بعد زوج وإصابة والشارع لا غرض له في ذلك ولا مصلحة للمطلق فكان بدعيا
والله أعلم
وقوله فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء احتج به من يرى الأقراء هي الأطهار
قالوا واللام بمعنى الوقت كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقول العرب كتب لثلاث مضين ولثلاث بقين
وفي الحديث فليصلها حين ذكرها ومن الغد للوقت قالوا فهذه اللام الوقتية بمعنى فيه
وأجاب الآخرون عن هذا بأن اللام في قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن هي اللام
المذكورة في قوله أن تطلق لها النساء ولا يصح أن تكون وقتية ولا ذكر أحد من
أهل العربية أن اللام تأتي بمعنى في أصلا
ولا يصح أن تكون هنا بمعنى
في ولو صح في غير هذا الموضع لأن الطلاق لا يكون في نفس العدة ولا تكون عدة
الطلاق ظرفا له قط وإنما اللام هنا على بابها للاختصاص
والمعنى طلقوهن مستقبلات عدتهن ويفسر هذا قراءة النبي في حديث ابن عمر فطلقوهن في قبل عدتهن أي في الوقت الذي تستقبل فيه العدة
وعلى هذا فإذا طلقها في طهرها استقبلت العدة من الحيضة التي تليه فقد
طلقها في قبل عدتها بخلاف ما إذا طلقها حائضا فإنها لا تعتد بتلك الحيضة
وينتظر فراغها وانقضاء الطهر الذي يليها ثم تشرع في العدة فلا يكون طلاقها
حائضا طلاقا في قبل عدتها وقد أفردت لهذه المسألة مصنفا مستقلا ذكرت فيه
مذاهب الناس ومآخذهم وترجيح القول الراجح والجواب عما احتج به أصحاب القول
الآخر
وقوله مره فليراجعها دليل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به
وقد اختلف الناس في ذلك وفصل النزاع أن المأمور الأول إن كان مبلغا محضا
كأمر النبي آحاد الصحابة أن يأمر الغائب عنه يأمره فهذا أمر به من جهة
الشارع قطعا ولا يقبل ذلك نزاعا أصلا ومنه قوله مرها فلتصبر ولتحتسب وقوله
مروهم بصلاة كذا في حين كذا ونظائره فهذا الثاني مأمور به من جهة الرسول
فإذا عصاه المبلغ إليه فقد عصى أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه والمأمور
الأول مبلغ محض وإن كان الأمر متوجها إلى المأمور الأول توجه التكليف
والثاني غير مكلف لم يكن أمرا للثاني من جهة الشارع كقوله مروهم بالصلاة
لسبع
فهذا الأمر خطاب للأولياء بأمر الصبيان بالصلاة فهذا فصل الخطاب في هذا الباب
والله أعلم بالصواب
فهذه كانت نبهنا بها على بعض فوائد حديث ابن عمر فلا تستطلها فإنها مشتملة على فوائد
جمة وقواعد مهمة ومباحث لمن قصده الظفر بالحق وإعطاء كل ذي حق حقه من غير
ميل مع ذي مذهبه ولا خدمة لإمامة وأصحابه بحديث رسول الله بل تابع للدليل
حريص على المظفر بالسنة والسبيل يدور مع الحق أني توجهت ركائبه ويستقر معه
حيث استقرت مضاربه ولا يعرف قدر هذا السير إلا من علت همته وتطلعت نوازع
قلبه واستشرفت نفسه إلى الارتضاع من ثدي الرسالة والورود من عين حوض النبوة
والخلاص من شباك الأقوال المتعارضة والآراء المتناقضة إلى فضاء العلم
الموروث عمن لا ينطق عن الهوى ولا يتجاوز نطقه البيان والرشاد والهدى
وبيداء اليقين التي من حلها حشد في زمرة العلماء وعد من ورثة الأنبياء وما
هي إلا أوقات محدودة وأنفاس على العبد معدودة فلينفقها فيما شاء
أنت القتيل لكل من أحببته فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وليس في المسألة إجماع فإن إحدى
الروايتين عن الإمام أحمد القول بهذا الحديث قال ولا أرى شيئا يدفعه وغير
واحد يقول به أبو سلمة وجابر وسعيد بن المسيب هذا آخر كلامه
وقال مرة حديث عثمان وزيد في تحريمها عليه جيد وحديث ابن عباس يرويه عمر بن معتب ولا أعرفه ثم ذكر كلام ابن المبارك
قال أحمد أما أبو حسن فهو عندي معروف ولكن لا أعرف عمر بن معتب
وقال الإمام أحمد في رواية ابن منصور في عبد تحته مملوكة وطلقها تطليقتين ثم عتقا يتزوجها وتكون على واحدة على حديث عمر بن معتب
وقال في رواية أبي طالب في هذه المسألة يتزوجها ولا يبالي عتقا أو بعد العدة وهو قول ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سلمة وقتادة
قال أبو بكر عبدالعزيز إن صح الحديث فالعمل عليه وإن لم يصح فالعمل على حديث عثمان وزيد
وحديث عثمان وزيد الذي أشار إليه هو ما رواه الأثرم في سننه عن سليمان بن
يسار أن نفيعا مكاتب أم سلمة طلق امرأته حرة بتطليقتين فسأل عثمان وزيد بن
ثابت عن ذلك فقالا حرمت عليك
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وللحديث بعد علة عجيبة ذكرها البخاري في تاريخه الكبير قال مظاهر بن أسلم عن القاسم عن عائشة رفعه طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان قال أبو عاصم حدثنا ابن جريج عن مظاهر ثم لقيت مظاهرا فحدثنا به وكان أبو عاصم يضعف مظاهرا وقال يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب قال حدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه كان جالسا عند أبيه فأتاه رسول الأمير فقال إن الأمير يقول لك كم عدة الأمة قال عدة الأمة حيضتان وطلاق الحر الأمة ثلاث وطلاق العبد الحرة تطليقتان وعدة الحرة ثلاث حيض ثم قال للرسول أين تذهب قال أمرني أن أسأل القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله قال فأقسم عليك إلا رجعت إلي فأخبرتني ما يقولان فذهب ورجع إلى أبي فأخبره أنهما قالا كما قال وقالا له إن هذا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولكن عمل به المسلمون
وذكر الدارقطني حديث مظاهر ثم قال والصحيح عن القاسم خلاف هذا وذكر عن
القاسم أنه قيل له بلغك في هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا
وذكره الدارقطني أيضا من حديث ابن عمر مرفوعا وقال تفرد به عمر بن شبيب والصحيح أنه من قول ابن عمر
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال شيخنا والإغلاق انسداد
باب العلم والقصد عليه
يدخل فيه طلاق المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول لأن كلا من هؤلاء قد أغلق عليه باب العلم والقصد والطلاق إنما يقع من قاصد له عالم بهوالله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم
رحمه الله وقد احتج به من يرى طلاق المكره لازما قال لأنه أكثر ما فيه أنه
لم يقصده والقصد لا يعتبر في الصريح بدليل وقوعه من الهازل واللاعب وهذا
قياس فاسد فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه وإنما حمل عليه وأكره على
التكلم به ولم يكره على القصد
وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختيارا
وقصد به غير موجبه وهذا ليس إليه بل إلى الشارع فهو أراد اللفظ الذي إليه
وأراد أن لا يكون موجبه وليس إليه فإن من باشر سبب لحكم باختياره لزمه
مسببه ومقتضاه وإن لم يرده
وأما المكره فإنه لم يرد لا هذا ولا هذا فقياسه على الهازل غير صحيح
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله لم يذكر أبو داود في النسخ غير هذين
وفيه أحاديث أصح وأصرح منها منها حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال
كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن
طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت
انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال والله لا آويك إلي
ولا تحلين أبدا فأنزل الله عز
وجل الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فاستقبل الناس الطلاق
جديدا من يومئذ من كان منهم طلق أو لم يطلق ورواه الترمذي متصلا عن عائشة
ثم قال والمرسل أصح
وفيه حديث عائشة في امرأة رفاعة وقول النبي صلى
الله عليه و سلم لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وهو في الصحيحين وهو
صريح في تحريمها عليه بعد الطلقة الثالثة
قال الحافظ شمس الدين بن
القيم رحمه الله والحديث الذي رجحه أبو داود هو حديث نافع بن عجير أن ركانة
بن عبيد طلق امرأته سهمة البتة فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم وقال
والله ما أردت إلا واحدة فقال النبي صلى الله عليه و سلم والله ما أردت
إلا واحدة فقال ركانة والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى
الله عليه و سلم فطلقها الثانية في زمن عمر رضي الله عنه والثالثة في زمن
عثمان رضي الله عنه قال أبو داود وهذا أصح من حديث ابن جريج يعني الحديث
الذي قبل هذا
تم كلامه
وهذا هو الحديث الذي ضعفه الإمام أحمد
والناس فإنه من رواية عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير عن ركانة
ومن رواية الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن
جده وكلهم ضعفاء والزبير أضعفهم وضعف البخاري أيضا هذا الحديث قال علي بن
يزيد بن ركانة عن أبيه لم يصح حديثه
وأما قول أبي داود إنه أصح من
حديث ابن جريج فلأن ابن جريج رواه عن بعض بني رافع مولى النبي صلى الله
عليه و سلم عن عكرمة عن ابن عباس ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا
عبيد الله بن رافع ولا نعلم هل هو هذا أو غيره ولهذا والله أعلم رجح أبو
داود حديث نافع بن عجير عليه ولكن قد رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث
ابن اسحق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس
وهذا أصح من حديث نافع بن عجير ومن حديث ابن جريج
وقد صحح الإمام أحمد هذا السند في قصة رد زينب ابنة رسول الله صلى الله
عليه و سلم على أبي العاص بن الربيع وقال الصحيح حديث ابن عباس أن رسول صلى
الله عليه و سلم ردها على أبي العاص بالنكاح الأول وهو بهذا الإسناد بعينه
من رواية ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس
وهكذا ذكر الثوري والدارقطني أن رواية ابن إسحاق هي الصواب
وحكموا له على رواية حجاج بن أرطاه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه و سلم ردها عليه بنكاح جديد وحجاج بن أرطاة أعرف من
نافع بن عجير ومن معه
وبالجملة فأبو داود لم يتعرض لحديث محمد بن إسحاق ولا ذكره
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال البيهقي هذا الحديث أحد ما
اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه إنما تركه
لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس وساق الروايات عنه ثم قال فهذه رواية
سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمر بن دينار ومالك بن
الحارث ومحمد بن إياس بن البكير ورويناه عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري
كلهم عن ابن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن قال ابن المنذر فغير جائز أن نظن
بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ثم يفتي بخلافه
وقال الشافعي فإن كان يعني قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحتسب على عهد
رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه و
سلم فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيء فنسخ
قال البيهقي
ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل يريد البيهقي الحديث ذكره أبو داود في باب نسخ المراجعة وقد تقدم
وقال أبو العباس بن سريج يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ
كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق وكان في عهد النبي صلى الله عليه و
سلم وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن ظهر فيهم الحب والخداع
فكانوا يصدقون أنهم ارادوا به التوكيد ولا يريدون الثلاث
ولما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار فألزمهم الثلاث
وقال بعضهم إن ذلك إنما جاء في غير المدخول بها وذهب إلى هذا جماعة من
أصحاب ابن عباس ورووا أن الثلاث لا تقع على غير المدخول بها لأنها بالواحدة
تبين فإذا قال أنت طالق بانت وقوله ثلاثا وقع بعد البينونة ولا يعتد به
وهذا مذهب إسحاق ابن راهويه
وقال بعضهم قد ثبت عن فاطمة بنت قيس أن
أبا حفص بن المغيرة طلقها ثلاثا فأبانها النبي صلى الله عليه و سلم ولم
يجعل لها نفقة ولا سكنى وفي حديث ابن عمر أنه قال يارسول الله أرأيت لو
طلقتها ثلاثا قال إذن عصيت ربك وبانت منك امرأتك رواه الدارقطني
وعن
علي رضي الله عنه أنه قال سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا طلق امرأته
البتة فغضب وقال يتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا ولعبا من طلق
البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره رواه الدارقطني أيضا
قالوا وهذه الأحاديث أكثر وأشهر من حديث أبي الصهباء وقد عمل بها الأئمة فالأخذ بها أولى
وقال بعضهم المراد أنه كان المعتاد في زمن النبي صلى الله عليه و سلم
تطليقة واحدة وقد اعتاد الناس الآن التطليقات الثلاث والمعنى كان الطلاق
الموقع الآن ثلاثا موقعا في عهد النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر واحدة
وقال بعضهم ليس في هذا الحديث أن ذلك كان بلغ النبي صلى الله عليه و سلم
فيقر عليه والحجة إنما هي في إقراره بعد بلوغه ولما بلغه طلاق ركانة امرأته
البتة استحلفه ما أردت بها إلا واحدة ولو كان الثلاث واحدة لم يكن
لاستحلافه معنى وأنها واحدة سواء أراد بها الثلاث أو الواحدة
وقال بعضهم الإجماع منعقد على خلاف هذا الحديث والإجماع معصوم من الغلط والخطأ دون خبر الواحد
وقال بعضهم إنما هذا في طلاق السنة
فإنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يراد بها الواحدة كما
أراد بها ركانة ثم تتايع الناس فيها فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها
فهذه عشرة مسالك للناس في رد هذا الحديث
وقال أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه الناسخ والمنسوخ غائلة قال
تعالى الطلاق مرتان زل قوم في آخر الزمان فقالوا إن الطلاق الثلاث كلمة لا
يلزم وجعلوه واحدة ونسبوه
إلى السلف الأول فحكوه عن علي والزبير
وعبدالرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف
المنزلة المغموز المرتبة ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل وغوى قوم من أهل
المسائل
فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا إن قوله أنت طالق ثلاثا
كذب لأنه لم يطلق ثلاثا كما لو قال طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة وكما لو
قال أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة
منبهة لقد طوفت في الآفاق ولقيت من
علماء الإسلام وأرباب المذاهب كل صادق فما سمعت لهذه المقالة بخبر ولا
أحسست لها بأثر إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا ولا يرون الطلاق
واقعا
ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي يامن يرى المتعة في دينه حلا
وإن كانت بلا مهر ولا يرى تسعين تطليقة تبين منه ربة الخدر من ههنا طابت
مواليدكم فاغتنموها يابني القطر وقد اتفق علماء الإسلام وأرباب الحل والعقد
في الأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة
وإن كان حراما في قول
بعضهم وبدعة في قول الآخرين لازم وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين وعلم
الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري وقد قال في صحيحه باب جواز الثلاث لقوله
تعالى الطلاق مرتان وذكر حديث اللعان فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله
صلى الله عليه و سلم ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولا يقر على
الباطل ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى
الصحابة كذب بحث لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد
وقد أدخل مالك في موطئه عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها
فكيف إذا صرح بها وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة
فإن قيل ففي صحيح مسلم عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء هذا
قلنا هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه الأول أنه حديث مختلف في صحته فكيف
يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا
عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث فإن
رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن
العدل ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا
الثاني ان هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس
فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا
واحد وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس وكيف خفي على
أصحاب ابن عباس إلا طاوس الثالث يحتمل أن يراد به قبل الدخول
وكذلك تأوله النسائي فقال
باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول
بالزوجةوذكر هذا الحديث بنصه
الرابع أنه يعارضه حديث محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته
ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يارسول الله ألا أقتله رواه النسائي
فلم يرد النبي صلى الله عليه و سلم بل أمضاه وكما في حديث عويمر العجلاني في اللعان حيث أمضى طلاقه الثلاث ولم يرده
الخامس وهو قوي في النظر والتأويل أنه قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول
الله صلى الله عليه و سلم واحدة يحتمل أن يريد به كان حكم الثلاث إذا وقعت
أن تجعل واحدة وأن يريد به كانت عبارة الثلاث على عهده أن تذكر واحدة فلما
تتابع الناس في الطلاق وذكروا الثلاث بدل الواحدة أمضى ذلك عمر كما أمضاه
رسول الله صلى الله عليه و سلم على عويمر حين طلق ثلاثا
فلا يبقى في المسألة إشكال
فهذا أقصى ما يرد به هذا الحديث
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هكذا وقع في السنن لأبي داود ولم يفسر قول الحسن في حديثه
ورواه الترمذي مفسرا عن حماد بن زيد قال قلت لأيوب هل علمت أحدا قال أمرك
بيدك ثلاثا إلا الحسن قال لا ثم قال اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة عن كثير
مولى بني سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
ثلاث ثم ذكر الترمذي عن البخاري أنما هو موقوف
قال أبو محمد بن حزم وكثير مولى بني سلمة مجهول وعن الحسن في أمرك بيدك قال ثلاث
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي تاريخ البخاري علي بن يزيد بن ركانة القرشي عن أبيه لم يصح حديثه هذا لفظه
وقال
عبدالحق الاشبيلي في سنده كلهم ضعيف والزبير أضعفهم
وذكر الترمذي في كتاب العلل عن البخاري أنه مضطرب فيه تارة قيل فيه ثلاثا وتارة قيل فيه واحدة
ثم ذكر الشيخ ابن القيم كلام الحافظ المنذري واعتراضه على أبي داود في
تصحيحه ثم قال الشيخ وفيما قاله المنذري نظر فإن أبا داود لم يحكم بصحته
وإنما قال بعد روايته هذا أصح من حديث ابن جريج أنه طلق امرأته ثلاثا لأنهم
أهل بيته وهم أعلم بقضيتهم وحديثهم وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح
فإن حديث ابن جريج ضعيف وهذا ضعيف أيضا فهو أصح الضعيفين عنده وكثيرا ما
يطلق أهل الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين
وهو كثير في كلام المتقدمين
ولو لم يكن اصطلاحا لهم لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه فإنك تقول لأحد المريضين هذا أصح من هذا ولا يدل على أنه صحيح مطلقا
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفيه دليل على أن من قال لامرأته
إنها أختي أو أمي على سبيل الكرامة والتوقير لا يكون مظاهرا
وعلى هذا
فإذا قال لعبده هو حر يعني أنه ليس بفاجر لم يعتق وهذا هو الصواب الذي لا
ينبغي أن يفتى بخلافه فإن السيد إذا قيل له عبدك فاجر زان فقال ما هو إلا
حر قطع سامعه أنه إنما أراد الصفة لا العين وكذلك إذا قيل له جاريتك تبغي
فقال إنما هي حرة
وسمي قول إبراهيم هذا كذبا لأنها تورية
وقد
أشكل على الناس تسميتها كذبة لكون المتكلم إنما أراد باللفظ المعنى الذي
قصده فكيف يكون كذبا والتحقيق في ذلك أنها كذب بالنسبة إلى إفهام المخاطب
لا بالنسبة إلى غاية المتكلم فإن الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم ونسبة
إلى المخاطب فلما أراد الموري أن يفهم المخاطب خلاف ما قصده بلفظه أطلق
الكذب عليه بهذا الاعتبار وإن كان المتكلم صادقا باعتبار قصده ومراده
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قد ورد في هذه الكفارة أنه أمره
بإطعام وسق والوسق ستون صاعا وهو أكثر ما قيل فيه وذهب إليه سفيان الثوري
وأصحاب الرأي مع قولهم إن الصاع ثمانية أرطال بالعراقي وورد فيها أنه أمر
امرأة أوس بن الصامت أن تكفر عنه بالعرق الذي دفعه إليها والعرق الذي
أعانته به
واختلف في مقدار ذلك العرق فقيل ستون صاعا وهو وهم وقيل ثلاثون هو الذي رجحه أبو
داود على حديث يحيى بن آدم وقيل خمسة عشر فيكون العرقان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع وإلى هذا ذهب الإمام أحمد ومالك
وفي رواية أخرى أن التمر الذي أمره أن يتصدق به كان قريبا من خمسة عشر
صاعا وإلى هذا ذهب الشافعي وعطاء والأوزاعي وروى عن أبي هريرة فيكون لكل
مسكين مد وهو مقدار لا شيء بالنسبة إلى ما يوجبه أهل الرأي فإنهم يوجبون
صاعا وهو ثمانية أرطال فيوجبون زيادة على ما توجبه هؤلاء ست مرات
وأخذ
الشافعي ذلك من حديث المجامع في رمضان فإن النبي صلى الله عليه و سلم أتى
بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال خذه وتصدق به وسيأتي إن شاء الله تعالى
ثم اختلفوا في البر هل هو على النصف من ذلك أم هو وغيره سواء فقال الشافعي مد من الجميع وقال مالك مدان من الجميع وقال أحمد وأبو حنيفة البر على النصف من غيره على أصلهما فعند أحمد مد من بر أو نصف صاع من غيره وعند أبي حنيفة مدان من بر أو نصف صاع من غيره على اختلافهما في الصاع
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وروى النسائي حديث امرأة ثابت بن قيس موصولا مطولا عن الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ابن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي وأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ثابت فقال له خذ الذي لها عليك وخل سبيلها قال نعم فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها
قال الترمذي في جامعه الصحيح في
حديث الربيع أنها أمرت أن تعتد وهذا مرفوع وقد صرح في الرواية الأخرى أن
الذي أمرها بذلك هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر الترمذي حديث ابن
عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه و
سلم فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تعتد بحيضة وقال هذا حديث حسن
غريب
والمعروف عن إسحاق أن عدتها حيضة وهي إحدى الروايتين عن الإمام
أحمد نقلها عنه أبو القاسم وهو قول عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعن
ابن عمر روايتان أحدهما أن عدتها عدة المطلقة ذكره مالك في الموطأ عن نافع
عنه
والثانية حيضة نقلها ابن المنذر عنه وهي رواية القعنبي عنه
قال أبو داود عن القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال عدة المختلعة حيضة اختار ابن المنذر أن عدتها حيضة
وقد ذكر الله تعالى في آية الطلاق ثلاثة أحكام أحدها أن التربص فيه ثلاثة
قروء الثاني أنه مرتان الثالث أن الزوج أحق برد امرأته في المرتين
فالخلع ليس بداخل في الحكم الثالث اتفاقا وقد دلت السنة أنه ليس داخلا في
الحكم الأول وذلك يدل على عدم دخوله في حكم العدد فيكون فسخا
وهذا من أحسن ما يحتج به على ذلك
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هكذا الرواية وأمرها أن تعتد وزاد الدارقطني عدة الحرة ولعله مدرج من تفسير بعض الرواة
وقد روى ابن ماجه في سننه أخبرنا علي بن محمد حدثنا وكيع عن سفيان عن
منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت أمرت بريرة أن يعتد بثلاث حيض
وهذا مع أنه إسناد الصحيحين فلم يروه أحد من أهل الكتب الستة إلا ابن ماجه
ويبعد أن تكون الثلاث حيض محفوظة
فإن مذهب عائشة أن الأقراء الأطهار
وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم المختلعة أن تستبرىء بحيضة كما تقدم
فهذه أولى ولأن الأقراء الثلاث إنما جعلت في حق المطلقة ليطول زمن الرجعة
فيتمكن زوجها من رجعتها متى شاء ثم أجرى الطلاق كله مجرى واحدا
وطرد هذا أن المزنى بها تستبرأ بحيضة وقد نص عليه أحمد
وبالجملة فالأمر بالتربص ثلاثة قروء إنما هو للمطلقة والمعتقة إذا فسخت فهي بالمختلعة
والأمة المستبرأة أشبه إذ المقصود براءة رحمها فالاستدلال على تعدد
الأقراء في حقها بالآية غير صحيح لأنها ليست مطلقة ولو كانت مطلقة لثبت
لزوجها عليها الرجعة
وأما الأحاديث في هذه اللفظة ففي صحتها نظر وحديث
الدارقطني المعروف أن الحسن رواه مرسلا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر
بريرة أن تعتد عدة الحرة ورواه البيهقي في سننه من حديث عكرمة عن ابن عباس
وفيه وجه رابع وهو أنه جعل عدتها عدة المطلقة رواه البيهقي من حديث أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
ورواه أبو يعلى الموصلي عن محمد بن بكار عن أبي معشر
فهذه أربعة أوجه أحدها أن تعتد
الثاني عدة الحرة
الثالث عدة المطلقة
الرابع بثلاث حيض
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله واستدل به من يقول إن التخيير
إنما يكون للمتعة تحت عبد ولو كان لها خيار إذ كانت تحت حر لم يكن لتقديم
عتق الزوج عليها معنى ولا فائدة
وفيه نظر
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الإمام أحمد حديث ابن عباس في هذا أصح قيل له
أليس يروى أنه ردها بنكاح مستأنف قال ليس لذلك أصل
وقال ابن عبدالبر فصة أبي العاص مع امرأته لا تخلو من أن تكون قبل نزول
تحريم المسلمات على الكفار فتكون منسوخة بما جاء بعدها أو تكون حاملا
واستمر حملها حتى أسلم زوجها أو
مريضة لم تحض ثلاث حيضات حتى أسلم أو تكون ردت إليه بنكاح جديد ثم ذكر حديث عمرو بن شعيب تم كلامه
وللناس في حديث ابن عباس عدة طرق أحدها رده باستمرار العمل على خلافه قال
الترمذي سمعت عبد بن حميد يقول سمعت يزيد بن هرون يقول حديث ابن عباس أجود
إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب
وقال ابن عبدالبر لم يختلف
العلماء أن بانقضاء العدة ينفسخ النكاح إلا شيء روي عن النخعي شذ فيه عن
جماعة العلماء فلم يتبعه عليه أحد زعم أنها ترد إلى زوجها وإن طالت المدة
الثاني معارضته بحديث عمرو بن شعيب
الثالث تضعيف داود بن الحصين عن عكرمة
الرابع حمله على ردها بنكاح مثل الأول لم يحدث فيه شيئا
الخامس حمله على تطاول زمن العدة
السادس القول بموجبه ويروى عن علي بن أبي طالب وإبراهيم النخعي وغيرهما
السابع أن تحريم نكاح الكفار إنما كان في سورة الممتحنة وهي نزلت بعد
الحديبية فلم يكن نكاح الكافر المسلمة قبل ذلك حراما ولهذا في قصة الممتحنة
لما نزلت ولا تمسكوا بعصم الكوافر عمد عمر إلى امرأتين له فطلقهما ذكره
البخاري
فدل على أن التحريم كان من يومئذ
وإذا ثبت هذا فأبو
العاص بن الربيع إنما أسلم في زمن الهدنة بعد ما أخذت سرية زيد بن حارثة ما
معه فأتى المدينة فأجارته زينب فأنفذ رسول الله صلى الله عليه و سلم
جوارها ودخل عليها فقال أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين
له وكان هذا بعد نزول آية التحريم في الممتحنة ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة
فأدى ما كان عنده من بضائع أهل مكة ثم أسلم وخرج إلى المدينة فلم يطل
الزمان بين إسلامه ونزول آية التحريم فردها عليه بالنكاح الأول
الثامن
أن حديث ابن عباس في قصته منسوخ وسلك ذلك الطحاوي وادعى أن النبي صلى الله
عليه و سلم ردها إليه بعد رجوعه من بدر حين أسر وروي في ذلك عن الزهري أنه
أخذ أسيرا يوم بدر فأتى به النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه ابنته ثم
إن الله سبحانه حرم نكاح الكفار في قضية الممتحنة
التاسع ما حكاه عن
بعض أصحابهم في الجمع بين الحديثين بأن عبد الله بن عمرو علم تحريم نكاح
الكافر فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد فقال ردها عليه بنكاح جديد ولم
يعلم ابن عباس بالتحريم فقال ردها بالنكاح الأول لأنه لم يكن عنده بينهما
فسخ نكاح
فهذه مجامع طرق الناس في هذا الحديث
أفسدها هذان الآخران فإنهما غلط محض والنبي صلى الله عليه و سلم لم يردها على أبي العاص يوم بدر قط وإنما الحديث في قصة بدر
أن النبي صلى الله عليه و سلم أطلقه
وشرط عليه أن يرد عليه ابنته لأنها كانت بمكة فلما أسر أبو العاص أطلقه
بشرط أن يرسلها إلى أبيها ففعل ثم أسلم بعد ذلك بزمان في الهدنة هذا هو
المعروف الذي لا يشك فيه من له علم بالمغازي والسير وما ذكروه عن الزهري
وقتادة فمنقطع لا يثبت
وأما المسلك التاسع فمعاذ الله أن يظن بالصحابة
أنهم يروون أخبارا عن الشيء الواقع والأمر بخلافه بظنهم واعتقادهم وهذا لا
يدخله إلا الصدق والكذب فإنه إخبار عن أمر واقع مشاهد هذا يقول ردها بنكاح
جديد فهل يسوغ أن يخبر بذلك بناء على اعتقاده من غير أن يشهد القصة أو
تروى له وكذا من قال ردها بالنكاح الأول
وكيف يظن بعبد الله بن عمرو
أنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم عقد نكاح لم يثبته ولم يشهده ولا
حكي له وكيف يظن بابن عباس أن يقول ردها بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا وهو
لا يحيط علما بذلك ثم كيف يشتبه على مثله نزول آية الممتحنة وما تضمنته من
التحريم قبل رد زينب على ابي العاص ولو قدر اشتباهه عليه في زمن النبي صلى
الله عليه و سلم لحداثة سنه افترى دام هذا الاشتباه عليه واستمر حتى يرويه
كبيرا وهو شيخ الإسلام ومثل هذه الطرق لا يسلكها الأئمة ولا يرضى بها
الحذاق
وأما تضعيف حديث داود بن الحصين عن عكرمة فمما لا يلتفت إليه
فإن هذه الترجمة صحيحة عند أيمة الحديث لا مطعن فيها وقد صحح الإمام أحمد
والبخاري والناس حديث ابن عباس وحكموا له على حديث عمرو بن شعيب
وأما حمله على أنه ردها بنكاح جديد مثل الأول ففي غاية البعد واللفظ ينبو عنه
وأما رده بكونه خلاف الإجماع ففاسد إذ ليس في المسألة إجماع والخلاف فيها أشهر والحجة تفصل بين الناس
وليس القول في الحديث إلا أحد قولين إما قول إبراهيم النخعي وإما قول من
يقول إن التحريم لم يكن ثابتا إلى حين نزول الممتحنة فكانت الزوجية مستمرة
قبل ذلك
فهذه المسلكان أجود ما سلك في الحديث
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد اختصر كلام البخاري ونحن
نذكره لكمال الفائدة قال البخاري حديث غيلان بن سلمة يعني من حديث عبد الله
بن عمر غير محفوظ والصحيح ما رواه شعيب وغيره عن الزهري عن محمد بن سويد
الثقفي أن غيلان أسلم قال البخاري وأما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن
رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال عمر رضي الله عنه لتراجعن نساءك أو لأرجمن
قبرك كما رجم قبر أبي رغال
وقال ابن عبدالبر الأحاديث في تحريم ما زاد على الأربع كلها معلولة
وقال ابن القطان هذا حديث مختلف فيه على الزهري ومالك ومعمر يقولان عنه
بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل من ثقيف ويونس في روايته
عنه يقول عن الزهري عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال لغيلان حين أسلم ذكره ابن وهب عن يونس وروى الليث عن يونس
عن ابن شهاب بلغني عن عثمان بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث
وروى شعيب بن أبي حمزة وغير واحد عن الزهري حديث عن محمد بن سويد الثقفي
أن غيلان أسلم ذكره البخاري والناس وقال معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن
غيلان أسلم ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره
فهذه خمس وجوه
آخر كلامه
وقد رواه الدارقطني من حديث سيف بن عبد الله الجرمي أخبرنا سرار بن مجشر
عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة
فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يمسك منهن أربعا فلما كان زمن عمر
طلقهن فقال له عمر راجعهن وإلا ورثتهن مالك وأمرت بقبرك يرجم
ولكن سيف
وسرار ليسا بمعروفين بحمل الحديث وحفظه وقال الدارقطني في كتاب العلل وقد
ذكره هذا الحديث تفرد به سيف بن عبد الله الجرمي عن سرار وسرار ثقة من أهل
البصرة
ومعلوم أن تفرد سيف بهذا مانع من الحكم بصحته بل لو تفرد به من هو أجل من سيف لكان تفرده علة
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث يرويه أبو وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه
قال البخاري في إسناد هذا الحديث نظر
ووجه قوله أن أبا وهب والضحاك مجهول حالهما وفيه يحيى بن أيوب ضعيف
وقوله طلق ايتهما شئت دليل على أنه طلق واحدة لم يكن اختيارا لها كما قال
أصحابنا وأصحاب الشافعي قالوا لأن الطلاق إنما يكون الزوجة لا للأجنبية
فإذا طلقها كان دليلا على استبقاء نكاحها وهذا ضعيف جدا فإن طلاقه لها إنما
هو رغبة عنها وقطع لنكاحها فكيف يكون
اختيارا لها وهو لو قال طلقت
هذه وأمسكت هذه أو اخترت هذه جعلتم التي اختار إمساكها مفارقة والتي اختار
طلاقها مختارة وهذا معلوم أنه ضد مقصوده
وأقصى ما في الباب أنه
استعمل لفظ الطلاق في مفارقتها النبي صلى الله عليه و سلم قال له فارق
سائرهن والمفارقة أيضا من سرائح الطلاق عندكم فإذا قال فارقت هذه كان
اختيارا لها وهذا أحد الوجهين لهم
وإنما يكون مفارقا لها إذا قال فسخت نكاح هؤلاء أو اخترت هؤلاء ونحوه وصاحب الشرع قد أمره بالفراق
وإذا أتى باللفظ الذي أمره به كان ذلك فراقا لا اختيارا
وأما قولهم إن الطلاق لا يكون في زوجة
قلنا هذا ينتقض بالفسخ وإنكم قد قلتم لو فسخ نكاح إحداهن كان اختيارا
للباقيات ومعلوم أن الفسخ لا يكون إلا في زوجة فما هو جوابكم في الفسخ هو
الجواب في الطلاق
وأيضا فالطلاق جعل عبارة عن الفسخ وإخراجا للمطلقة واستبقاء للأخرى فكأنه قال أرسلت هذه وسيبتها ونحوه وأمسكت هذه
وأيضا فإن النكاح لم تزل أحكامه كلها بالإسلام ولهذا قلتم إن عدة
المفارقات من حين الاختيار لا من حين الإسلام على الصحيح وعللتم ذلك بأنهن
إنما منه بالاختيار لا بالإسلام فالطلاق أثر في قطع أحكام النكاح وإزالتها
وأيضا فإن العبرة بالقصد والنية وهو لم يرد قط بقوله طلقت هذه اختيارها بل
هذا قلب للحقائق وأيضا فإن لفظ الطلاق لم يوضع للاختيار لغة ولا شرعا ولا
عرفا ولا هو اصطلاح خاص له يريده بكلامه فحمله على الاختيار ممتنع
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال بعضهم هذه أحكام وقعت في أول
زمن الشريعة إلى أن قال ثم ذكر الاستلحاق قال الشيخ شمس الدين وليس كما قال
فإن هذا القضاء إنما وقع بالمدينة المنورة بعد قيام الإسلام ومصيرها دار
هجرة
وقد جعله النبي صلى الله عليه و سلم على صور الصورة الأولى أن يكون الولد من أمته التي في ملكه وقت الإصابة فإذا استلحقه لحق به من
حين استلحقه وما قسم من ميراثه قبل استلحاقه لم ينقض ويورث من المستلحق
وما كان بعد استلحاقه من ميراث لم يقسم ورث منه نصيبه فإنه إنما تثبت بنوته
من حين استلحقه فلا تنعطف على ما تقدم من قسمة المواريث وإن أنكره لم يلحق
به وسماه أباه على كونه يدعي له ويقال إنه منه لا أنه أبوه في حكم الشرع
إذ لو كان حكما لم يقبل إنكاره له ولحق به
الصورة الثانية أن يكون الولد من أمة لم تكن في ملكه وقت الإصابة فهذا ولد زنا لا يلحق به ولا يرثه بل نسبه منقطع منه
وكذلك إذا كان من حزة قد زنى بها فالولد غير لاحق به ولا يرث منه وإن كان
هذا الزاني الذي يدعي الولد له يعني أنه منه قد ادعاه لم تفد دعواه شيئا بل
الولد ولد زنا وهو لأهل أمه إن كانت أمة فمملوكة لمالكها وإن كانت حرة
فنسبه إلى أمه وأهلها دون هذا الزاني الذي هو منه
وقوله في أول الحديث
استلحق بعد أبيه الذي يدعي له ادعاه ورثة الأب ههنا هو الزاني الذي منه
الولد وسماه أبا تسمية مقيدة بكون الولد منه ولهذا قال الذي يدعي له يعني
يقال إنه منه
ويدعي له في الجاهلية أنه أبوه فإذا ادعاه ورثة هذا الزاني فالحكم ما ذكر
ونظير هذا القضاء قصة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة فإن
ورثة عتبة وهو سعد ادعي الولد أنه من أخيه وادعى عبد أنه أخوه ولد على فراش
أبيه فألحقه النبي صلى الله عليه و سلم بمالك الأمة دون عتبة
وهو تفسير قوله وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرث وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى
وقد يتمسك به من يقول الأمة لا تكون فراشا وإنما يلحق الولد للسيد بالدعوى
لا بالفراش كقول أبي حنيفة لقوله من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق
بمن استلحقه فإنما جعله لاحقا به بالاستلحاق لا بالإصابة ولكن قصة عبد بن
زمعة أصح من هذا وأصرح في كون الأمة تصير فراشا كما تكون الحرة يلحق الولد
بسيدها بحكم الفراش كما يلحق بالحرة كما سيأتي
وليس في حديث عمرو بن
شعيب أنه لا يلحق ولده من أمته إلا بالاستلحاق وإنما فيه أنه عند تنازع
سيدها والزاني في ولدها يلحق بسيدها الذي استلحقه دون الزاني وهذا مما لا
نزاع فيه فالحديثان متفقان
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال أبو محمد بن حزم هذا الحديث إسناده صحيح كلهم ثقات قال فإن قيل
إنه خبر قد اضطرب فيه فأرسله شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن مجهول
ورواه أبو إسحق الشيباني عن رجل من حضر موت عن زيد بن أرقم قلنا قد وصله
سفيان وليس هو بدون شعبة عن صالح بن حي وهو ثقة عن عبدخير وهو ثقة عن زيد
بن أرقم
هذا آخر كلامه
وهذا الحديث قد اشتمل على أمرين أحدهما
إلحاق المتنازع فيه بالقرعة وهو مذهب إسحاق بن راهويه قال هو السنة في دعوى
الولد وكان الشافعي يقول به في القديم
وذهب أحمد ومالك إلى تقديم حديث القافة عليه فقيل لأحمد في حديث زيد هذا فقال حديث القافة أحب إلي
ولم يقل أبو حنيفة بواحد من الحديثين لا بالقرعة ولا بالقافة
الأمر الثاني جعله ثلثي الدية على من وقعت له القرعة وهذا مما أشكل على الناس ولم يعرف له وجه
وسألت عنه شيخنا فقال له وجه ولم يزد
ولكن قد رواه الحميدي في مسنده بلفظه آخر يدفع الإشكال جملة قال وأغرمه
ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه وهذا لأن الولد لما لحق به صارت أم ولد وله فيها
ثلثها فغرمه قيمة ثلثيها اللذين أفسدهما على الشريكين بالاستيلاد فلعل هذا
هو المحفوظ وذكر ثلثي دية الولد وهم أو يكون عبر عن قيمة الجارية بالدية
لأنها هي التي يودي بها فلا يكون بينهما تناقض
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد أشكل هذا الحديث على كثير من الناس من حيث إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سودة بالاحتجاب منه وقد ألحقه بزمعه فهو أخوها ولهذا قال الولد للفراش قالوا فكيف يكون أخاها في الحكم وتؤمر بالاحتجاب منه فقال بعضهم هذا على سبيل الورع لأجل الشبه الذي رآه بعينه وقال بعضهم إنما جعله عبدا لزمعة قال والرواية هو لك عبد فإنما جعله عبدا لعبد بن زمعة لكونه رأى شبهه بعتبة فيكون منه غير لاحق بواحد منهما فيكون عبدا لعبد بن زمعة إذ هو ولد زنا من جارية زمعة وهذا تصحيف منه وغلط في الرواية والمعنى فإن الرواية الصحيحة هو لك ياعبد بن زمعة ولو صحت
رواية هو لك عبد فإنما هي على إسقاط حرف النداء كقوله تعالى يوسف
أعرض عن هذا ولا يتصور أن يجعله عبدا له وقد أخبره أنه ولد على فراش أبيه
ويحكم النبي صلى الله عليه و سلم بأن الولد للفراش
وهذه الزيادة التي ذكرها أبو داود وهي قوله هو أخوك ياعبد ترفع الإشكال ورجال إسنادها ثقات
ولو لم تأت فالحديث إنما يدل على إلحاقه بعبد أخا له
وأما أمره سودة وهي أخته بالاحتجاب منه فهذا يدل على أصل وهو تبعيض أحكام
النسب فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره ولا يكون أخاها في المحرمية
والخلوة والنظر إليها لمعارضة الشبه للفراش فأعطى الفراش حكمه من ثبوت
الحرمة وغيرها وأعطى الشبه حكمه من عدم ثبوت المحرمية لسودة
وهذا باب من دقيق العلم وسره لا يلحظه إلا الأئمة المطلعون على أغواره المعنيون بالنظر في
مأخذ الشرع وأسراره ومن نبا فهمه عن هذا وغلظ عنه طبعه فلينظر إلى الولد
من الرضاعة كيف هو ابن في التحريم لا في الميراث ولا في النفقة ولا في
الولاية وهذا ينفع في مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني فإنها بنته في
تحريم النكاح عليه عند الجمهور وليست بنته في الميراث ولا في النفقة ولا في
المحرمية
وبالجملة فهذا من أسرار الفقه ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام وترتيب مقتضى كل وصف عليه
ومن تأمل الشريعة أطلعته من ذلك على أسرار وحكم تبهر الناظر فيها
ونظير هذا ما لو أقام شاهدا واحدا وحلف معه على سارق أنه سرق متاعه ثبت
حكم السرقة في ضمان المال على الصحيح ولم يثبت حكمها في وجوب القطع اتفاقا
فهذا سارق من وجه دون وجه ونظائره كثيرة
فإن قيل فكيف تصنعون في الرواية التي جاءت في هذا الحديث واحتجبي منه ياسودة فإنه ليس لك بأخ
قيل هذه الزيادة لا نعلم ثبوتها ولا صحتها ولا يعارض بها ما قد علمت صحته
ولو صحت لكان وجهها ما ذكرناه أنه ليس لها بأخ في الخلوة والنظر وتكون
مفسرة لقوله واحتجبي منه والله أعلم
وهذا الولد الذي وقع فيه الاختصام هو عبدالرحمن بن زمعة مذكور في كتاب الصحابة
وهو حجة على من يقول إن الأمة لا تكون فراشا ويحمل قوله الولد للفراش على
الحرة فإن سبب الحديث في الأمة فلا يتطرق إليه تخصيص لأن محل السبب فيه
كالنص وما عداه في حكم الظاهر
والله أعلم
قال الحافظ شمس
الدين بن القيم رحمه الله قال أبو داود في المسائل سمعت أحمد بن حنبل وذكر
له قول عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فلم يصحح هذا عن عمر
وقال الدارقطني هذا الكلام لا يثبت عن عمر يعني قوله سنة نبينا ثم ذكر
أحاديث الباب ثم قال بعد انتهاء آخر الباب اختلف الناس في المبتوتة هل لها
نفقة أو سكنى على ثلاثة مذاهب وعلى ثلاث روايات عن أحمد أحدها أنه لا سكنى
لها ولا نفقة وهو ظاهر مذهبه
وهذا قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن
عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعكرمة وميمون بن مهران وإسحاق بن راهويه
وداود بن علي وأكثر فقهاء الحديث وهو مذهب صاحبة القصة فاطمة بنت قيس وكانت
تناظر عليه
والثاني ويروى عن عمر وعبد الله بن مسعود أن لها السكنى والنفقة
وهو قول أكثر أهل
العراق وقول ابن شبرمة وابن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن أبي صالح وأبي حنيفة وأصحابه وعثمان البتي والعنبري
وحكاه أبو يعلى القاضي في مفراداته رواية عن أحمد وهي غريبة جدا والثالث
أن لها السكنى دون النفقة وهذا قول مالك والشافعي وفقهاء المدينة السبعة
وهو مذهب عائشة أم المؤمنين
وأسعد الناس بهذا الخبر من قال به وأنه لا نفقة لها ولا سكنى وليس مع رده حجة تقاومه ولا تقاربه
قال ابن عبدالبر أما من طريق الحجة وما يلزم منها فقول أحمد بن حنبل ومن
تابعه أصح وأرجح لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم نصا صريحا فأي شيء
يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي هو المبين عن الله
مراده ولا شيء يدفع ذلك ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى أسكنوهن من
حيث سكنتم من وجدكم
وأما قول عمر ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس
ومن وافقهما والحجة معهم ولو لم يخالفهم أحد منهم لما قبل قول المخالف لقول
رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة
على عمر وعلى غيره
ولم يصح عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن أحمد أنكره وقال أما هذا فلا
ولكن قال لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا أمر يرده الإجماع على قبول
المرأة في الرواية فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع وترده السنة ويخالفه فيه
علماء الصحابة وقال إسماعيل بن إسحاق نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب
ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى والذي في الكتاب أن لها النفقة
إذا كانت حاملا لقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن
وأما غير ذوات الحمل فلا يدل إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في
الأمر بالإنفاق
آخر كلامه
والذي ردوا خبر فاطمة هذا ظنوه معارضا
للقرآن فإن الله تعالى قال أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم وقال لا تخرجوهن
من بيوتهن ولا يخرجن وهذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة وأما إيجاب
النفقة لها فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهن كما قال القاضي
إسماعيل لأن الله سبحانه وتعالى شرط في وجوب الإنفاق أن يكن من أولات الحمل
وهو يدل على أنها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها كيف وإن القرآن لا يدل على
وجوب السكنى للمبتوتة بوجه ما فإن السياق كله إنما هو في الرجعية
يبين ذلك في قوله لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقوله فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وهذا في البائن
مستحيل ثم قال أسكنوهن واللاتي قال فيهن فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف
أو فارقوهن بمعروف قال فيهن أسكنوهن و لا تخرجوهن من بيوتهن وهذا ظاهر جدا
وشبهة من ظن أن الآية في البائن قوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا
عليهن حتى يضعن حملهن قالوا ومعلوم أن الرجعية لها النفقة حاملا كانت أو
حائلا وهذا لا حجة فيه فإنه إذا أوجب نفقتها حاملا لم يدل ذلك على أنه لا
نفقة لها إذا كانت حائلا بل فائدة التقييد بالحمل التنبيه على اختلاف جهة
الانفاق بسبب الحمل قبل الوضع وبعده فقبل الوضع لها النفقة حتى تضعه فإذا
وضعته صارت النفقة بحكم الإجارة ورضاعة الولد وهذه قد يقوم غيرها مقامها
فيه فلا تستحقها لقوله تعالى فإن تعاسرتم فسترضع له أخرى وأما النفقة حال
الحمل فلا يقوم غيرها مقامها فيه بل هي مستمرة حتى تضعه
فجهة الإنفاق مختلفة
وأما الحائل فنفقتها معلومة من نفقة الزوجات فإنها زوجة ما دامت في العدة فلا حاجة إلى بيان وجوب نفقتها
وأما الحامل فلما اختلف جهة النفقة عليها قبل الوضع وبعده ذكر سبحانه
الجهتين والسببين وهذا من أسرار القرآن ومعانيه التي يختص الله بفهمها من
يشاء
وأيضا فلو كان قوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى
يضعن حملهن في البوائن لكان دليلا ظاهرا على أن الحائل البائن لا نفقة لها
لا شتراط الحمل في وجوب الإتفاق والحكم المعلق بالشرط يعدم عند عدمه وأما
آية السكنى فلا يقول أحد إنها مختصة بالبائن لأن السياق يخالفه ويبين أن
الرجعية مرادة منها فإما أن يقال هي مختصة بالرجعية كما يدل عليه سياق
الكلام وتتحد الضمائر ولا تختلف مفسراتها بل يكون مفسر قوله فأمسكوهن هو
مفسر قوله أسكنوهن وعلى هذا فلا حجة في سكنى البائن
وإما أن يقال هي
عامة للبائن والرجعية وعلى هذا فلا يكون حديث فاطمة منافيا للقرآن بل غايته
أن يكون مخصصا لعمومه وتخصيص القرآن بالسنة جائز واقع هذا لو كان قوله
أسكنوهن عاما فكيف ولا يصح فيه العموم لما ذكرناه وقول النبي صلى الله عليه
و سلم لا نفقة لك ولا سكنى وقوله في اللفظ الآخر إنما النفقة والسكنى
للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة رواه الإمام أحمد والنسائي وإسناده
صحيح
وفي لفظ لأحمد إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما
كانت عليها الرجعة فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى وهذا يبطل
كل ما تأولوا به حديث فاطمة فإن هذا فتوى عامة وقضاء عام في حق كل مطلقة
فلو لم يكن لشأن فاطمة ذكر في المبين لكان هذا اللفظ العام مستقلا بالحكم
لا معارض له بوجه من الوجوه
فقد تبين أن القرآن لا يدل على خلاف هذا الحديث بل إنما يدل على موافقته كما قالت فاطمة بينى وبينكم القرآن
ولما ذكر لأحمد قول عمر لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة تبسم أحمد وقال أي
شيء في القرآن خلاف هذا وأما قوله في الحديث وسنة نبينا فإن هذه اللفظة وإن
كان مسلم رواها فقد طعن فيها الأئمة كالإمام أحمد وغيره
قال أبو داود
في كتاب المسائل سمعت أحمد بن حنبل وذكر له قول عمر لا ندع كتاب ربنا وسنة
نبينا لقول امرأة قلت أيصح هذا عن عمر قال لا
وروى هذه الحكاية البيهقي في السنن والآثار عن الحاكم عن ابن بطة عن أبي حامد الأشعري عن أبي داود
وقال الدارقطني هذا اللفظ لا يثبت يعني قوله وسنة نبينا ويحيى بن آدم أحفظ
من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه وقد تابعه قبيصة ابن عقبة فرواه عن عمار بن
رزيق مثل قول يحيى بن آدم سواء والحسن بن عمارة متروك وأشعت بن سوار ضعيف
ورواه الأعمش عن إبراهيم دون قوله وسنة نبينا والأعمش أثبت من أشعت وأحفظ
وقال البيهقي هذه اللفظة أخرجها مسلم في صحيحه
وذهب غيره من الحفاظ
إلى أن قوله وسنة نبينا غسر محفوظة في هذا الحديث فقد رواه يحيى بن آدم
وغيره عن عمار بن رزيق في السكنى دون هذه اللفظة وكذلك رواه الأعمش عن
إبراهيم عن الأسود عن عمر دون قوله وسنة نبينا وإنما ذكره أبو أحمد عن عمار
وأشعث عن الحكم وحماد عن إبراهيم عن الأسود عن عمر والحسن بن عمارة عن
سلمة بن كهيل عن عبد الله بن الخليل الحضرمي عن عمر ثم ذكر كلام الدارقطني
أنها لا تثبت
فقد تبين أنه ليس في السنة ما يعارض حديث فاطمة كما أنه ليس في الكتاب ما يعارضه
وفاطمة امرأة جليلة من فقهاء الصحابة غير متهمة في الرواية
وما يرويه بعض الأصوليين لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري
أصدقت أم كذبت غلط ليس في الحديث وإنما الذي في الحديث حفظت أم نسيت هذا
لفظ مسلم
قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد أنه ذكر عند الشعبي قول عمر
هذا حفظت أم نسيت فقال الشعبي امرأة من قريش ذات عقل ورأي تنسى قضاء به
عليها قال وكان الشعبي يأخذ بقولها
وقال ميمون بن مهران لسعيد بن
المسيب تلك امرأة فتنت الناس لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى
الله عليه و سلم ما فتنت الناس وإن لنا في رسول الله أسوة حسنة
ثم رد
خبرها بأنها امرأة مما لا يقول به أحد وقد أخذ الناس برواية من هو دون
فاطمة وبخبر الفريعة وهي امرأة وبحديث النساء كأزواج النبي صلى الله عليه و
سلم وغيرهن من الصحابيات بل قد احتج العلماء بحديث فاطمة هذا بعينه في
أحكام كثيرة
منها نظر المرأة إلى الرجل ووضعها ثيابها في الخلوة وجواز
الخطبة على خطبة الغير إذا لم تجبه المرأة ولم يسكن إليها جواز نكاح
القرشية لغير القرشي ونصيحة الرجل لمن استشاره في أمر يعيب من استشاره فيه
وأن ذلك ليس بغيبة
ومنها التعريض بخطبة المعتدة البائن بقوله لا تفوتيني بنفسك
ومنها الأرسال بالطلاق في الغيبة
ومنها احتجاج الأكثرين به على سقوط النفقة للمبتوتة التي ليست بحامل
فما بال حديثها محتجا به في هذه الأحكام دون سقوط السكنى فإن حفظته فهو حجة في الجميع وإن لم يكن محفوظا لم يجز أن يحتج به في شيء
والله أعلم
وقال الشافعي في القديم فإن قال قائل فإن عمر بن الخطاب اتهم حديث فاطمة
بنت قيس وقال لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة قلنا لا نعرف أن عمر اتهمها وما
كان في حديثها ما تتهم له ما حدثت إلا بما يجب وهي امرأة من المهاجرين لها
شرف وعقل وفضل ولو رد شيء من حديثها كان إنما يرد منه أنه أمرها بالخروج من
بيت زوجها فلم تذكر هي لم أمرت بذلك وإنما أمرت به لأنها استطالت على
أحمائها فأمرت بالتحول عنهم للشر بينها وبينهم فكأنهم أحبوا لها ذكر السبب
الذي له أخرجت لئلا يذهب ذاهب إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن
تعتد المبتوتة حيث شاءت في غير بيت زوجها
وهذا الذي ذكره الشافعي هو تأويل عائشة بعينه وبه أجابت مروان لما احتج عليها بالحديث كما تقدم
ولكن هذا التأويل مما لا يصح دفع الحديث به من وجوه
أحدها أنه ليس بمذكور في القصة ولا علق عليه الحكم قط لا باللفظ ولا
بالمفهوم وإن كان واقعا فتعليق الحكم به تعليق على وصف لم يعتبره النبي صلى
الله عليه و سلم ولا في لفظه قط ما يدل على إسقاط السكنى به وترك لتعليق
الحكم بالوصف الذي اعتبره وعلق به الحكم وهو عدم ثبوت الرجعة
الثاني أنكم لا تقولون به فإن المرأة ولو استطالت ولو عصت بما عسى أن تعصى به لا يسقط
حقها من السكنى كما لو كانت حاملا بل كان يستكري لها من حقها في مال زوجها وتسكن ناحية
وقد أعاذ الله فاطمة بنت قيس من ظلمها وتعديها إلى هذا الحد كيف والنبي
صلى الله عليه و سلم لم يعنفها بذلك ولا نهاها عنه ولا قال لها إنما أخرجت
من بيتك بظلمك لأحمائك بل قال لها إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان
لزوجها عليها رجعة وهذا هو الوجه الثالث وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم
ذكره لها السبب الذي من أجله سقط حقها من السكنى وهو سقوط حق الزوج من
الرجعة وجعل هذا قضاء عاما لها ولغيرها فكيف يعدل عن هذا الوصف إلى وصف لو
كان واقعا لم يكن له تأثير في الحكم أصلا وقد روى الحميدي في مسنده هذا
الحديث وقال فيه ياابنة قيس إنما لك السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك
الرجعة ورواه الأثرم فأين التعليل بسلاطة اللسان مع هذا البيان ثم لو كان
ذلك صحيحا لما احتاج عمر في رده إلى قوله لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة بل
كان يقول لم يخرجها من السكنى إلا بذاؤها وسلطها ولم يعللها بانفراد المرأة
به وقد كان عمر رضي الله عنه يقف أحيانا في انفراد بعض الصحابة كما طلب من
أبي موسى شاهدا على روايته وغيره
وقد أنكرت فاطمة على من أنكر عليها وردت على من رد عليها وانتصرت لروايتها ومذهبها
رضي الله عنهم أجمعين
وقد قضى النبي صلى الله عليه و سلم في المتلاعنين أن لا يبت لها عليه ولا
قوت ولو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي سقوط النفقة والسكنى لأنها
إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع والبائن قد فقد في حقها ذلك
ولهذا وجبت للرجعية لتمكنه من الاستمتاع بها وأما البائن فلا سبيل فلا سبيل
له إلى الاستماع بها إلا بما يصل به إلى الأجنبية وحبسها لعدته لا يوجب
نفقة كما لو وطئها بشبهة وكالملاعنة والمتوفى عنها زوجها
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله اختلف السلف في وجوب اعتداد
المتوفى عنها في منزلها فأوجبه عمر وعثمان وروي عن ابن مسعود وابن عمر وأم
سلمة وبه يقول الثوري والأوزاعي وإسحاق والأئمة الأربعة
قال ابن عبدالبر وهو قول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر
وروي عن علي وابن عباس وجابر وعائشة تعتد حيث شاءت وقال به جابر بن زيد والحسن وعطاء
ثم اختلف الموجبون لملازمة المنزل فيما إذا جاءها خبر وفاته في غير منزلها
فقال الأكثرون
تعتد في منزلها
وقال إبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها
وحديث الفريعة حجة ظاهرة لا معارض لها
وأما قوله تعالى فإن خرجن فلا جناح عليكم فإنها سنة الاعتداد في منزل
الزوج فالمنسوخ حكم آخر غير الاعتداد في المنزل وهو استحقاقها للسكنى في
بيت الزوج الذي صار للورثة سنة وصية أوصى الله بها الأزواج تقدم به على
الورثة ثم نسخ ذلك بالميراث ولم يبق لها استحقاق في السكنى المذكورة فإن
كان المنزل الذي توفي فيه الزوج لها أو بذل الورثة لها السكنى لزمها
الاعتداد فيه وهذا ليس بمنسوخ فالواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن
فالذي نسخ إنما هو اختصاصها بسكنى السنة دون الورثة والذي أمرت به أن تمكث
في بيتها حتى تنقض عدتها ولا تنافي بين الحكمين
والله أعلم
قال
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذا يدل على أن ابن مسعود يرى نسخ
الآية في البقرة بهذه الآية التي في الطلاق وهي قوله وأولات الأحمال أجلهن
أن يضعن حملهن وهذا على عرف السلف في النسخ فإنهم
يسمون التخصيص
والتقييد نسخا وفي القرآن ما يدل على تقديم آية الطلاق في العمل بها وهو أن
قوله تعالى أجلهن مضاف ومضاف إليه وهو يفيد العموم أي هذا مجموع أجلهن لا
أجل لهن غيره وأما قوله يتربصن بأنفسهن فهو فعل مطلق لا عموم له فإذا عمل
به في غير الحامل كان تقييدا لمطلقة بآية الطلاق فالحديث مطابق للمفهوم من
دلالة القرآن
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث يرويه قبيصة بن ذؤيب عن عمرو
وقال الدارقطني قبيصة لم يسمع من عمرو والصواب لا تلبسوا علينا موقوف يعني لم يذكر فيه سنة نبينا وقال الإمام أحمد هذا حديث منكر
آخر كلامه
وقد رواه سليمان بن موسى عن رجاء بن حيوة عن قبيصة عن عمرو قوله عدة أم الولد عدة الحرة وهذا الذي أشار إليه الدارقطني أنه الصواب
وقال ابن المنذر ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص
وقال محمد بن موسى سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال لا يصح
وقال الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال
أين سنة النبي صلى الله عليه و سلم في هذا وقال أربعة أشهر وعشرا إنما هي
عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية
وقد روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه قال في أم الولد يتوفى عنها سيدها وتعتد بحيضة
واختلف الفقهاء في عدتها فالصحيح أنه حيضة وهو المشهور عن أحمد وقول ابن
عمر وعثمان وعائشة وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم
وعن أحمد رواية أخرى تعتد أربعة أشهر وعشرا وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير
ومجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن عبدالعزيز والزهري والأوزاعي وإسحاق
وعن أحمد رواية ثالثة تعتد شهرين وخمسة أيام حكاها أبو الخطاب وهي رواية
منكرة عنه قال أبو محمد القدسي ولا أظنها صحيحة عنه وروى ذلك عن عطاء وطاوس
وقتادة
وقال أبو حنيفة وأصحابه عدتها ثلاث حيض ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي والثوري
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله اختلف السلف في هذه الآية على أربعة أقوال أحدها أنها ليست بمنسوخة قاله ابن عباس
الثاني أنها منسوخة كما قاله سلمة والجمهور
والثالث أنها مخصوصة خص منها القادر الذي لا عذر له وبقيت متناوله للمرضع والحامل
الرابع أن بعضها منسوخ وبعضها محكم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي معناه أقوال
أحدها لا يجتمع نقصهما معا في سنة واحدة وهذا منصوص الإمام أحمد
والثاني أن هذا خرج على الغالب والغالب أنهما لا يجتمعان في النقص وإن وقع نادرا
والثالث أن المراد بهذا تلك السنة وحدها ذكره جماعة
الرابع أنهما لا ينقصان في الأجر والثواب وإن كان رمضان تسعا وعشرين فهو كامل في الأجر
الخامس أن المراد بهذا تفضيل العمل في عشر ذي الحجة وأنه لا ينقص أجره وثوابه عن ثواب شهر رمضان
وقد اختلف في أيام العشر من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان أيهما أفضل
قال شيخنا وفصل الخطاب أن ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر
ذي الحجة فإن فيها ليلة القدر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في
تلك الليالي ما لا يجتهد في غيرها من الليالي وأيام عشر ذي الحجة أفضل من
أيام العشر الآخر من رمضان لحديث ابن عباس وقول النبي صلى الله عليه و سلم
أعظم الأيام عند الله يوم النحروما جاء في يوم عرفة
السادس أن الناس
كان يكثر اختلافهم في هذين الشهرين لأجل صومهم وحجهم فأعلمهم صلى الله عليه
و سلم أن الشهرين وإن نقصت أعدادهما فحكم عبادتها على التمام والكمال ولما
كان هذان الشهران هما أفضل شهور العام وكان العمل فيهما أحب إلى الله من
سائر الشهور رغب النبي صلى الله عليه و سلم في العمل وأخبر أنه لا ينقص
ثوابه وإن نقص الشهران
والله أعلم
قالوا ويشهد لهذا التفسير ما
رواه الطبراني في معجمه من حديث عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه يرفعه كل شهر
حرام لا ينقص ثلاثين يوما وثلاثين ليلة ورجال إسناده ثقات
وهذا لا يمكن حمله إلا على الثواب أي للعامل فيها ثواب ثلاثين يوما وليلة وإن نقص عدده
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأما حديث أبي داود فقال يحيى بن معين محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة
قال الترمذي وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس
وقال الخطابي في معنى الحديث إن الخطأ مرفوع عن الناس فيما كان سبيله
الاجتهاد فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا
حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم
وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عنت وكذلك في الحج إذا أخطأوا يوم عرفة
ليس عليهم إعادة
وقال غيره في الإشارة إلى أن يوم الشك لا يصام احتياطا وإنما يصام يوم يصوم الناس
وقيل فيه الرد على من يقول إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم ويفطر دون من يعلم
وقيل إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أنه لا يكون هذا له صوما كما لم يكن للناس
هذا آخر كلامه
وفيه دليل على أن المنفرد بالرؤية لا يلزمه حكمها لا في الصوم ولا في الفطر ولا في التعريف
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث وصله صحيح فإن الذين وصلوه أوثق وأكثر من الذين أرسلوه والذي أرسله هو الحجاج بن أرطاة عن منصور وقول النسائي لا أعلم أحدا قال في هذا الحديث عن حذيفة غير
جرير
إنما عنى تسمية الصحابي وإلا فقد رواه الثوري وغيره عن ربعي عن بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه و سلم وهذا موصول ولا يضره عدم تسمية الصحابي ولا يعلل
بذلك
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ولفظ النسائي فيه صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ولا تستقبلوا
الشهر استقبالا وفي لفظ للنسائي أيضا فأكملوا العدة عدة شعبان رواه من
حديث أبي يونس عن سماك عن عكرمة عنه قال الدارقطني ولم يقل في حديث ابن
عباس فأكملوا عدة شعبان غير آدم
قال حدثنا شعبة حدثني عمرو بن مرة قال
سمعت أبا البختري الطائي يقول أهل هلال رمضان ونحن بذات الشقوق فشككنا في
الهلال فبعثنا رجلا إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس
إن الله أمده لرؤيته
فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين قال الدارقطني صحيح عن شعبة ورواه
حصين وأبو خالد الدالاني عن عمرو بن مرة ولم يقل فيه عدة شعبان غير آدم وهو
ثقة
قال الشيخ شمس الدين حديث أبي هريرة هذا قد روي في الصحيح بثلاثة
ألفاظ أحدها هذا اللفظ الثاني صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فأكملوا العدة وفي رواية فعدوا ثلاثين اللفظ الثالث فإن غم عليكم فأكملوا
عدة شعبان ثلاثين
وهذا اللفظ الأخير للبخاري وحده وقد علل بعلتين أحداهما أنه من رواية محمد بن زياد عنه وقد خالفه فيه سعيد بن الميسب فقال فيه
فصوموا ثلاثين
قالوا وروايته أولى لإمامته واشتهار عدالته وثقته ولاختصاصه بأبي هريرة
وصهره منه ولموافقة روايته لرأي أبي هريرة ومذهبه فإن مذهب أبي هريرة وعمر
بن الخطاب وابنه عبد الله وعمرو بن العاص وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء صيام
يوم الغيم
قالوا فكيف يكون عند أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه و
سلم فأكملوا عدة شعبان ثم يخالفه العلة الثانية ما ذكر الإسماعيلي قال وقد
روينا هذا الحديث عن غندر وابن مهدي وابن علية وعيسى بن يونس وشبابة وعاصم
بن علي والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي داود كلهم عن شعبة لم يذكر أحد
منهم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين فيجوز أن يكون آدم قال ذلك من عنده على وجه
التفسير للخبر وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين من رواه عنه وجه
هذا آخر كلامه
وقد رواه الدارقطني فقال فيه فعدوا ثلاثين يعني عدوا شعبان ثلاثين ثم قال أخرجه البخاري عن
آدم فقال فيه فعدوا شعبان ثلاثين ولم يقل يعني وهذا يدل على أن قوله يعني
من بعض الرواة والظاهر أنه آدم وأنه قوله وقد تقدم حديث ابن عباس في ذلك
وتفرد آدم أيضا فيه بقوله فأكملو عدة شعبان ثلاثين وسائر الرواة إنما قالوا
فأكملوا العدة كما رواه حماد بن سلمة عن عمرو ابن دينار عن ابن عباس
وسفيان عن عمرو عن محمد بن حنين عن ابن عباس وحاتم بن أبي صغيرة عن سماك عن
عكرمة عن ابن عباس وأبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس وحصين عن
عمرو بن مرة عن أبي البختري وأبو خالد الدالاني عن عمرو عن أبي البختري
كلهم قال في حديثه فأكملوا العدة ومنهم من قال فأكملوا ثلاثين وقال آدم من
بينهم عدة شعبان فهذه الزيادة من آدم في حديث ابن عباس كهي في حديث أبي
هريرة وسائر الرواة على خلافه فيه
قال بعض الحفاظ وهذا يدل على أن هذا تفسير منه في الحديثين
ومدار هذا الباب على حديث ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وحذيفة
ورافع بن خديج وطلق بن علي وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر فهذه عشرة
أحاديث فأما حديث ابن عباس وأبي هريرة فقد ذكرناهما
وأما حديث ابن عمر وعائشة وحذيفة فقد تقدمت
وأما حديث رافع بن خديج فرواه الدارقطني من حديث الزهري عن حنظلة بن علي
الأسلمي عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحصوا عدة
شعبان لرمضان ولا تقدموا الشهر بصوم فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه
فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما ثم أفطروا
فإن الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة وفيه الواقدي وهو وإن كان ضعيفا فليس العمدة على مجرد حديثه
وأما حديث طلق فرواه الدارقطني أيضا من حديث أبي يونس عن محمد بن جابر عن
قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل الله الأهلة
مواقيت للناس فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم
فأتموا العدة ثلاثين قال محمد بن جابر سمعت هذا منه وحديثين آخرين
ومحمد بن جابر وإن كان ليس بالقوي فالعمدة على ما تقدم
وأما حديث سعد فرواه النسائي عن محمد بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الشهر هكذا
وهكذا وهكذا يعني تسعة وعشرين وفي رواية ثم قبض في الثالثة الإبهام في اليسرى
وأما حديث عمار بن ياسر فسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد أشكل هذا على الناس فحمله
طائفة على الاحتياط لدخول رمضان قالوا وسرر الشهر وسراره بكسر السين وفتحها
ثلاث لغات وهو آخره وقت استسرار هلاله فأمره إذا أفطر أن يصوم يوما أو
يومين عوض ما فاته من صيام سرره احتياطا
وقالت طائفة منهم الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز سرره أوله وسراره أيضا فأخبره أنه لم يصم من أوله فأمره بقضاء ما أفطر منه
ذكره أبو داود عن الأوزاعي وسعيد
وأنكر جماعة هذا التفسير فرأوه غلطا قالوا فإن سرار الشهر آخره سمي بذلك لاستسرار القمر فيه
وقالت طائفة سرره هنا وسطه وسر كل شيء جوفه وقال البيهقي فعلى هذا أراد أيام البيض
هذا آخر كلامه
ورجح هذا بأن في بعض الروايات فيه أصمت من سره هذا الشهر وسرته وسطه كسرة الآدمي
وقالت طائفة هذا على سبيل استفهام الإنكار والمقصود منه الزجر
قال ابن حبان في صحيحه وقوله صلى الله عليه و سلم أصمت من سرر هذا الشهر
لفظة استخبار عن فعل مرادها الإعلام بنفي جواز استعمال ذلك الفعل منه
كالمنكر عليه لو فعله وهذا كقوله لعائشة أتسترين الجدار وأراد به الإنكار
عليها بلفظ الاستخبار
وأمره صلى الله عليه و سلم بصوم يومين من شوال
أراد به انتهاء السرار وذلك أن الشهر إذا كان تسعا وعشرين يستسر القمر يوما
واحدا وإذا كان الشهر ثلاثين يستسر القمر يومين والوقت الذي خاطب فيه
النبي صلى الله عليه و سلم هذا الخطاب يشبه أن يكون عدد شعبان كان ثلاثين
فمن أجله أمر بصوم يومين من شوال
آخر كلامه
وقالت طائفة لعل صوم سرر هذا الشهر كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذر فأمره بالوفاء
وقالت طائفة لعل ذلك الرجل كان قد اعتاد صيام آخر الشهر فترك آخر شعبان لظنه أن صومه
يكون استقبالا لرمضان فيكون منهيا عنه فاستحب له النبي صلى الله عليه و
سلم أن يقضيه ورجح هذا بقوله إلا صوم كان يصومه أحدكم فليصمه والنهي عن
التقدم لمن لا عادة له
فيتفق الحديثان
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وذكر جماعة أنه موقوف ونظير هذا قول أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله والحكم على الحديث بأنه مرفوع بمجرد هذا اللفظ لا يصح وإنما هو لفظ الصحابي قطعا ولعله فهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين أن صيام يوم الشك تقدم فهو معصية كما فهم أبو هريرة من قوله صلى الله عليه و سلم إذا دعا أحدكم أخاه فليجبه أن ترك الإجابة معصية لله ورسوله ولا يجوز أن يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لم يقله والصحابي إنما يقول ذلك استنادا منه إلى دليل فهم
منه أن مخالفة مقتضاه معصية ولعله لو ذكر ذلك الدليل لكان له محمل غير ما ظنه فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في كثير من وجوه دلالة النصوص
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله الذين ردوا هذا الحديث لهم مأخذان أحدهما أنه لم يتابع العلاء عليه أحد بل انفرد به عن الناس وكيف لا يكون هذا معروفا عند
أصحاب أبي هريرة مع
أنه أمر تعم به البلوى ويتصل به العمل والمأخذ الثاني أنهم ظنوه معارضا
لحديث عائشة وأم سلمة في صيام النبي صلى الله عليه و سلم شعبان كله أو
قليلا منه وقوله إلا أن يكون لأحدكم صوم فليصمه وسؤاله للرجل عن صومه سرر
شعبان
قالوا وهذه الأحاديث أصح منه
وربما ظن بعضهم أن هذا الحديث لم يسمعه العلاء من أبيه
وأما المصححون له فأجابوا عن هذا بأنه ليس فيه ما يقدح في صحته وهو حديث
على شرط مسلم فإن مسلما أخرج في صحيحه عدة أحاديث عن العلاء عن أبيه عن أبي
هريرة وتفرده به تفرد ثقة بحديث مستقل وله عدة نظائر في الصحيح
قالوا والتفرد الذي يعلل به هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه أو رفع ما وقفوه أو زيادة لفظة لم يذكروها
وأما الثقة العدل إذا روى حديثا وتفرد به لم يكن تفرده علة فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه و سلم عملت بها الأمة
قالوا وأما ظن معارضته بالأحاديث الدالة على صيام شعبان فلا معارضة بينهما
وإن تلك الأحاديث تدل على صوم نصفه مع ما قبله وعلى الصوم المعتاد في
النصف الثاني وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا لعادة
ولا مضافا إلى ما قبله ويشهد له حديث التقدم
وأما كون العلاء لم يسمعه من أبيه فهذا لم نعلم أن أحدا علل به الحديث فإن العلاء قد ثبت سماعه من أبيه
وفي صحيح مسلم عن العلاء عن أبيه بالعنعنة غير حديث
وقد قال 1
لقيت العلاء بن عبدالرحمن وهو يطوف فقلت له برب هذا البيت حدثك أبوك عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا انتصف شعبان فلا
تصوموا فقال ورب هذا البيت سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه و سلم فذكره
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى
البيهقي في سننه من حديث محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة
بنت حسين أن رجلا شهد عند علي على رؤية هلال شهر رمضان فصام وأحسبه قال
وأمر الناس أن يصوموا وقال لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما
من رمضان
وفي سنن الدارقطني من حديث أبي إسماعيل حفص بن عمر الأيلي
عن مسعر بن كدام وأبي عوانة عن عبدالملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عمر وابن
عباس قالا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية
هلال شهر رمضان وقالا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجيز شهادة
الإفطار إلا برجلين
وأبو إسماعيل هذا ضعيف جدا وأبو حاتم يرميه بالكذب
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث أعله ابن القطان بأنه مشكوك في اتصاله قال لأن أبا داود قال أنبأنا عبد
الأعلى بن حماد أظنه عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة فذكره وقد روى
النسائي عن زر قال قلنا لحذيفة أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه و
سلم قال هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع
وقد اختلف في هذه المسألة
فروى إسحاق بن راهويه عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول لولا الشهرة لصليت
الغداة ثم تسحرت ثم ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق وعلي وحذيفة نحو هذا ثم
قال وهؤلاء لم يروا فرقا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة
هذا آخر كلام إسحاق
وقد حكي ذلك عن ابن مسعود أيضا
وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر وهو قول الأئمة الأربعة وعامة فقهاء الأمصار وروى معناه عن عمر وابن عباس
واحتج الأولون بقول النبي صلى الله عليه و سلم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن
أم مكتوم ولم يكن يؤذن إلا بعد طلوع الفجر كذا في البخاري وفي بعض
الروايات وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت
قالوا وإن النهار إنما هو من طلوع الشمس
واحتج الجمهور بقوله تعالى وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ويقول النبي صلى الله عليه و سلم كلوا واشربوا حتى
يؤذن ابن أم مكتوم وبقوله الفجر فجران فأما الأول فإنه لا يحرم الطعام ولا
يحل الصلاة وأما الثاني فإنه يحرم الطعام ويحل الصلاة رواه البيهقي في سننه
قالوا وأما حديث حذيفة فمعلول وعلته الوقف وأن زرا هو الذي تسحر مع حذيفة ذكره النسائي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله واختلف الناس هل يجب القضاء في
هذه الصورة فقال الأكثرون يجب وذهب إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر إلى أنه لا
قضاء عليهم وحكمهم حكم من أكل ناسيا وحكي ذلك عن الحسن ومجاهد واختلف فيه
على عمر فروى زيد بن وهب قال كنت جالسا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و
سلم في رمضان في زمن عمر فأتينا بكأس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا ونحن
نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال فجعل الناس يقولون
نقضي يوما مكانه فسمع بذلك عمر فقال والله لا نقضيه وما تجانفا لإثم رواه
البيهقي وغيره
وقد روى مالك في الموطأ عن زيد بن
أسلم أن عمر
بن الخطاب أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم ورأى أنه قد أمسى وغابت
الشمس فجاءه رجل فقال له ياأمير المؤمنين قد طلعت الشمس فقال عمر الخطب
يسير وقد اجتهدنا قال مالك يريد بقوله الخطب يسير القضاء فيما نرى
والله أعلم
وكذلك قال الشافعي وهذا لا يناقض الأثر المتقدم
وقوله وقد اجتهدنا مؤذن بعدم القضاء
وقوله الخطب يسير إنما هو تهوين لما فعلوه وتيسير لأمره
ولكن قد رواه الأثرم والبيهقي عن عمر وفيه من كان أفطر فليصم يوما مكانه
وقدم البيهقي هذه الرواية على رواية زيد بن وهب وجعلها خطأ وقال تظاهرت
الروايات بالقضاء قال وكان يعقوب بن سفيان الفارسي يحمل على زيد بن وهب
بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة قال وزيد ثقة إلا أن الخطأ عليه
غير مأمون
وفيما قاله نظر فإن الرواية لم تتظاهر عن عمر بالقضاء وإنما
جاءت من رواية علي بن حنظلة عن أبيه وكان أبوه صديقا لعمر فذكر القصة وقال
فيها من كان أفطر فليصم يوما مكانه
وقدم البيهقي هذه الرواية على
رواية زيد بن وهب وجعلها خطأ وقال تظاهرت الروايات بالقضاء قال وكان يعقوب
بن سفيان الفارسي يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات
المتقدمة قال وزيد ثقة إلا أن الخطأ عليه غير مأمون وفيما قاله نظر فإن
الرواية لم تتظاهر عن عمر بالقضاء وإنما جاءت من رواية علي بن حنظلة عن
أبيه وكان أبوه صديقا لعمر فذكر القصة وقال فيها من كان أفطر فليصم يوما
مكانه ولم أر الأمر بالقضاء صريحا إلا في هذه الرواية وأما رواية مالك فليس
فيها ذكر للقضاء ولا لعدمه فتعارضت رواية حنظلة ورواية زيد بن وهب وتفضلها
رواية زيد بن وهب بقدر ما بين حنظلة وبينه من الفضل وقد روى البيهقي
بإسناد فيها نظر عن صهيب أنه أمر أصحابه بالقضاء في قصة جرت لهم مثل هذه
فلو قدر تعارض الآثار عن عمر لكان القياس يقتضي سقوط القضاء ولأن الجهل
ببقاء اليوم كنسيان نفس الصوم ولو أكل ناسيا لصومه لم يجب عليه قضاؤه
والشريعة لم تفرق بين الجاهل والناسي فإن كل واحد منهما قد فعل ما يعتقد
جوازه وأخطأ في فعله وقد استويا في أكثر الأحكام وفي رفع الآثام فما الموجب
للفرق بينهما في في هذا الموضع وقد جعل أصحاب الشافعي وغيرهم الجاهل
المخطىء أولى بالعذر من الناسي في مواضع متعددة وقد يقال إنه في صورة الصوم
أعذر منه فإنه مأمور بتعجيل الفطر استحبابا فقد بادر إلى أداء ما
أمر به واستحبه له الشارع فكيف يفسد صومه وفساد صوم الناسي أولى منه لأن فعله غير مأذون له فيه بل غايته أنه عفو فهو دون المخطىء الجاهل في العذر وبالجملة فلم يفرق بينهما في الحج ولا في مفسدات الصلاة كحمل النجاسة وغير ذلك وما قيل من الفرق بينهما بأن الناسي غير مكلف والجاهل مكلف إن أريد به التكليف بالقضاء فغير صحيح لأن هذا هو المتنازع فيه وإن أريد أن فعل ناسي لا ينتهض سببا للإثم ولا يتناوله الخطاب الشرعي فكذلك فعل المخطىء وإن أريد أن المخطىء ذاكر لصومه مقدم على قطعه ففعله داخل تحت التكليف لخلاف الناسي فلا يصح أيضا لأنه يعتقد خروج زمن الصوم وأنه مأمور بالفطر فهو مقدم على فعل ما يعقده جائزا وخطؤه في بقاء اليوم كنسيان الآكل في اليوم فالفعلان سواء فكيف يتعلق التكليف بأحدهما دون الآخر وأجود ما فرق به بين المسألتين أن المخطىء كان متمكنا من إتمام صومه بأن يؤخر الفطر حتى يتيقن الغروب بخلاف الناسي فإنه لا يضاف إليه الفعل ولم يكن يمكنه الاحتراز وهذا وإن كان فرقا في الظاهر فهو غير مؤثر في وجوب القضاء كما لم يؤثر في الإثم اتفاقا ولو كان منسوبا إلى تفريط للحقه الإثم فلما اتفقوا على أن الإثم موضوع عنه دل على أن فعله غير منسوب فيه إلى تفريط لا سيما وهو مأمور بالمبادرة إلى الفطر والسبب الذي دعاه إلى الفطر غير منسوب إليه في الصورتين وهو النسيان في مسألة الناسي وظهور الظلمة وخفاء النهار في صورة المخطىء فهذا أطعمه الله وسقاه بالنسيان وهذا أطعممه الله وسقاه بإخفاء النهار ولهذا قال صهيب هي طعمة الله ولكن هذا أولى فإنها طعمة الله إذنا وإباحة وإطعام الناسي طعمته عفوا ورفع حرج فهذا مقتضى الدليل
قال الحافظ شمس الدين بن
القيم رحمه الله وقد روى ابن ماجه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال من خير خصال الصائم السواك قال البخاري وقال ابن عمر يستاك أول
النهار وآخره وقال زياد بن حدير ما رأيت أحدا أدأب سواكا وهو صائم من عمر
رضي الله عنه أراه قال بعود قد ذوي رواه البيهقي
ولو احتج عليه بعموم
قوله صلى الله عليه و سلم لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة لكانت حجة وبقوله
صلى الله عليه و سلم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب وسائر الأحاديث المرغبة
في السواك من غير تفصيل
ولم يجيء في منع الصائم منه حديث صحيح
قال البيهقي وقد روى عن علي بإسناد ضعيف إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا
تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورا بين
عينيه يوم القيامة وروى عمرو بن قيس عن عطاء عن أبي هريرة قال لك السواك
إلى العصر فإذا صليت العصر فألقه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول لخلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وهذا لو صح عن أبي
هريرة فالثابت عن عمر وابن عمر يخالفه والذين يكرهونه يخالفونه أيضا فإنهم يكرهونه من بعد الزوال وأكثر أهل العلم لا يكرهونه
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ولفظ النسائي فيه عن شداد بن أوس
قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه و سلم عام فتح مكة لثمان عشرة أو سبع
عشرة مضت من رمضان
فمر برجل يحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم قال
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أفطر الحاج
والمحجوم ورواه أحمد في مسنده وروى أحمد أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله
عليه و سلم أفطر الحاجم والمحجوم وروى أحمد أيضا عن أسامة بن زيد عن
النبي صلى الله عليه و سلم أفطر الحاجم والمحجوم وروى الحسن عن علي عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال أفطر الحاجم والمحجوم رواه النسائي وعن أبي
موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال فطر الحاجم والمحجوم رواه النسائي
وأعله بالوقف وعن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال مر على رسول الله صلى الله
عليه و سلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال أفطر الحاجم
والمحجوم رواه أحمد والنسائي عن الحسن بن معقل
ورواه النسائي أيضا عن
الحسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال أفطر الحاجم
والمحجوم رواه النسائي وعن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم أفطر الحاجم والمحجوم رواه النسائي
قال المنذري قال أحمد أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم ولا نكاح إلا بولي يشد بعضها بعضا وأنا أذهب إليها
قال ابن القيم وقال أبو زرعة حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعا أفطر الحاجم والمحجوم حديث حسن ذكره الترمذي عنه
وقال علي بن المديني أيضا في رواية عنه لا أعلم في أفطر الحاجم حديثا أصح
من حديث رافع بن خديج وقال في حديث شداد لا أرى الحديثين إلا صحيحين وقد
يمكن أن يكون أبو أسماء سمعه منهما
وقال عثمان بن سعيد الدارمي صح
عندي حديث أفطر الحاجم والمحجوم من حديث ثوبان وشداد بن أوس وأقول به وسمعت
أحمد بن حنبل يقول به وذكر أنه صح عنده حديث ثوبان وشداد
وقال إبراهيم الحربي في حديث شداد هذا إسناد صحيح تقوم به الحجة قال وهذا الحديث صحيح بأسانيد وبه نقول
وعن قتادة عن شهر عن بلال قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أفطر الحاجم والمحجوم رواه النسائي
وقال الترمذي في كتاب العلل سألت البخاري فقال ليس في هذا الباب شيء أصح
من حديث شداد بن أوس فقلت وما فيه من الاضطراب فقال كلاهما عندي صحيح لأن
يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان وعن أبي الأشعث عن
شداد الحديثين جميعا
فقد حكم البخاري بصحة حديث ثوبان وشداد
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وروى الدارقطني في سننه عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي فقال أفطر هذان ثم رخص النبي بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم قال الدارقطني كلهم ثقات ولا أعلم له علة
وعن ابن سعيد الخدري قال رخص رسول الله في القبلة للصائم ورخص في الحجامة رواه النسائي
فذهب إلى هذه الأحاديث جماعة من العلماء ويروى ذلك عن سعيد بن أبي وقاص
وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر والحسين بن علي وزيد بن أرقم وعائشة
وأم سلمة وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وهو مذهب عروة بن الزبير وسعيد بن
جبير وغيرهما وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة
وذهب إلى أحاديث الفطر بها جماعة منهم علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري
وروى المعتمر عن أبيه عن الحسن عن غير واحد من أصحاب النبي قالوا أفطر الحاجم والمحجوم ذكره النسائي
وأما أبو هريرة فروى عنه أبو صالح أفطر الحاجم والمحجوم ذكره النسائي
وروى عنه شقيق بن ثور عن أبيه أنه قال لو أحتجم ما بالبيت
ذكره عبدالرزاق والنسائي أيضا
وأما عائشة فروى عطاء وعياض بن عروة عنها أفطر الحاجم والمحجوم ذكره النسائي
وقال البيهقي رويت الرخصة عنها
وذهب إلى الفطر من التابعين عطاء بن أبي رباح والحسن وابن سيرين وذهب إلى
ذلك عبدالرحمن بن مهدي والأوزاعي والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وأبو بكر
بن المنذر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة
وأجاب المرخصون عن أحاديث الفطر بأجوبة أحدهما القدح فيها تعليلها
الثاني دعوى النسخ فيها
الثالث أن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة بل لأجل الغيبة وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف لا للتعليل
الرابع تأويلها على معنى أنه قد تعرض لأن يفطر لما يلحقه من الضعف في أفطر بمعنى يفطر
الخامس أنه على حقيقته وأنهما قد أفطرا حقيقة ومرور النبي بهما كان مساء
في وقت الفطر فأخبر أنهما قد افطرا ودخلا في وقت الفطر يعني فليصنعا ما
أحبا
السادس أن هذا تغليظ ودعاء عليهما لا انه خبر عن حكم شرعي بفطرهما
السابع ان إفطارهما بمعنى إبطال ثواب صومهما كما جاء خمس يفطرون الصائم
الكذب والغيبة والنميمة والنظرة السوء واليمين الكاذبة وكما جاء الحدث
حدثان حدث اللسان وهو أشدهما
الثامن أنه لو قدر تعارض الأخبار جملة
لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لتأيدها بالقياس وشواهد أصول الشريعة لها
إذا الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه كالفصاد
والتشريط ونحوه
قال المفطرون ليس في هذه الأجوبة شيء يصح
أما جواب المعللين فباطل وإن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها كما تقدم
والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده وإما ضعيف فهو يصلح للشواهد
والمتابعات وليس العمدة عليه وممن صحح ذلك أحمد وإسحاق وعلي بن المديني
وإبراهيم الحربي وعثمان بن سعيد الدارمي والبخاري وابن المنذر وكل من له
علم بالحديث يشهد بأن هذا الأصل محفوظ عن النبي لتعدد طرقه وثقة رواته
واشتهارهم بالعدالة
قالوا والعجب ممن يذهب إلى أحاديث الجهر بالبسملة
وهي دون هذه الأحاديث في الشهرة والصحة ويترك هذه الأحاديث وكذلك أحاديث
الفطر بالقيء مع ضعفها وقلتها وأين تقع من أحاديث الفطر بالحجامة وكذلك
أحاديث الإتمام في السفر وأحاديث أقل الحيض وأكثره وأحاديث تقدير المهر
بعشرة دراهم وأحاديث الوضوء بنبيذ التمر وأحاديث الشهادة في النكاح وأحاديث
التيمم
ضربتان وأحاديث المنع من فسخ الحج إلى التمتع وأحاديث
تحريم القراءة على الجنب والحائض وأحاديث تقدير الماء الذي يحمل النجاسة
بالقلتين
قالوا وأحاديث الفطر بالحجامة أقوى وأشهر وأعرف من هذا بل ليست دون أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر
وأما قول بعض أهل الحديث لايصح في الفطر بالحجامة حديث فمجازفة باطلة
أنكرها أئمة الحديث كالإمام أحمد لما حكى له قول ابن معين أنكره عليه
ثم في هذه الحكاية عنه
أنه لا يصح في مس الذكر حديث ولا في النكاح بلا ولي ولم يلتفت القائلون بذلك إلى قوله
وأما تطرق التعليل إليها فمن نظر في عللها واختلاف طرقها أفاده ذلك علما
لا يشك فيه بأن الحديث محفوظ وعلى قول جمهور الفقهاء والأصوليين لا يلتفت
إلى شيء من تلك العلل وانها ما بين تعليل بوقف بعض الرواة
وقد رفعها آخرون أو إرسالها وقد وصلها آخرون وهم ثقات والزيادة من الثقة مقبولة
قالوا فعلى قول منازعينا هذه العلل باطلة لا يلتفت إلى شيء منها
وقد ذكرت عللها والأجوبة عنه في مصنف مفرد في المسألة
قالوا وأما دعوى النسخ فلا سبيل إلى صحتها
ونحن نذكر ما احتجوا به على النسخ
ثم نبين ما فيه
قالوا قد صح عن ابن عباس أن النبي احتجم وهو صائم محرم قال الشافعي
وسماع ابن عباس من النبي عام الفتح ولم يكن يومئذ محرما ولم يصحبه محرما قبل حجة الإسلام
فذكر ابن عباس حجامة النبي عام حجة الإسلام سنة عشر وحديث أفطر الحاجم والمحجوم سنة ثمان فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ
قالوا ويدل على النسخ حديث أنس في قصة جعفر وقد تقدم
قالوا ويدل عليه حديث أبي سعيد في الرخصة فيها والرخصة لا تكون إلا بعد تقدم المنع
قال المفطرون الثابت أن النبي احتجم وهو محرم وأما قوله وهو صائم فإن
الإمام أحمد قال لا تصح هذه اللفطة وبين أنها وهم ووافقه غيره على ذلك
وقالوا الصواب احتجم وهو محرم وممن ذكر ذلك عنه الحلال في كتاب العلل
وقد روى هذا الحديث على أربعة أوجه أحدها احتجم وهو محرم فقط
وهذا في الصحيحين
الثاني احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم
انفرد به البخاري
الثالث احتجم وهو محرم صائم ذكره الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه
الرابع احتجم وهو صائم فقط
ذكره أبو داود
وأما حديث احتجم وهو صائم فهو مختصر من حديث ابن عباس في البخاري احتجم رسول الله وهو محرم واحتجم وهو صائم
وأما حديث احتجم وهو محرم صائم فهذا هو الذي تمسك به من ادعى النسخ
وأما لفظ احتجم وهو صائم فلا يدل على النسخ
ولا تصح المعارضة به لوجوه أحدها أنه لا يعلم تاريخه ودعوى النسخ لا تثبت بمجرد الاحتمال
الثاني أنه ليس فيه أن الصوم كان فرضا
ولعله كان صوم نفل خرج منه
الثالث حتى لو ثبت أنه صوم فرض فالظاهر أن الحجامة إنما تكون للعذر ويجوز الخروج من صوم الفرض بعذر المرض
والواقعة حكاية فعل لا عموم لها
ولا يقال قوله وهو صائم جملة حال مقارنة للعامل فيها
فدل على مقارنة الصوم للحجامة لأن الراوي لم يذكر أن النبي قال إني باق
على صومي وإنما رآه يحتجم وهو صائم فأخبره بما شاهده ورآه ولا علم له بنية
النبي ولا بما فعل بعد الحجامة مع أن قوله وهو صائم حال من الشروع في
الحجامة وابتدائها فكان ابتداؤها مع الصوم وكأنه قال احتجم في اليوم الذي
كان صائما فيه ولا يدل ذلك على استمرار الصوم أصلا
ولهذا نظائر منها
حديث الذي وقع على امرأته وهو صائم وقوله في الصحيحين وقعت على امرأتي وأنا
صائم والفقهاء وغيرهم يقولون وإن جامع وهو محرم وإن جامع وهو صائم
ولا يكون ذلك فاسدا من الكلام فلا تعطل نصوص الفطر بالحجامة بهذا اللفظ المحتمل
وأما قوله احتجم وهو محرم صائم فلو ثبت هذه اللفظة لم يكن فيها حجة لما
ذكرناه ولا دليل فيها أيضا على أن ذلك كان بعد قوله أفطر الحاجم والمحجوم
فإن هذا القول منه كان في رمضان سنة ثمان من الهجرة عام الفتح كماجاء في
حديث شداد والنبي أحرم بعمرة الحديبية سنة ست وأحرم من العام القابل بعمرة
القضية وكلا العمرتين قبل ذلك ثم دخل مكة عام الفتح ولم يكن محرما ثم حج
حجة الوداع فاحتجامه وهو صائم محرم لم يبين في أي إحراماته كان وإنما تمكن
دعوى النسخ إذا كان ذلك قد وقع في حجة الوداع أو في عمرة الجعرانة حتى
يتأخر ذلك عن عام الفتح قال فيه أفطر الحاجم والمحجوم ولا سبيل إلى بيان
ذلك
وأما رواية ابن عباس له وهو ممن صحب النبي بعد الفتح فلا نثير ظنا فضلا عن النسخ
به فإن ابن عباس لم يقل شهدت رسول الله ولا رأيته فعل ذلك وإنما روى ذلك
رواية مطلقة ومن المعلوم أن أكثر روايات ابن عباس إنما أخذها من الصحابة
والذي فيه سماعه من النبي لا يبلغ عشرين قصة كما قاله غير واحد من الحفاظ
فمن أين لكم أن ابن عباس لم يرو هذا عن صحابي آخر كأكثر رواياته وقد روى
ابن عباس أحاديث كثيرة مقطوع بأنه لم يسمعها من النبي ولا شهدها ونحن نقول
إنها حجة لكن لا نثبت بذلك تأخرها ونسخها لغيرها ما لم يعلم التاريخ
وبالجملة فدعوى النسخ إنما تثبت بشرطين أحدهما تعارض المفسر والثاني العلم بتأخر أحدهما
وقد تبين أنه لا سبيل إلى واحد منهما في مسألتنا بل من المقطوع به أن هذه
القصة لم تكن في رمضان فإن لم يحرم في رمضان فإن عمره كلها كانت في ذي
القعدة وفتح مكة كان في رمضان ولم يكن محرما فغايتها في صوم تطوع في السفر
وقد كان آخر الأمرين من رسول الله الفطر في السفر ولما خرج من المدينة عام
الفتح صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر والناس ينظرون إليه ثم لم يحفظ عنه أنه
صام بعد هذا في سفر قط ولما شك الصحابة في صيامه يوم عرفة أرسلوا أم الفضل
إليه بقدح فشربه فلعموا أنه لم يكن صائما فقصة الاحتجام وهو صائم محرم إما
غلط كما قال الإمام أحمد وغيره وإما قبل الفتح قطعا وعلى التقديرين فلا
يعارض بها قوله عام الفتح أفطر الحاجم والمحجوم
وعلى هذا فحديث ابن عباس إما يدل على أن الحجامة لا تفطر أو لا يدل
فإن لم يدل لم يصلح للنسخ
وإن دل فهو منسوخ بما ذكرنا من حديث شداد فإنه مؤرخ بعام الفتح فهو متأخر عن إحرام النبي صائما وتقريره ما تقدم
وهذا القلب في دعوى كونه منسوخا أظهر من ثبوت النسخ به
وعياذا بالله من شر مقلد عصبي يرى العلم جهلا والإنصاف ظلما وترجيح الراجح على المرجوح عدوانا
وهذا المضايق لا يصيب السالك فيها إلا من صدقت في العلم نيته وعلت همته
وأما من أخلد إلى أرض التقليد واستوعر طريق الترجيح فيقال له ما هذا عشك فادرجي
قالوا وأما حديث أنس في قصة جعفر فجوابنا عنه من وجوه أحدها أنه من رواية
خالد بن مخلد عن ابن المثنى قال الإمام أحمد خالد بن مخلد له مناكير
قالوا ومما يدل على أن هذا الحديث من مناكيره أنه لم يروه أحد من أهل الكتب
المعتمدة لا أصحاب الصحيح ولا أحد من أهل السنن مع شهرة إسناده وكونه في
الظاهر على شرط البخاري ولا احتج به الشافعي مع حاجته إلى إثبات النسخ حتى
سلك ذلك المسلك في حديث ابن عباس فلو كان هذا صحيحا لكان أظهر دلالة وأبين
في حصول النسخ
قالوا وأيضا فجعفر إنما قدم من الحبشة عام خيبر أو
آخر سنة ست وأول سنة سبع وقيل عام مؤتة قبل الفتح ولم يشهد الفتح فصام مع
النبي رمضانا واحدا سنة سبع وقول النبي أفطر الحاجم والمحجوم بعد ذلك في
الفتح سنة ثمان فإن كان حديث أنس محفوظا فليس فيه أن الترخيص وقع بعد عام
الفتح وإنما فيه أن الترخيص وقع بعد قصة جعفر وعلى هذا فقد وقع الشك في
الترخيص وقوله في الفتح أفطر الحاجم والمحجوم أيهما هو المتأخر ولو كان
حديث أنس قد ذكر فيه الترخيص بعد الفتح لكان حجة ومع وقوع الشك في التاريخ
لا يثبت النسخ
قالوا وأيضا فالذي يبين أن هذا لا يصح عن أنس ما رواه
البخاري في صحيحه عن ثابت قال سئل أنس أكنتم تكرهون الجحامة للصائم قال لا
إلا من أجل الضعف وفي رواية على عهد النبي فهذا يدل على أن أنسا لم تكن
عنده رواية عن النبي أنه فطر بها ولا أنه رخص فيها بل الذي عنده كراهتها من
أجل الضعف ولو علم أن النبي رخص فيها بعد الفطر بها لم يحتج أن يجيب بهذا
من رأيه ولم يكره شيئا رخص فيه رسول الله
وأيضا فمن المعلوم أن أهل البصرة أشد الناس في التفطير بها
وذكر الإمام أحمد وغيره أن أهل البصرة كانوا إذا دخل شهر رمضان يغلقون
حوانيت الحجامين وقد تقدم مذهب الحسن وابن سيرين إمامي البصرة أنهما كانا
يفطران بالحجامة مع أن فتاوى أنس نصب أعينهم وأنس آخر من مات بالبصرة من
الصحابة فيكف يكون عند أنس أن النبي رخص في الحجامة للصائم بعد نهيه عنهما
والبصريون يأخذون عنه وهم على خلاف ذلك
وعلى القول بالفطر بها لا سيما
وحديث أنس فيه أن ثابتا سمعه منه وثابت من أكبر مشايخ أهل البصرة ومن أخص
أصحاب الحسن فكيف تشتهر بين أهل البصرة السنة المنسوخة ولا يعلمون الناسخة
ولا يعملون بها ولا تعرف بينهم ولا يتناقلونها بل هم على خلافها هذا محال
قالوا وأيضا فأبو قلابة من أخص أصحاب أنس وهو الذي يروي قوله أفطر الحاجم
والمحجوم من طريق أبي أسماء عن ثوبان ومن طريق أبي الأشعث عن شداد
وعلى حديثه اعتمده أئمة الحديث وصححوه وشهدوا أنه أصح أحاديث الباب
فلو كان عند أنس عن النبي سنة تنسخ ذلك لكان أصحابه أعلم بها وأحرص على روايتها من أحاديث الفطر بها
والله أعلم
قالوا وأما حديث أبي سعيد فجوابه من وجوه أحدها أنه حديث قد اختلف فيه
عليه فرواه أبو المتوكل عنه واختلف عليه فرفعه المعتمر عن حميد عن أبي
المتوكل ووقفه بشر وإسماعيل وابن أبي عدي عن حميد ووقفه أبو نضرة عن أبي
سعيد وأبو نضرة من أروى الناس عنه وأعلمهم بحديثه
ووقفه قتادة عن أبي المتوكل فالواقفون له أكثر وأشهر فالحكم لهم عند المحدثين
الثاني أن ذكر الحجامة فيه ليس من كلام النبي
قال ابن خزيمة الصحيح ان ذكر الحجامة فيه من كلام أبي سعيد ولكن بعض الرواة أدرجه فيه
الثالث أنه ليس فيه بيان للتاريخ ولا يدل على أن هذا الترخيص كان بعد
الفتح وقولكم إن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي باطل بنفس الحديث فإن فيه
رخص رسول الله في القبلة للصائم ولم يتقدم منه نهي عنها
ولاقال أحد إن هذا الترخيص فيها ناسخ لمنع تقدم
وفي الحديث إن الماء من الماء
كانت رخصة في أول الإسلام فسمى الحكم المنسوخ رخصة مع أنه لم يتقدم حظره بل المنع منه متأخر
وبالجملة فهذه المآخذ لا تعد مقاومة لأحاديث الفطر ولا تأخرت عنها فكيف
تنسخ بها قالوا وأما جوابكم الثالث بأن الفطر فيها لم يكن للحجامة وذكر
الحاجم للتعريف المحض كزيد وعمر في غاية البطلان من وجوه أحدها أن ذلك
يتضمن الإبهام والتلبيس بأن يذكر وصفا يرتب عليه الحكم ولا يكون له فيه
تأثير البتة
الثاني أن هذا يبطل عامة أحكام الشرع التي رتبها على
الأوصاف إذا تطرق إليها هذا الخيال والوهم الفاسد كقوله تعالى الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما واللاتي
يأتين الفاحشة ومعلوم أنه ليس بأيدينا إلا أوصاف رتبت عليها الأحكام
فإن جاز أن تكون تلك الأوصاف للتعريف لا للتعليل بطلت الأحكام
الثالث أنه لا يفهم قط أحد لا من الخاصة والعامة من قول القائل القاتل لا
يرث والعبد لا يرث والكافر لا يرث والقاذف لا تقبل شهادته والمحدث لا تصح
صلاته وأمثال ذلك إلا تعلق الأحكام تلك الأوصاف ولهذا لا يحسن ذكر وصف لا
تأثير له في الحكم كما لو قال أفطر الخياط والمخيط له وأفطر الحامل
والمحمول له وأفطر الشاهد والمشهود له ومن قال هذا عد كلامه سخفا وتعجب
الناس من قوله فكيف يضاف ذلك إلى الشارع سبحانك هذا بهتان عظيم
الرابع
أن هذا قدح في أفهام الصحابة الذين هم أعرف الناس وأفهم الناس بمراد نبيهم
وبمقصود من كلامه وقد قال أبو موسى لرجل قال له ألا تحتجم نهارا أتأمرني
أن أهريق دمي وأنا صائم وقد سمعت رسول الله يقول أفطر الحاجم والمحجوم
والذين فطروا بذلك من الصحابة كعلي وأبي موسى وغيرهم إنما يحتجون بالحديث
وكان جماعة من الصحابة لا يحتجمون في الصيام إلا ليلا منهم عبد الله بن
عمرو وابن عباس وأبو موسى وأنس ويحتجون بالحديث
الخامس أن هذا
يتضمن تعليق الحكم وهو الفطر بوصف لا ذكر له في الحديث أصلا وإبطال تعليقه
بالوصف الذي علقه به الشارع وهذا من أبطل الباطل
السادس أنه لوصح ذلك
وحاشا لله في قوله أفطر الحاجم والمحجوم فكيف يصح ذلك في حديث أنس الذي
جعلتموه عمدتكم في الباب وهو قوله لجعفر وقد مر به وهو يحتجم أفطر هذان ثم
رخص في الحجامة بعد وفي قوله نهى عن الحجامة ولم يحرمها
السابع أنه
كيف ينفق بضعة عشر صحابيا على رواية أحاديث كلها متفقة بلفظ واحد ويكون
النبي قد ذكر الحجامة فيها ولا تأثير لها في الفطر وكلهم يقول أفط الحاجم
والمحجوم الثامن أنه كيف يجوز للصحابة أن يفتوا بذلك ويقولوا أفطر الحاجم
والمحجوم أفترى استمر التعريف بذلك دائما ودفع الأحاديث متى وصل إلى هذا
الحد ساء وقبح جدا التاسع أنا نقول نعم هو للتعريف بلا شك فإن أحكام الشارع
إنما تعرف بالأوصاف وتربط بها وتعم الأمة لأجلها فالوصف في الحديث المذكور
لتعريف حكمه وأنه مرتبط بهذا الوصف منوط به
العاشر أن صاحب القصة
التي جرت له قال مر على النبي وأنا أحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم فلو
كان فطره بغير ذلك لبينه له الشارع لحاجته إليه ولم يخف على الصحابي ذلك
ولم يكن لذكره الحجامة معنى
وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فكيف
يترك الشارع بيان الوصف المفطر فلا يبينه للمكلف ويذكر له وصفا لا يفطر
بحال وأما قولهم إن الفطر بالغيبة
فهذا باطل من وجوه أحدها أن ذلك لا يثبت وإنما جاء في حديث واحد من تلك الأحاديث وهما يغتابان الناس مع أنها زيادة باطلة
الثاني أنه لو ثبت لكان الأخذ لعموم اللفظ الذي علق به الحكم دون الغيبة التي لم يعلق بها الحكم
الثالث أنه لو كان ما ذكروه صحيحا لكان موجب البيان أن يقول افطر
المغتابان على عادته وعرفه من ذكر الأوصاف المؤثرة دون غيرها فكيف يعدل عن
الغيبة المؤثرة إلى الحجامة المهدرة الرابع أن هذا يتضمن حمل الحديث على
خلاف الإجماع وتعطيله فإن المنازع لا يقول بأن الغيبة تفطر فكيف نحمل
الحديث على ما نعتقد بطلانه الخامس أن سياق الأحاديث يبطل هذا التأويل كما
تقدم
السادس أن معقل بن سنان قال مر بي رسول الله وأنا احتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم ولم يكن يغتاب أحدا ولا جرى للغيبة ذكر أصلا
قالوا وأما الجواب الواقع بأن افطر بمعنى سيفطر ففاسد أيضا لتضمنه الإيهام
بخلاف المراد ولفهم الصحابة خلافه ولاضطراد هذا اللفظ دون مجيئه بالمعنى
الذي ذكروه ولشدة مخالفته للوضع ولذكر المحجوم فإنه وإن تعرض المحجوم للفطر
بالضعف فأي ضعف لحق الحاجم وكون الحاجم متعرضا لابتلاع الدم والمحجوم
متعرضا للضعف هذا التعليل لا يبطل الفطر بالحجامة بل هو مقرر للفطر بها
وإلا فلا يجوز استنباط وصف من النص يعود عليه بالإبطال بل هذا الوصف إن كان
له تأثير في الفطر وإلا فالتعليل به باطل
قالوا وأما الجواب الخامس أن النبي مر بهما مساء
فقال ذلك فمما لا يجوز أن يحمل الحديث عليه وأي تأثير للحجامة بل كل الناس
قد أفطروا أيضا فهذا كذب فإنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك أصلا فقائله
مخبر بالكذب
وأيضا فأي حاجة إلى قول أنس ثم رخص بعد في الحجامة وأيضا
فأي حاجة بالصحابة أن يؤخروا احتجامهم إلى الليل وكيف يفتون الأمة بفطرهم
بأمر قد فعل مساء لا تأثير له في الفطر والحمد لله على المعافاة من رد
الأحاديث بمثل هذا الخيالات وأما جوابكم السادس أن هذا تغليظ ودعاء عليهما
لا أنه حكم شرعي فالمجيب به كالمستجير من الرمضاء بالنار فإنهما لم يفعلا
محرما عندكم ولا مفطرا بل فعلا ما أباحه لهما الشارع عندكم فكيف يغلظ
عليهما ويدعو عليهما ومتى عهد في عرف الشارع الدعاء على المكلف بالفطر
وفساد العبادة وسائر الوجوه المتقدمة تبطل هذا أيضا
وأما جوابكم
السابع بإن المراد إبطال أجر صومهما فكذلك أيضا فإنكم لا تبطلون أجرهما
بذلك ولا تحرمون الحجامة ثم لو كان المراد إبطال الأجر لكان ذلك مقررا
لفساد الصوم لا لصحته فإنه قد أخبر عن أمر يتضمن بطلان أجرهما لزوما
واستنباطا وبطلان صومهما صريحا ونصا فكيف يعطل ما دل عليه صريحه ويعتبر ما
استنبطه منه مع أنه لا منافاة بينه وبين الصريح بل المعنيان حق قد بطل
صومهما وأجرهما إذا كانت الحجامة لغير مرض
وأما جوابكم الثامن أن
الأحاديث لو قدر تعارضها لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لموافقتها القياس
فجوابه أولا أن الأحاديث بحمد الله ليست متعارضة وقد بينا أنه لا معارض
لأحاديث المنع
ويقال ثانيا لو قدر تعارضها فالأخذ بأحاديث الفطر
متعين لأنها ناقلة عن الأصل وأحاديث الإباحة موافقة لما كان الأمر عليه قبل
جعلها مفطرة والناقل مقدم على المبقي
ويقال ثالثا ليس في أحاديث
الرخصة لفظ صريح وإنما غايتها أن تكون فعلا محتملا للوجوه التي تقدمت فكيف
تقدم على القول الصريح ويقال رابعا أحاديث الفطر صريحة متعددة الطرق رواها
عن النبي أربعة عشر نفسا وساق الإمام أحمد أحاديثهم كلها وهم رافع بن خديج
وثوبان وشداد بن أوس وأبو هريرة وعائشة وبلال وأسامة بن زيد ومعقل بن سنان
وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبو زيد الأنصاري وأبو موسى الأشعري
وابن عباس وابن عمر فكيف يقدم عليها أحاديث هي بين أمرين صحيح لا دلالة فيه
أو ما فيه دلالة ولكن هو غير صحيح وقد تقدم ذكر في الكلام على الأحاديث
وبينا أنه ليس فيها حديث واحد يصلح للمعارضة
وعلى هذا فالقياس الذي اشرتم إليه فاسد الاعتبار
ثم نقول بل القياس من جانبنا لأن الشارع علق الفطر بإدخال ما فيه قوام البدن من الطعام والشراب وبإخراجه
من القيء واستفراغ المني وجعل الحيض مانعا من الصوم لما فيه من خروج الدم المضعف للبدن
قالوا فالشارع قد نهى الصائم عن أخذ ما يعينه وعن إخراج ما يضعفه وكلاهما
مقصود له لأن الشارع أمر بالاقتصاد في العبادات ولا سيما في الصوم ولهذا
امر بتعجيل الفطور وتأخير السحور فله قصد في حفظ قوة الصائم عليه كما له
قصد في منعه من إدخال المفطرات وشاهده الفطر بالقيء والحيض والاستمناء
فالحجامة كذلك أو أولى وليس معنا في القيء ما يماثل أحاديث الحجامة فيكف
يفطر به دون الحجامة مع أن الفطر بها أولى منه نصا وقياسا واعتبارا
قالوا ولهذا فرق بين الغالب منهما والمستدعي فلا يفطر إذا ذرعه القيء كما
لا يفطر بالرعاف وخروج الدم من الدمل والجرح وكما يفطر الاستقاء عمدا كذلك
يفطر بإخراج الدم عمدا بالحجامة
قالوا وشاهده أن دم الحيض لما كان
يجري في وقت وينقطع في وقت جعل الشارع صومها في وقت الطهر مغنيا عن صومها
وقت الدم ولما كان دم الاستحاضة لا ضابط له ولعله أن يستمر جوز لها الصوم
مع جريانه كصاحب الرعاف ونحوه فليس القياس إلا مع النصوص يدور معها حيث
دارت
وأما قياسكم ذلك على الفصاد ونحوه
فنقول
القائلون
بأن الحجامة تفطر لهم فيها أربعة أقوال أحدها أن المحتجم يفطر وحده دون
الحاجم وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه قال في المفطرات لو احتجم ولم يقل أو
حجم
الثاني وهو منصوص الإمام أحمد أنه يفطر كل منهما وهذا قول جمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين
ثم اختلف هؤلاء في التشريط والفصاد على ثلاثة أقوال أحدها أنه لا يفطر بهما
الثاني يفطر بهما
الثالث يفطر بالتشريط دون الفصاد لأن التشريط عندهم كالحجامة
واختلفوا في التشريط والفصاد
أيهما أولى بالفطر والصواب الفطر بالحجامة والفصاد والتشريط وهو اختيار
شيخنا أبي العباس بن تيمية واختيار صاحب الإفصاح لأن المعنى الموجود في
الحجامة موجود في الفصاد طبعا وشرعا وكذلك في التشريط وقد بينا أن الفطر
بالحجامة هو مقتضى القياس ولا فرق في ذلك بين الفصاد والتشريط فبأي وجه
أخرج الدم أفطر به كما يفطر بالإستقاء بأي وجه استقاء إما بإدخال يده فيه
أو بشمه ما يقيئه أو بوضع يده على بطنه وتطامنه وغير ذلك فالعبرة بخروج
الدم عمدا لا بكيفية الإخراج كما استوى خروج الدم بذلك في إفساد الصلاة
ونقض الطهارة عند القائلين به
وبهذا يتبين توافق النصوص والقياس وشهادة أصول الشرع وقواعده وتصديق بعضها بعضا
فإن قيل فهب أن هذا يتأتى لكم في الهجوم فما الموجب لفطر الحاجم قلنا لما
كان الحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه الهواء يجتذب ما فيها
من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر والحكمة
إذا كانت خفية علق الحكم بمظنتها كما أن النائم لما كان قد يخرج منه الريح
ولا يشعر بها علق الحكم بالمظنة وهو النوم وإن لم يخرج منه ريح
فإن قيل فطرد هذا أن لا يفطر الشارط
قلنا نعم ولا الحاجم الذي يشرط ولا يمص أو يمصه مفطر غيره وليس في هذا
مخالفة للنص فإن كلام النبي خرج على الحاجم المعتاد وهو الذي يمص الدم
وكلامه إنما يعم المعتاد فاستعمال اللفظ فيه بقصره على الحاجم المعتاد لا
يكون تعطيلا للنص والله أعلم
7
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث قد اختلف في إسناده ووصله وإرساله واختلف في متنه فرواه هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن ابن عباس وقال القيء والرعاف والاحتلام ذكره ابن عدي ورواه الدارقطني من حديث هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد وذكر فيه الاحتجام بدل الرعاف ورواه الترمذي من حديث عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد فقال الحجامة والقيء والاحتلام قال الترمذي حديث أبي سعيد غير محفوظ وقد روى عبد الله بن زيد بن أسلم وعبدالعزيز بن محمد وغيره واحد هذا الحديث عن زيد ابن أسلم مرسلا لم يذكروا فيه عن أبي سعيد وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم يضعف في الحديث
سمعت ابا داود السجزى يقول سألت أحمد بن حنبل عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم فقال أخوه عبد الله بن زيد لا بأس به قال وسمعت محمدا يذكر عن علي بن عبد الله قال عبد الله بن زيد بن أسلم ثقة وعبدالرحمن بن زيد ضعيف قال محمد ولا أروي عنه شيئا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث له علة ولعلته علة
أما علته فوقفه على أبي هريرة وقفه عطاء وغيره
وأما علة
هذه العلة فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة إنه قال إذا قاء
فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج قال ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث له علة ولعلته علة
أما علته فوقفه على أبي هريرة وقفه عطاء وغيره
وأما علة هذه العلة فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة إنه
قال إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج قال ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر
والأول أصح
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى البيهقي
من حديث فضالة بن عبيد قال أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما فقاء
فأفطر فسئل عن ذلك فقال بأني قئت وروى ايضا عن ابن عمر موقوفا عليه من ذرعه
القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء قاله وعن أبي هريرة مثله
وروي مرفوعا والحفاظ لا يرونه محفوظا
قال الحافظ شمس الدين بن
القيم رحمه الله وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أم سلمة وحفصة إن رسول الله
صلى الله عليه و سلم كان يقبل وهو صائم
وفي صحيح مسلم عن عمر بن أبي
سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أيقبل الصائم فقال رسول الله
صلى الله عليه و سلم سل هذه لأم سلمة فأخبرته إن رسول الله صلى الله عليه و
سلم ليصنع ذلك فقال يارسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأتقاكم لله وأخشاكم له
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال عبدالحق لا تصح هذه الزيادة
في مص اللسان لأنها من حديث محمد بن دينار عن سعد ابن أوس ولا يحتج بهما
وقد قال ابن الأعرابي بلغني عن أبي داود أنه قال هذا الحديث ليس بصحيح
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال ابن حزم فيه أبو العنبس عن الأغر وأبو العنبس هذا مجهول
قال عبدالحق ولم أجد
أحدا ذكره ولا سماه
وروى البيهقي عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها
الشاب وقال الشيخ يملك إربه والشاب تفسد صومه وأرخص فيها ابن عباس للشيخ
وكرهها للشاب
وسأل فتى عبد الله بن عمر عن القبلة وهو صائم فقال لا
فقال شيخ عنده لم يحرج الناس ويضيق عليهم والله ما بذلك بأس فقال ابن عمر
أما أنت فقبل فليس عند استك خير وروى إباحة القبلة عن سعد بن أبي وقاص وعبد
الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس
وأما ما روى عن
ابن مسعود أنه كان يقول في القبلة قولا شديدا يعني يصوم مكانه فقال البيهقي
هذا محمول على ما إذا أنزل وهذا التفسير من بعض الرواة لا من ابن مسعود
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله اختلف السلف في هذه المسألة فذهب
بعضهم إلى إبطال صومه إذا أصبح جنبا واحتجوا بما في صحيح مسلم عن أبي
هريرة أنه كان يقول في قصصه من أدركه الفجر جنبا فلا يصوم واختلفت الرواية
عن أبي هريرة فالمشهور عنه أنه لا يصح صومه وعنه رواية ثانية أنه إن علم
بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم وروي هذا
المذهب عن طاوس وعروة بن الزبير
وذهبت طائفة إلى أن الصوم إن كان فرضا لم يصح وإن كان نفلا صح
وروي هذا عن إبراهيم النخعي والحسن البصري
وعن أبي هريرة رواية ثالثة أنه رجع عن فتياه إلى قول الجماعة
وذهب الجمهور إلى صحة صومه مطلقا في الفرض والنفل وقالوا حديث أبي هريرة منسوخ
واستشكلت طائفة ثبوت النسخ وقالت شرط النسخ أن يعلم تأخره بنقل أو بأن تجمع الأمة
على ترك الخبر المعارض له فيعلم أنه منسوخ وكلا الأمرين منتف ههنا فمن أين
لكم أن خبر أبي هريرة متقدم على خبر عائشة والجواب عن هذا أنه لا يصح أن
يكون آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم إبطال الصوم بذلك لأن
أزواجه أعلم بهذا الحكم وقد أخبرن بعد وفاته صلى الله عليه و سلم أنه كان
يصبح جنبا ويصوم ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه مثل حديث
أبي هريرة ولم يحتج أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نسخ ومحال أن يخفى هذا
عليهن فإنه كان يقسم بينهن إلى أن مات في الصوم والفطر
هذا مع أن
الحديث في مسلم غير مرفوع وإنما فيه كان أبو هريرة يقول في قصصه حسب وفي
الحديث أن أبا هريرة لما حوقق على ذلك رده إلى الفضل بن عباس فقال سمعت ذلك
من الفضل ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه و سلم هذا الذي في مسلم وفي
لفظ حدثني الفضل بن عباس قال البخاري وقال همام وابن عبد الله بن عمر عن
أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر بالفطر والأول أسند
ولكن رفعه صحيح رواه سفيان عن عمرو بن يحيى بن جعدة قال سمعت عبد الله بن
عبدالقاري قال سمعت أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلته من أدركه
الصبح وهو جنب فلا يصم محمد صلى الله عليه و سلم قاله ومع هذا فقد روى
النسائي من حديث أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحرث بن هشام قال كنت مع
عبدالرحمن عند مروان فذكروا أن أبا هريرة يقول من احتلم وعلم باحتلامه ولم
يغتسل حتى يصبح فلا يصم ذلك اليوم قال اذهب فسل أزواج النبي صلى الله عليه و
سلم عن ذلك فذهب وذهبت معه فذكر الحديث وقال فأتيت مروان فأخبرته قولهما
يعني أم سلمة وعائشة فاشتد عليه اختلافهم تخوفا أن يكون أبو هريرة يحدث عن
النبي صلى الله عليه و سلم
فقال مروان لعبدالرحمن عزمت عليك لما أتيته
فحدثته أعن رسول الله صلى الله عليه و سلم تروي هذا قال لا إنما حدثني
فلان وفلان ولا ريب أن أبا هريرة لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم
وقال مرة أخبرنيه الفضل بن عباس ومرة قال أخبرنيه أسامة بن زيد وفي رواية
عنه أخبرنيه فلان وفلان وفي رواية أخبرني رجل وفي رواية أخبرنيه مخبر وفي
رواية هكذا كنت أحسب
ثم ذكر الشيخ شمس الدين ابن القيم حديث هلكت وأهلكت ثم استبعد المنذري هذه اللفظة ثم قال قال البيهقي قوله وأهلكت ليس بمحفوظ وضعفها شيخنا أبو عبد الله الحافظ وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني قال فإن أبا علي الحافظ رواه عن محمد بن المسيب فلم يذكرها والعباس بن الوليد رواه عن عقبة بن علقمة دونها ودحيم وغيره رووه عن الوليد بن مسلم دونها وكافة أصحاب الأوزاعي رووه عنه دونها ولم يذكرها أحد من أصحاب
الزهري عن الزهري إلا ما روى عن أبي ثور عن معلى بن
منصور عن سفيان بن عيينة عن الزهري قال وكان أبو عبد الله أيضا يستدل على
كونها في تلك الرواية خطأ بأنه نظر في كتاب الصوم تصنيف معلى بن منصور بخط
مشهور فوجد فيه هذا الحديث دون هذه اللفظة وبأن كافة أصحاب سفيان رووه عنه
دونها
قال الشيخ شمس الدين وقد روى مالك هذا الحديث في الموطأ عن
الزهرى عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان
فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين
متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ثم ذكر الحديث
وحسبك بهذا الإسناد
وفيه أمران أحدهما وجوب الكفارة بأي مفطر كان
والثاني أنها على التخيير
وهو مذهب مالك في المسألتين
قال البيهقي ورواية الجماعة عن الزهري مقيدة بالوطء نافلة
للفظ صاحب الشرع فهي أولى بالقبول لزيادة حفظهم وأدائهم الحديث على وجهه
واتفقت رواياتهم على أن فطره كان بجماع وأن النبي صلى الله عليه و سلم أمره
بالكفارة على اللفظ الذي يقتضي الترتيب
وقال أبو الحسن الدارقطنى
الذين رووا الكفارة في جماع رمضان على التخيير مالك في الموطأ ويحيى بن
سعيد الأنصارى وابن جريج وعبد الله بن أبي بكرة وأبو أويس وفليح بن سليمان
وعمر بن عثمان المخزومي ونذير بن عياض وشبل بن عباد والليث بن سعد من رواية
أشهب بن عبد العزيز عنه وعبيد الله ابن أبي زياد إلا أنه أرسل عن الزهري
كل هؤلاء رووه عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان وجعلوا كفارته على التخيير
قال وخالفهم أكثر عددا منهم فرووه عن الزهري بهذا الإسناد أن إفطار الرجل
كان لجماع وأن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يكفر بعتق رقبة فإن لم
يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا منهم عراك بن
مالك وعبد الله بن عمر وإسماعيل بن أمية ومحمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة
ومعمر ويونس وعقيل وعبدالرحمن بن خالد بن مسافر والأوزاعي وسعيد بن أبي
حمزة ومنصور بن المعتمر وسفيان بن عيينة وإبراهيم بن سعد والليث بن سعد
وعبد الله بن عيسى ومحمد بن إسحاق والنعمان بن راشد وحجاج بن أرطاة وصالح
بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفصة وعبد الجبار بن عمر وإسحاق بن يحيى العوصي
وعمار بن عقيل وثابت بن ثوبان ومرة بن عبدالرحمن وزمعة بن صالح وبحر بن
كنيز أبو الوليد السقاء والوليد بن محمد وشعيب بن خالد ونوح بن أبي مريم
وغيرهم
آخر كلامه
ولا ريب أن الزهري حدث به هكذا وهكذا على
الوجهين وكلاهما محفوظ عنه بلا ريب وإذا كان هكذا فرواية الترتيب المصرحة
بذكر الجماع أولى أن يؤخذ بها لوجوه أحدها أن رواتها أكثر وإذا قدر التعارض
رجحنا برواية الأكثر اتفاقا وفي الشهادة بخلاف معروف
الثاني أن
رواتها حكوا القصة وساقوا ذكر الفطر وأنه الجماع وحكوا لفظ النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وأما رواة التخيير فلم يفسروا بماذا أفطر ولا حكوا أن ذلك
لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا من لفظ صاحب القصة ولا حكوه
أيضا لفظ الرسول الله صلى الله عليه و سلم في الكفارة فكيف تقدم روايتهم
على رواية من ذكر لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الترتيب ولفظ
الراوي في خبره عن نفسه بقوله وقعت على أهلي في رمضان الثالث أن هذا صريح
وقوله أفطر مجمل لم يذكر فيه بماذا أفطر وقد فسرته الرواية الأخرى بأن فطره
كان بجماع فتعين الأخذ به
الرابع أن حرف أو وإن كان ظاهرا في التخيير
فليس بنص فيه وقوله هل تستطيع كذا هل تستطيع كذا صريح في الترتيب فإنه لم
يجوز له الانتقال إلى الثاني إلا بعد إخباره بعجزه عما قبله مع أنه صريح
لفظ صاحب الشرع
وقوله فأمره أن يعتق رقبة أو يصوم لم يحك فيه لفظه
الخامس أن الأخذ بحديث الترتيب متضمن العمل بالحديث الآخر لأنه يفسره
ويبين المراد منه والعمل بحديث التخيير لا يتضمن العمل بحديث الترتيب ولا
ريب أن العمل بالنصين أولى
السادس أنا قد رأينا صاحب الشرع جعل نظير هذه الكفارة
سواء على الترتيب وهي كفارة الظهار وحكم النظير حكم نظيره
ولا ريب إن إلحاق كفارة الجماع في رمضان بكفارة الظهار وكفارة القتل أولى وأشبه من إلحاقها بكفارة اليمين
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذه الزيادة وهي الأمر بالصوم قد
طعن فيها غير واحد من الحفاظ قال عبدالحق وطريق حديث مسلم أصح وأشهر وليس
فيها صم يوما ولا تكميله التمر ولا الاستغفار وإنما يصح حديث القضاء مرسلا
وكذلك ذكره مالك في الموطأ وهو من مراسيل سعيد بن المسيب رواه مالك عن عطاء
ابن عبد الله الخراساني عن سعيد بالقصة وقال كله وصم يوما مكان ما أصبت
والذي أنكره الحفاظ ذكر هذه اللفظة في حديث الزهري فإن أصحابه الأثبات
الثقات كيونس وعقيل ومالك والليث بن سعد وشعيب ومعمر وعبدالرحمن بن خالد لم
يذكر أحد منهم هذه اللفظة وإنما ذكرها الضعفاء عنه كهشام بن سعد وصالح بن
أبي الأخضر وأضرابهما
وقال الدارقطنى رواتها ثقات رواه ابن أبي أويس عن الزهري وتابعه عبدالجبار بن عمر عنه وتابعه أيضا هشام بن سعد عنه قال وكلهم ثقات
وهذا لا يفيد صحة هذه اللفظة فإن هؤلاء إنما هم أربعة وقد خالفهم من هو
أوثق منهم وأكثر عددا وهم أربعون نفسا لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة ولا ريب
أن التعليل بدون هذا مؤثر في صحتها
ولو انفرد بهذه اللفظة من هو أحفظ
منهم وأوثق وخالفهم هذا العدد الكثير لوجب التوقف فيها وثقة الراوي شرط في
صحة الحديث لا موجبة بل لا بد من انتفاء العلة والشذوذ وهما غير منتفيين
في هذه اللفظة
وقد اختلف الفقهاء في وجوب القضاء عليه فمذهب مالك
وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في أظهر أقواله يجب عليه القضاء وللشافعي قول
آخر أنه لا يجب عليه القضاء إذا كفر وله قول
ثالث أنه إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه وإن كفر بالعتق أو بالإطعام قضى وهذا قول الأوزاعي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الدارقطنى ليس في رواته
مجروح وهذه العبارة لا تنفي أن يكون فيهم مجهول لا يعرف بجرح ولا عدالة
ويقال في هذا ثلاثة أقوال أبو المطوس وابن المطوس والمطوس تفرد بهذا الحديث قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به من الروايات
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه
فإنما أطعمه الله وسقاه وعند البخاري فأكل وشرب وروى الدارقطنى عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا
فإنما هو رزق الله ساقه الله إليه ولا قضاء عليه هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات
وفي طريق أخرى لا قضاء عليه ولا كفارة قال وهذا صحيح أيضا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال المنذري واختلف فيما لو أخره
عن رمضان آخر فقال جماعة من الصحابة والتابعين يقضي ويطعم كل يوم مسكينا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير والثورى والأوزاعي والإمام
أحمد والشافعي ومالك وإسحاق
وقال جماعة يقضي ولا فدية عليه وهذا يروى عن الحسن وإبراهم النخعي وهو مذهب أبي حنيفة
وقالت طائفة منهم قتادة يطعم ولا يقضي
ووقع في الصحيحين في هذا الحديث الشغل برسول الله صلى الله عليه و سلم أو
من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام
يحيى بن سعيد قد بين ذلك البخاري في صحيحه قال وقال يحيى الشغل من النبي
أو بالنبي صلى الله عليه و سلم وفي لفظ قال يحيى فظننت أن ذلك لمكانها من
رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي الصحيحين عن عائشة أيضا قالت إن كانت
إحدانا لتفطر في رمضان في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فما تقدر أن
تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يأتي شعبان
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وعن ابن عباس قال إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصح أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء
وإن نذر قضى عنه وليه وفي الصحيحين عن ابن عباس قال جاءت امرأة إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقالت يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر
أفأصوم عنها فقال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها قالت
نعم
قال فصومي عن أمك هذا لفظ مسلم
ولفظ البخاري نحوه وفي
الصحيحن عنه أيضا أن أمرأة جاءت فقالت يارسول الله إن أختي ماتت وعليها
صيام شهرين متتابعين وذكر الحديث بنحوه وفي صحيح مسلم عن بريدة قال كنت
جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ أتته امرأة فقالت إني تصدقت على
أمي بجارية وإنها ماتت قال وجب أجرك وردها عليك الميراث
قالت يارسول الله إنه كان عليها صوم شهر
أفأصوم عنها قال صومي عنها
قالت يارسول الله إنها لم تحج أفأحج عنها قال حجي عنها وقال البيهقي فثبت بهذه الأحاديث جواز الصوم عن الميت
وقال الشافعي في القديم قد ورد في الصوم عن الميت شيء فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه
وقال في الجديد فإن قيل فهل روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أحدا أن يصوم عن أحد قيل نعم روي عن ابن عباس
فإن قيل لم لا تأخذ به قيل حديث الزهري
عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم نذر نذرا ولم يسمه
مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس فلما جاء غيره عن رجل عن
ابن عباس بغير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا
وأراد
الشافعي ماروى مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن سعد بن عبادة
استفتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر فقال
النبي صلى الله عليه و سلم اقضه عنها وهذا حديث متفق عليه من حديث مالك
وغيره عن الزهري إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أمرأة سألت
وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس وفي رواية
عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس أن امرأة سألت ورواه عكرمة عن
ابن عباس
ثم رواه بريدة بن حصيب عن النبي صلى الله عليه و سلم
فالأشبه أن تكون هذه القصة التي وقع فيها السؤال نصا غير قصة سعد بن عبادة
التي وقع السؤال فيها عن النذر مطلقا كيف وقد روى عن عائشة عن النبي صلى
الله عليه و سلم بإسناد صحيح النص على جواز الصوم عن الميت قال وقد رأيت
بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس
لما روي عن يزيد بن زريع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس أنه قال لا يصوم أحد
عن أحد ويطعم عنه وما روى عنه في الإطعام عمن مات وعليه صيام شهر رمضان وصيام شهر النذر
وضعف حديث عائشة بما روي عنها في امرأة ماتت وعليها الصوم
قالت يطعم عنها وفي رواية عنها لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم قال وليس
فيما ذكروا ما يوجد للحديث ضعفا فمن يجوز الصيام عن الميت يجوز الإطعام
عنه
وفيما روي عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر والأحاديث
المرفوعة أصح إسنادا وأشهر رجالا وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما ولو وقف
الشافعي على جميع طرقها وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله
وممن رأى جواز الصيام عن الميت طاووس والحسن البصرى والزهرى وقتادة
آخر كلام البيهقي
وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه على ثلاثة أقوال أحدها لا يقضى عنه بحال لا في النذر ولا في الواجب الأصلي
وهذا ظاهر مذهب الشافعي ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه
الثاني أنه يصام عنه فيهما وهذا قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي
الثالث أنه يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي
وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه وقول أبي عبيد والليث بن سعد وهو المنصوص عن ابن عباس
روى الأثرم عنه أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان قال
أما رمضان فليطعم عنه وأما النذر فيصام وهذا أعدل الأقوال
وعليه يدل كلام الصحابة وبهذا يزول الإشكال
وتعليل حديث ابن عباس أنه قال لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه فإن هذا إنما
هو في الفرض الأصلى وأما النذر فيصام عنه كما صرح به ابن عباس ولا معارضة
بين فتواه وروايته
وهذا هو المروي عنه في قصة من مات وعليه صوم رمضان
وصوم النذر فرق بينهما فأفتى بالإطعام في رمضان وبالصوم عنه في النذر فأي
شيء في هذا مما يوجب تعليل حديثه وما روى عن عائشة من إفتائها في التي ماتت
وعليها الصوم أنه يطعم عنها إنما هو في الفرض لا في النذر لأن الثابت عن
عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان أنه يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام
فالمنقول عنها
كالمنقول عن ابن عباس سواء فلا تعارض بين رأيها وروايتها
وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب وموافقة فتاوي الصحابة لها وهو
مقتضى الدليل والقياس لأن النذر ليس واجبا بأصل الشرع وإنما أوجبه العبد
على نفسه فصار بمنزلة الدين الذي استدانه ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه و
سلم بالدين في حديث ابن عباس
والمسؤول عنه فيه أنه كان صوم نذر والدين تدخله النيابة
وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء فهو أحد أركان الإسلام
فلا يدخله النيابة بحال كما لا يدخل الصلاة والشهادتين
فإن المقصود منها طاعة العبد بنفسه وقيامه بحق العبودية التي خلق لها وأمر بها
وهذا أمر لا يؤديه عنه غيره كما لا يسلم عنه غيره ولا يصلي عنه غيره
وهكذا من ترك الحج عمدا مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات
فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع أن فعلهما عنه بعد الموت لا يبرىء ذمته
ولا يقبل منه
والحق أحق أن يتبع
وسر الفرق أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته لا أن الشارع ألزمه به
ابتداء فهو أخف حكما مما جعله الشارع حقا له عليه شاء أم أبى والذمة تسع
المقدور عليه والمعجوز عنه ولهذا تقبل أن يشغلها المكلف بما لا قدرة له
عليه بخلاف واجبات الشرع
فإنها على قدر طاقة البدن لا تجب على عاجز
فواجب الذمة أوسع من واجب الشرع الأصلي لأن المكلف متمكن من إيجاب واجبات
واسعة وطريق أداء واجبها كثيرة على نفسه لم يوجنها علية الشارع والذمة أوسع
من طريق أداء واجب الشرع
فلا يلزم من دخول النيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع
وهذا يبين أن الصحابة أفقه الخلق وأعمقهم علما وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
وقد احتج به من يوجب الفطر في السفر
واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم
وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر الرسول الله صلى الله عليه و سلم
واحتجوا أيضا بحديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما سافر من قريته في رمضان
وذلك ثلاثة أميال أفطر فأفطر معه الناس وكره ذلك آخرون فلما رجع إلى قريته
قال والله لقد رأيت أمرا ما كنت أظن
أني أراه إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا
ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك
رواه أبو داود وغيره
واحتجوا أيضا بأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقبول رخصة الفطر
فروى النسائي من حديث جابر يرفعه ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها
واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه و سلم في الذين صاموا أولئك العصاة رواه النسائي في قصة فطره عام الفتح
واحتجوا أيضا بقول عبدالرحمن بن عوف الصائم في السفر كالمفطر في الحضر
رواه النسائي
ولا يصح رفعه وإنما هو موقوف
واحتجوا أيضا بأن الله تعالى إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر فهي فرضه الذي أمر به فلا يجوز غيره
وحكى ذلك عن غير واحد من الصحابة
وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في السفر على
الإطلاق وقد أخبر أبو سعيد أنه صام مع النبي صلى الله عليه و سلم بعد الفتح
في السفر
قالوا وأما قوله ليس من البر الصيام في السفر فهذا خرج على
شخص معين رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ظلل عليه وجهده الصوم فقال
هذا القول أي ليس البر أن يجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ وقد
فسح الله له في الفطر
فالأخذ إنما يكون بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر
وأيضا فقوله ليس من البر أي ليس هو أبر البر لأنه قد يكون الإفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوى عليه
وقد يكون الفطر في السفر المباح برا لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه وهو
سبحانه يحب أن يؤخذ برخصه وما يحبه الله فهو بر فلم ينحصر البر في الصيام
في السفر
وتكون من على هذا زائدة ويكون كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم
الآية وكقولك ما جاءني من أحد وفي هذا نظر
وأحسن منه أن يقال إنها ليست بزائدة بل هي على حالها
والمعنى أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتتنافسون عليه
فإنهم ظنوا أن الصوم هو
الذي يحبه الله ولا يحب سواه وأنه وحده البر الذي لا أبر منه فأخبرهم أن
الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه فإنه قد يكون الفطر أحب إلى
الله منه فيكون هو البر
قالوا وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول
الله صلى الله عليه و سلم فالمراد به واقعة معينة وهي غزاة الفتح فإنه صام
حتى بلغ الكديد ثم أفطر فكان فطره آخر أمريه لا أنه حرم الصوم ونظير هذا
قول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الوضوء مما
مستة النار إنما هو في واقعة معينة دعي لطعام فأكل منه ثم توضأ وقام إلى
الصلاة ثم أكل منه وصلى ولم يتوضأ فكان اخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست
النار
وجابر هو الذي روى هذا وهذا فاختصره بعض الرواة واقتصر منه على اخره
ولم يذكر جابر لفظا عن النبي صلى الله عليه و سلم إن هذا آخر الأمرين مني
وكذلك قصة الصيام وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا وآخرهما منه الفطر
وترك الوضوء وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها
وأما
قصة دحية بن خليفة الكلبي فإنما أنكر فيها على من صام رغبة عن سنة النبي
صلى الله عليه و سلم وظنا أنه لا يسوع الفطر ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب
منكرا وهو عاص بصومه
والذين أمرهم الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم
لا يجزيهم هم هؤلاء فإنهم صاموا صوما لم يشرعه الله وهو أنهم ظنوا أنه حتم
عليهم كالمقيم
ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله وهو أنهم ظنوا أنه
حتم عليهم كالمقيم ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله فلم يمتثلوا ما أمروا
به من الصوم فأمرهم الصحابة بالقضاء
هذا أحسن ما حمل عليه قول من أفتى
بذلك من الصحابة وعليه يحمل قول من قال منهم الصائم في السفر كالمفطر في
الحضر وهذا من كمال فقههم ودقة نظرهم رضي الله عنهم
قالوا وأما قول
النبي صلى الله عليه و سلم عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها فهذا
يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب وهذا حق فإنه متى لم يقبل الرخصة
ردها ولم يرها رخصة وهذا عدوان منه ومعصية ولكن إذا قبلها فإن شاء أخذ بها
وإن شاء أخذ بالعزيمة
هذا مع أن سياق الحديث يدل على أن الأمر بالرخصة لمن جهده الصوم وخاف على نفسه ومثل هذا يؤمر بالفطر
فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء
قال ما بال صاحبكم هذا قالوا يارسول الله صائم
قال إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها رواه النسائي
قالوا وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم أولئك العصاة فذاك في واقعة معينة أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم فقال هذا
ففي النسائي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله
عليه و سلم إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام
الناس معه فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب
والناس ينظرون فأفطر بعض الناس وصام بعض
فبلغه أن ناسا صاموا
فقال أولئك العصاة فالنبي صلى الله عليه و سلم إنما أفطر بعد العصر
ليقتدوا به فلما لم يقتد به بعضهم قال أولئك العصاة ولم يرد بذلك تحريم
الصيام مطلقا على المسافر
والدليل عليه
ما روى النسائي أيضا عن أبى هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه و سلم بمر الظهران فقال لأبي بكر وعمر ادنيا فكلا
فقالا إنا صائمان
فقال أرحلوا لصاحبكم اعملوا لصاحبكم وأعله بالإرسال
ومر الظهران أدنى إلى مكة من كراع الغميم فإن كراع الغميم بين يدي عسفان بنحو ثمانية أميال وبين مكة وعسفان ستة وثلاثون ميلا
قالوا وأما احتجاجكم بالآية وأن الله أمر المسافر بعدة من أيام أخر فهي فرضه الذي لا يجوز غيره فاستدلال باطل قطعا
فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها قد
صام بعد نزولها بأعوام في السفر ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم ولا
يعتقده مسلم فعلم أن المراد بها غير ماذكرتم
فإما أن يكون المعنى فأفطر فعدة من أيام أخر كما قال الأكثرون أو يكون المعنى فعدة من أيام أخر تجزي عنه وتقبل منه ونحو ذلك
فما الذي أوجب تعيين التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر أو ففرضه ونحو ذلك
وبالجملة ففعل من أنزلت عليه تفسيرها وتبيين المراد منها وبالله التوفيق
وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم يحتجون بعموم نص على حكم ويغفلون
عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده ومن تدبر هذا علم به مراد
النصوص وفهم معانيها
وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره
فأقول لهم كثرة الطواف أفضل منهافيذكرون قوله صلى الله عليه و سلم عمرة في
رمضان تعدل حجة فقلت لهم في أثناء ذلك محال أن يكون مراد صاحب الشرع
العمرة التي يخرج إليها من مكة إلى أدنى الحل وأنها تعدل حجة ثم لا يفعلها
هو مدة مقامه بمكة أصلا لا قبل الفتح ولا بعده ولا أحد من أصحابه مع أنهم
كانوا أحرص الأمة على الخير وأعلمهم بمراد الرسول وأقدرهم على العمل به
ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم يقدر أن يحج أحدهم في
رمضان ثلاثين حجة أو أكثر ثم لا يأتي منها بحجة واحدة وتختصون أنتم عنهم
بهذا الفضل والثواب حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر هذا ما لا يظنه من له
مسكة عقل
وإنما خرج كلام النبي صلى الله عليه و سلم على العمرة
المعتادة التي فعلها هو وأصحابه وهي التي أنشأوا السفر لها من أوطانهم وبها
أمر أم معقل وقال لها عمرة في رمضان تعدل حجة ولم يقل لأهل مكة اخرجوا إلى
أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار فإن عمرة في رمضان تعدل حجة
ولا فهم هذا أحد منهم
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله واختلف أهل العلم في الأفضل من
الصوم والفطر فذهب عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب
والشعبي والأوزاعي وإسحاق وأحمد إلى أن الفطر أفضل
وذهب أنس وعثمان بن أبى العاص إلى أن الصومم أفضل
وهو قول الشافعي وأبى حنيفة مالك
وذهب عمر بن عبدالعزيز ومجاهد وقتادة إلى أن أفضل الأمرين أيسرهما
لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
وذهبت طائفة إلى أنهما سواء لا يرجح أحدهما على الآخر وذهبت طائفة إلى تحريم الصوم في السفر وأنه لا يجزي
وقد علمت أدلة كل فريق مما تقدم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى الترمذي عن محمد بن كعب قال أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا
وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر
فدعا بطعام فأكل
فقلت له سنة فقال سنة
ثم ركب قال الترمذي هذا حديث حسن
وفيه حجة لمن جوز للمسافر الفطر في يوم سافر في أثنائه
وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وقول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق
وحكاه عن أنس وهو قول داود وابن المنذر
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة لا يفطر
وهو قول الزهري والأوزاعي ومكحول
وفي المسألة قول شاذ جدا لا يلتفت إليه وهو إنه إن دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر في أثنائه لم يجز له الفطر
ولا يفطر حتى يدخل عليه رمضان مسافرا
وهذا قول عبيدة السلماني وأبى مجلز وسويد بن غفلة
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى الفتح في رمضان
فصام وأفطر
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال المجوزون للفطر في مطلق السفر هب أن حديث دحية لم يثبت
فقد أطلقه الله تعالى ولم يقيده بحد كما أطلقه في آية التيمم فلا يجوز حده
إلا بنص من الشارع أو إجماع من الأمة وكلاهما مما لا سبيل إليه
كيف
وقد قصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة ومزدلفة ولا تأثير
للنسك في القصر بحال فإن الشارع إنما علل القصر بالسفر فهو الوصف المؤثر
فيه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمي مسيرة البريد سفرا في
قوله لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر بريدا إلا مع ذي محرم
وقال تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا يدخل فيه كل سفر طويل أو قصير
وقال صلى الله عليه و سلم إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حقها من الأرض
وإذا سافرتم في الجدب فبادروا بها نقبها وهذا يعم كل سفر ولم يفهم منه أحد اختصاصه باليومين فما زاد
ونهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ونهى أن يسافر الرجل وحده وأخبر أن
دعوة المسافر مستجابة وكان نيتعوذ من وعثاء السفر وكان إذا أراد سفرا أقرع
بين نسائه
ومعلوم أن شيئا من هذه الأسفار لا يختص بالطويل
ولا أنه لو سافر دون اليومين لم يقرع بين نسائه
ولم يقض للمقيمات
فما الذي أوجب تخصيص اسم السفر بالطويل بالنسبة إلى القصر والفطر دون غيرهما
قالوا وأين معنا في الشريعة تقسيم الشارع السفر إلى طويل وقصير واختصاص أحدهما بأحكام لا يشاركه فيها الآخر
ومعلوم أن إطلاق السفر لا يدل على اختصاصه بالطويل ولم يبين النبي صلى الله عليه و سلم مقداره
وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع فسكوته عن تحديده من أظهر الأدلة على أنه غير محدود شرعا
قالوا والذين حددوه مع كثرة اختلافهم وانتشار أقوالهم ليس معهم نص بذلك وليس حد بأولى من حد ولا إجماع في المسألة فلا وجه للتحديد
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد أخرجا في الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال
سألت جابرا أنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم الجمعة قال نعم
وروى البخاري في صحيحه عن جويرية بنت الحرث أن النبي صلى الله عليه و سلم
دخل عليهايوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا
قال تريدين أن تصومي غدا قالت لا
قال فأفطري وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من
بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم وروى الإمام أحمد في مسنده عن
أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة يوم عيد
فلا
تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده وعند النسائي عن
عبد الله بن عمرو القاري قال سمعت أبا هريرة يقول ما أنا نهيت عن صيام يوم
الجمعة محمد صلى الله عليه و سلم ورب البيت نهى عنه وروى النسائي أيضا عن
محمد بن سيرين عن أبى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ياأبا
الدرداء لا تخص يوم الجمعة بصيام دون الأيام ولا تخص ليلة الجمعة بقيام
دون الليالي
فذهب طائفة من أهل العلم إلى القول بهذه الأحاديث
منهم أبو هريرة وسلمان وقال به أحمد والشافعي
وقال مالك وأبو حنيفة لا يكره
وفي الموطأ قال مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهي عن صيام يوم الجمعة
وصيامه حسن
وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه
وأراه كان يتحراه
قال الداودي لم يبلغ مالكا هذا الحديث
ولو بلغه لم يخالفه
وقد روى النسائي عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة وإسناده
صحيح
ولا معارضة بينه وبين أحاديث النهي
إذ ليس فيه أنه كان يفرده بالصوم
والنهي إنما هو عن الإفراد فمتى وصلهن بغيره زال النهي
قال الحافظ شمس الدين القيم رحمه الله حديث عبد الله بن بسر هذا رواه
جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء ورواه النسائي
عن عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه أيضا عن الصماء عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم
فهذه ثلاثة أوجه
وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا
فقال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به
فقال أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء يعني
حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن
النبي صلى الله عليه و سلم لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم قال
أبو عبد الله يحيى بن سعيد ينفيه
أبى أن يحدثني به
وقد كان سمعه من ثور
قال فسمعته من أبي عاصم
قال الأثرم حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر
منها حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
أكثر صياما لها فقالت السبت والأحد ومنها حديث جويرية أن النبي صلى الله
عليه و سلم قال لها يوم الجمعة أصمت أمس قالت لا
قال أتريدين أن
تصومي غدا فالغد هو يوم السبت
وحديث أبى هريرة نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم الجمعة إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده فاليوم الذي بعده هو يوم السبت
وقال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال وقد يكون فيها السبت
وأمر بصيام الأيام البيض وقد يكون فيها السبت ومثل هذا كثير فقد فهم
الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث وأنه رخص في صومه
حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة
وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد وكان ينفيه وأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت يعني ان يقال
يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره
وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص
وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم
دليل على المنع من صومه في غير الفرد مفردا أو مضافا لأن الاستثناء دليل
التناول وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض ولو كان
إنما يتناول صورة الإفراد لقال لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما
قبله أو يوما بعده كما قال في الجمعة
فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها
وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها كقوله في يوم
الجمعة إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده فدل على أن الحديث غير محفوظ
وأنه شاذ
وقد قال أبو داود قال مالك هذا كذب
وذكر بإسناده عن الزهري أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت يقول هذا حديث حمصي
وعن الأوزاعي قال ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر يعني حديث ابن بسر هذا
وقالت طائفة منهم أبو داود هذا حديث منسوخ
وقالت طائفة وهم أكثر أصحاب أحمد محكم وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه
قالوا وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل فإنه سئل في رواية الأثرم عنه فأجاب بالحديث
وقاعدة مذهبه أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص
دليل على أنه قائل به لأنه ذكره في معرض الجواب فهو متضمن للجواب
والاستدلال معا
قالوا وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد
فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث
قالوا وإسناده صحيح
ورواته غير مجروحين ولا متهمين وذلك يوجب العمل به وسائر الأحاديث ليس
فيها ما يعارضه لأنها تدل على صومه مضافا فيحمل النهي على صومه مفردا كما
ثبت في يوم الجمعة
ونظير هذا الحكم أيضا
كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده
ونظيره أيضا ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن
أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان أنه النهي عن ابتداء الصوم
فيه وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره
قالوا وقد جاء هذا مصرحا به في صوم يوم السبت ففي مسند الإمام أحمد من حديث ابن
لهيعة حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء أنها
دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم السبت وهو يتغدى
فقال تعالي تغدي
فقالت إني صائمة
فقال لها أصمت أمس قالت لا قال كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك
وهذا وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا إنفرد لكن يدل عليه ما تقدم من
الأحاديث
وعلى هذا فيكون معنى قوله صلى الله عليه و سلم لا تصوموا يوم
السبت أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه
بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم
السبت فإنه يصومه وحده
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره
ولا تزول الكراهه إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة
فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره
وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك
قالوا وأما قولكم إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي
فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مخرج
أما الفرض فبالمخرج المتصل
وأما صومه مضافا فبالمخرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مخرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة فعللها ابن عقيل بأنه يوم يمسك فيه
اليهود ويخصونه بالإمساك وهو ترك العمل فيه والصائم في مظنة ترك العمل
فيصير صومه تشبها بهم وهذه العلة منتفية في الأحد
ولا يقال فهذه العلة
موجودة إذا صامه مع غيره ومع هذا فإنه لا يكره لأنه إذا صامه مع غيره لم
يكن قاصدا تخصيصه المقتضي للتشبه وشاهده استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده
إليه لتنتفي صورة الموافقة
وعللة طائفة أخرى بأنه يوم عيد لأهل
الكتاب يعظمونه فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك كما كره
إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب وإفراد رجب أيضا لما عظمه
المشركون
وهذا التعليل قد تعارض بيوم الأحد فإنه يوم عيد غير للنصارى
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم اليوم لنا وغدا لليهود وبعد للنصارى ومع
ذلك فلا يكره صومه
وأيضا فإذا كان يوم عيد فقد يقال مخالفتهم فيه
يكون بالصوم لا بالفطر فالصوم فيه تحقيق للمخالفة ويدل على ذلك ما رواه
الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن
عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أم سلمة أسألها أي
الأيام كان النبي صلى الله عليه و سلم أكثرها صياما فقالت كان يصوم السبت
ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد
للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم وصححه بعض الحفاظ
فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم فكيف نعلل كراهة صومه
بكونه عيدا لهم وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين
ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس قال الترمذي حديث حسن
وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم
وعلله طائفة بأنهم يتركون العمل فيه والصوم مظنة ذلك فإنه إذا ضم إليه
الأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم وزال عنها صورة
التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم فاتفقت بحمد الله الأحاديث
وزال عنها الاضطراب والاختلاف وتبين تصديق بعضها بعضا
فإن قيل
فما تقولون في صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من أعياد المشركين قيل قد كرهه كثير من العلماء وأكثر أصحاب أحمد على الكراهة
قال أحمد في رواية ابنه عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس
والحسن أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان قال عبد الله قال أبي الرجل
أبان بن أبي عياش
فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين دل ذلك على أنه اختاره
وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك
وقيل لا يكون هذا اختيارا له ولا ينسب إليه القول الذي حكاه وأكثر الأصحاب
على الكراهة وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما
بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت
قال صاحب المغني وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم
قال شيخنا أبو العباس بن تيمية قدس الله روحه وقد يقال يكره صوم يوم
النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما
جاء في الحديث من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذا الأيام
العجمية أو الجاهلية كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها
وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما
مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع
كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي توفيقا بين الآثار
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال عبدالحق ولعل مالكا إنما
جعله كذبا من أجل رواية ثور بن يزيد الكلاعي فإنه كان يرمي بالقدر ولكنه
كان ثقة فيما يروي
قاله يحيى وغيره
وروى عنه الجلة مثل يحيى بن
سعيد القطان وابن المبارك والثوري وغيرهم وقيل في هذا الحديث عن عبد الله
بن بسر عن عمته الصماء وهو أصح واسمها بهية وقيل بهيمة آخر كلامه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهو نص في أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصيام ولو كان سرد الصيام مشروعا أو
مستحبا لكان أكثر عملا فيكون أفضل إذ العبادة لا تكون إلا راجحة فلو كان عبادة لم يكن مرجوحا
وقد تأول قوم هذا على أن المعنى لا أفضل من ذلك للمخاطب وحده لما علم من
حاله ومنتهى قوته وأن ما هو أكثر من ذلك يضعفه عن فرائضه ويقطعه عن القيام
بما عليه من الحقوق وهذا تأويل باطل من وجوه
أحدها أن سياق الحديث
يرده فإنه إنما كان عن المطيق فإنه قال فإني أطيق أفضل من ذلك فسبب الحديث
في المطيق فأخبره أنه لا أفضل من ذلك للمطيق الذي سأل
ولو أن رجلا سأل من يفضل السرد
وقال إني أطيق أفضل من صوم يوم وفطر يوم لقال له السرد أفضل
الثاني أنه أخبر عنه بثلاث جمل إحداها أنه أعدل الصيام
والثانية أنه صوم داود
والثالثة أنه لا أفضل منه
وهذه الأخبار تمنع تخصيصه بالسائل
الثالث أن في بعض ألفاظ مسلم فيه فإني أقوى
قال فلم يزل يرفعني حتى قال صم يوما وأفطر يوما فإنه أفضل الصيام وهو صوم
أخي داود فعلل ذلك بكونه أفضل الصيام وأنه صوم داود مع إخباره له بقوته ولم
يقل له فإن قويت فالسرد أفضل
الرابع أن هذا موافق لقوله فيمن صام
الأبد لا صام ولا أفطر ومعلوم أن السائل لم يسأله عن الصوم المحرم الذي قد
استقر تحريمه عندهم ولو قدر أنه سأله عنه لم يكن ليجيب عنه بقوله لا صام
ولا أفطر بل كان يجيب عنه بصريح النهي
والسياق يدل على أنه إنما سأله
عن الصوم المأذون فيه لا الممنوع منه ولا يعبر عن صيام الأيام الخمسة وعن
المنع منها بقوله لا صام من صام الأبد ولا هذه العبارة مطابقة للمقصود بل
هي بعيدة منه جدا
الخامس أنه صلى الله عليه و سلم أخبر أن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب القيام إلى الله قيام داود وأخبر بهما معا
ثم فسره بقوله كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما رواه البخاري ومسلم
وهذا صريح في أنه إنما كان أحب إلى الله لأجل هذا الوصف وهو ما يتخلل
الصيام والقيام من الراحة التي تجم بها نفسه ويستعين بها على القيام
بالحقوق
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه
الله وقد رواه شعبة عن أبي بشر عن حميد بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله
عليه و سلم مرسلا فاختلف فيه شعبة وأبو عوانة فقال أبو عوانة عن أبي بشر
حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة
وقال شعبة عن أبي بشر عن حميد عن النبي صلى الله عليه و سلم ورجح الدارقطنى إرساله
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث قد اختلف فيه فأورده مسلم في صحيحه
وضعفه غيره وقال هو من رواية سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد قال النسائي في سننه سعد بن سعيد ضعيف كذلك قال
أحمد بن حنبل يحيى بن سعيد
الثقة المأمون أحد الأئمة وعبد ربه بن سعيد لا بأس به وسعد بن سعيد ثالثهم ضعيف
وذكر عبد الله بن الزبير الحميدي هذا الحديث في مسنده وقال الصحيح موقوفا
وقد روى الإخوة الثلاثة هذا الحديث عن عمر بن ثابت
فمسلم أورده من رواية سعد بن سعيد
ورواه النسائي من حديثه مرفوعا ومن حديث عبد ربه بن سعيد موقوفا
ورواه أيضا من حديث يحيى بن سعيد مرفوعا
وقد رواه أيضا ثوبان عن النبي قال صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة
أيام بشهرين فذاك صيام سنة رواه النسائي وفي لفظ له أيضا أنه سمع رسول الله
يقول جعل الله الحسنة بعشرة فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام
السنة قال الترمذي وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وثوبان وقد أعل حديث أبي
أيوب من جهة طرقه كلها
أما رواية مسلم فعن سعد بن سعيد وأما رواية
أخيه عبد ربه فقال النسائي فيه عتبة ليس بالقوي يعني روايه عن عبدالملك بن
أبي بكر عن يحيى
وأما حديث عبد ربه فإنما رواه موقوفا
وهذه العلل
وإن منعته أن يكون في أعلى درجات الصحيح فإنها لاتوجب وهنه وقد تابع سعدا
ويحيى وعبد ربه عن عمر بن ثابت عثمان بن عمرو الخزاعي عن عمر لكن قال عن
عمر عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب
ورواه أيضا صفوان بن سليم عن عمر
بن ثابت ذكره ابن حبان في صحيحه وابو داود والنسائي فهؤلاء خمسة يحيى وسعيد
وعبد ربه بنو سعيد وصفوان بن سليم وعثمان بن عمرو الخزاعي كلهم رووه عن
عمرو
فالحديث صحيح
وأما حديث ثوبان فقد رواه ابن حبان في صحيحه
ولفظه من صام رمضان وستا من شوال فقد صام السنة ورواه ابن ماجه
ولفظه من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها وأما حديث جابر فرواه أحمد في مسنده عن أبي عبدالرحمن
المقري عن سعيد ابن أبي أيوب عن عمرو بن جابر الحضرمي عن جابر عن النبي
وعمرو بن جابر ضعيف ولكن قال أبو حاتم
الرازي هو صالح له نحو عشرين حديثا
وقال أبو نعيم الأصبهاني روى عن عمرو بن دينار ومجاهد عن جابر مثله
وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو نعيم من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ورواه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي
قال أبو نعيم ورواه عمرو بن دينار عن عبدالرحمن بن أبي هريرة عن أبيه ورواه إسماعيل بن رافع عن أبي صالح عن أبي هريرة
وهذه الطرق تصلح للاعتبار والاعتضاد
وقد احتج أصحاب السنن الأربعة بليث وقد روى حديث شداد بن أوس قال
عبدالرحمن بن أبي حاتم في كتاب العلل سمعت أبي وذكر حديثا رواه سويد بن
عبدالعزيز عن يحيى بن الحارث عن أبي الأشعث الصنعاني عن أبي اسماء عن ثوبان
مرفوعا من صام رمضان وأتبعه بست من شوال قال أبي هذا وهم من سويد قد سمع
يحيى بن الحرث هذا الحديث من أبي اسماء إنما أراد سويد ما حدثنا صفوان بن
صالح أخبرنا مروان الطاطري عن يحيى بن حمزة عن يحيى بن الحرث عن أبي الأشعث
الصنعاني عن شداد بن أوس عن النبي قال من صام رمضان الحديث وهذا إسناد
ثقات كلهم ثم قال ابن أبي حاتم بعد ذلك سئل أبي عن حديث رواه مروان الطاطري
عن يحيى بن حمزه وذكر هذا الحديث حديث شداد بن أوس قال سمعت أبي يقول
الناس يروون عن يحيى بن الحرث عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي
قلت لأبي أيهما الصحيح قال جميعا صحيح
وقال الدارقطني حدثنا إبراهيم بن محمد الرقي أخبرنا أبو همام أخبرنا يحيى
بن حمزة عن إسحاق بن عبد الله قال حدثني سعد بن سعيد عن عدى بن ثابت عن
البراء بن عازب عن النبي أنه قال من صام ستة أيام بعد الفطر فكأنما صام
الدهر كله ويحيى بن حمزة قاضي دمشق صدوق وأبو همام الوليد بن شجاع السكونى
أخرج له مسلم وهذا غريب لعله اشتبه على بعض رواته عمر بن ثابت بعدي بن ثابت
وتأكد الوهم فجعله عن البراء بن عازب لكثرة رواية عدي بن ثابت عنه
وقد اختلف أهل العلم في القول بموجب هذه الأحاديث
فدهب أكثرهم إلى القول باستحباب صومها
منهم الشافعي وأحمد وابن المبارك وغيرهم
وكرهها آخرون
منهم مالك
وقال مطرف كان مالك يصومها في خاصة نفسه
قال وإنما كره صومها لئلا يلحق أهل الجاهلية ذلك برمضان
فأما من يرغب في ذلك لما جاء فيه فلم ينهه
وقد اعترض بعض الناس على هذه الأحاديث باعتراضات نذكرها ونذكر الجواب عنها إن شاء الله تعالى
الاعتراض الأول تضعيفها
قالوا وأشهرها حديث أبي أيوب ومداره على سعد بن سعيد وهو ضعيف جدا تركه
مالك وأنكر عليه هذا الحديث وقد ضعفه أحمد وقال الترمذي تكلموا فيه من قبل
حفظه
وقال النسائي ليس بالقوي وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بحديث سعد بن سعيد
وجواب هذا الاعتراض أن الحديث قد صححه مسلم وغيره
وأما قولكم يدور على سعد بن سعيد فليس كذلك بل قد رواه صفوان بن سليم
ويحيى بن سعيد اخو سعد المذكور وعبد ربه بن سعيد وعثمان بن عمر الخزاعي
أما حديث صفوان فأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان
وأما حديث يحيى بن سعيد فرواه النسائي عن هشام بن عمار عن صدقة بن خالد متفق عليهما عن عتبة بن أبي حكيم
وثقة الرازيان وابن معين وابن حبان عن عبدالملك بن أبي بكر بن عبدالرحمن
بن الحرث بن هشام وعبدالملك بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم وإسماعيل بن
إبراهيم الصائغ ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد عن عمر به
فإن قيل فقد رواه
حفص بن غياث وهو اثبت ممن ذكرت عن يحيى بن سعيد عن أخيه سعد بن سعيد عن
عمرو بن ثابت فدل على أن يحيى بن سعيد لم يروه عن عمر بن ثابت وإلا لما
رواه عن أخيه عنه ورواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت
عن البراء فقد اختلف فيه
قيل رواية عبد الملك ومن معه عن يحيي بن سعيد
أرجح من رواية حفص بن غياث لأنهم أتقن وأكثر وأبعد عن الغلط ويحتمل أن
يكون يحيى سمعه من أخيه فرواه كذلك ثم سمعه من عمر ولهذا نظائر كثيرة وقد
رواه عبد الله بن لهيعة عن عبد ربه بن سعيد عن أخيه يحيى بن سعيد عن عمر
فإن كان يحيى إنما سمعه من أخيه سعد فقذ اتفقت فيه رواية الإخوة الثلاثة له
بعضهم عن بعض
وأما حديث عبد ربه بن سعيد فذكره البيهقي وكذلك حديث عثمان بن عمرو الخزاعي
وبالجملة فلم ينفرد به سعد سلمنا انفراده لكنه ثقة صدوق روى له مسلم وروى
عنه شعبة وسفيان الثوري وابن عيينة وابن جريج وسليمان بن بلال وهؤلاء أئمة
هذا الشأن
وقال أحمد كان شعبة أمة وحدة في هذا الشأن قال عبد الله يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته
للرجال وقال محمد بن سعد شعبة أول من فتش عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار علما يقتدى به وتبعه عليه بعده أهل العراق
وأما ما ذكرتم من تضعيف أحمد والترمذي والنسائي فصحيح
وأما ما نقلتم عن ابن حبان فإنما قاله في سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري
وليس في كتابه غيره وأما سعد بن سعيد الأنصارى المدني فإنما ذكره في كتاب
الثقات وقد قال أبو حاتم الرازي عن ابن معين سعد بن سعيد صالح وقال محمد بن
سعد ثقة قليل الحديث وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول كان سعد بن سعيد
مؤديا يعني أنه كان يحفظ ويؤدي ما سمع
وقال ابن عدي له أحاديث صالحة
تقرب من الاستقامة ولا أرى بحديثه بأسا مقدار ما يرويه ومثل هذا إنما ينفي
ما ينفرد به أو يخالف به الثقات فأما إذا لم ينفرد وروى ما رواه الناس فلا
يطرح حديثه
سلمنا ضعفه لكن مسلم إنما احتج بحديثه لأنه ظهر له أنه لم
يخطىء فيه بقرائن ومتابعات ولشواهد دلته على ذلك وإن كان قد عرف خطؤه في
غيره فكون الرجل يخطىء في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطىء
فيه وهكذا حكم كثير من الأحاديث التي خرجاها وفي إسنادها من تكلم فيه من
جهة حفظه فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعا
وههنا دقيقة
ينبغي التفطن لها وهي أن الحديث الذي روياه أو أحدهما واحتجا برجاله أقوى
من حديث احتجا برجاله ولم يخرجاه فتصحيح الحديث أقوى من تصحيح السند
فإن قيل فلم لا أخرجه البخاري قيل هذا لا يلزم لأنه رحمه الله لم يستوعب
الصحيح وليس سعد بن سعيد من شرطه على أنه قد استشهد به في صحيحه فقال في
كتاب الزكاة وقال سليمان عن سعد بن سعيد عن عمارة بن غزية عن ابن عباس عن
أبيه عن النبي صلى الله أحد جبل يحبنا ونحبه
الاعتراض الثاني أن هذا
الحديث قد اختلف في سنده على عمر بن ثابت فرواه أبو عبدالرحمن المقري عن
سعيد عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب موقوفا ذكره النسائي
وأخرجه أيضا من حديث عثمان بن عمرو بن ساج عن عمر بن ثابت عن محمد بن
المنكدر عن أبي أيوب وهذا يدل على أن طريق سعد بن سعيد غير متصلة حيث لم
يذكر محمد بن المنكدر بين عمر بن ثابت وأبي أيوب وقد رواه إسماعيل بن عياش
عن محمد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن أبي أيوب
فدل على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب أصلا
ورواه أبو داود الطيالسي عن ورقاء بن عمر اليشكري عن سعد بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب
وهذا الاختلاف يوجب ضعفه
والجواب أن هذا لا يسقط الاحتجاج به أما رواية عبد ربه بن سعيد له موقوفا فإما أن يقال الرفع زيادة
وإما أن يقال هو مخالفة وعلى التقديرين فالترجيح حاصل بالكثرة والحفظ فإن
صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد وهما إمامان جليلان وسعد بن سعيد وهو ثقة محتج
به في الصحيح اتفقوا على رفعه وهم أكثر وأحفظ على أن المقبرى لم يتفق عنه
على وقفه
بل قد رواه أحمد بن يوسف السلمي شيخ مسلم وعقيل بن يحيى
جميعا عنه عن شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعا
وذكره ابن منده وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة ومقو لحديث صفوان بن
سليم وسعد بن سعيد
وأيضا فقد رواه محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن ورقاء
عن سعد بن سعيد مرفوعا كرواية الجماعة وغندر أصح الناس حديثا في شعبة حتى
قال علي بن المديني هو أحب إلي من عبدالرحمن بن مهدي في شعبة فمن يكون
مقدما على عبدالرحمن بن مهدي في حديث شعبة يكون قوله أولى من المقبري
وأما حديث عثمان بن عمرو بن ساج فقال أبو القاسم بن عساكر في أطرافه عقب
روايتها هذا خطأ والصواب عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب من غير ذكر محمد بن
المنكدر
وقد قال أبو حاتم الرازي عثمان والوليد ابنا عمرو بن ساج يكتب حديثهما ولا يحتج به وقال النسائي رأيت عنده كتبا في غير هذا
فإذا أحاديث شبه أحاديث محمد بن أبي حميد فلا أدري أكان سماعه من محمد أم
من أولئك المشيخة فإن كانت تلك الأحاديث أحاديثه عن أولئك المشيخة ولم يكن
سمعه من محمد فهو ضعيف
وأما رواية إسماعيل بن عياش له عن محمد بن أبي
حميد فإسماعيل بن عياش ضعيف في الحجازيين ومحمد بن حميد متفق على ضعفه
ونكارة حديثه وكأن ابن ساج سرق هذه الرواية عن محمد بن حميد والغلط في
زيادة محمد بن المنكدر منه
والله أعلم
وأما رواية أبي داود
الطيالسي فمن رواية عبد الله بن عمران الأصبهاني عنه قال ابن حبان كان يغرب
وخالفه يونس بن حبيب فرواه عن أبي داود عن ورقاء بن عمر عن سعد بن سعيد عن
عمر بن ثابت موافقة لرواية الجماعة
فإن قيل فالحديث بعد هذا كله مداره على عمر بن ثابت الأنصاري لم يروه عن أبي أيوب غيره فهو شاذ فلا يحتج به
قيل ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه
المثابة كحديث الأعمال بالنيات تفرد علقمة بن وقاص به وتفرد محمد بن
إبراهيم التيمي به عنه وتفرد
يحيى بن سعيد به عن التيمي
وقال
يونس بن عبدالأعلى قال لي الشافعي ليس الشاذ أن يروي الثقة ما لا يروي غيره
إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس
وأيضا فليس هذا
الأصل مما تفرد به عمر بن ثابت لرواية ثوبان وغيره له عن النبي وقد ترجم
ابن حبان على ذلك في صحيحه فقال بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت ذكر الخبر
المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب وذكر حديث
ثوبان من رواية هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن يحيى بن الحرث الذماري
عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان ورواه ابن ماجه
ولكن لهذا الحديث علة وهي أن أسد بن موسى رواه عن الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن يحيى بن الحرث به
والوليد مدلس وقد عنعنه فلعله وصله مرة ودلسه أخرى
وقد رواه النسائي من حديث يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب بن سابور وكلاهما عن يحيى بن الحرث الذماري به
ورواه أحمد في المسند عن أبي اليمامة عن إسماعيل بن عياش عن يحيى بن الحرث
به وقد صحح الحديث أبو حاتم الرازي وإسماعيل إذا روى عن الشاميين فحديثه
صحيح وهذا إسناد شامي
الاعتراض الثالث أن هذا الحديث غير معمول به عند أهل العلم
قال مالك في الموطأ ولم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني
ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق
برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عن أهل العلم
ورأوهم يعملون ذلك تم كلامه قال الحافظ أبو محمد المنذري والذي خشي منه
مالك قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والنواقيس وشعائر
رمضان إلى آخر الستة الأيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد
ويؤيد هذا ما
رواه أبو داود في قصة الرجل الذي دخل المسجد وصلى الفرض ثم قام يتنفل فقام
إليه عمر وقال له اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا
فقال له رسول الله أصاب الله بك ياابن الخطاب
قالوا فمقصود عمر أن
اتصال الفرض بالنفل إذا حصل معه التمادي وطال الزمن ظن الجهال أن ذلك من
الفرض كما قد شاع عند كثير من العامة أن صبح يوم الجمعة خمس سجدات ولا بد
فإذا تركوا قراءة الم تنزيل قرأوا غيرها من سور السجدات بل نهى عن الصوم
بعد انتصاف شعبان حماية لرمضان أن يخلط به صوم غيره فكيف بما يضاف إليه
بعده فيقال الكلام هنا في مقامين أحدهما في صوم ستة من شوال من حيث الجملة
والثاني في وصلها به
أما الأول فقولكم أن الحديث غير معمول به فباطل وكون أهل المدينة في زمن
مالك لم يعملوا به لا يوجب ترك الأمة كلهم له وقد عمل به أحمد والشافعي
وابن المبارك وغيرهم
قال ابن عبدالبر لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على
أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه والذي كرهه مالك قد بينه
وأوضحه خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يسبق ذلك إلى العامة وكان متحفظا
كثير الاحتياط للدين وأما صوم الستة الأيام على طلب الفضل وعلى التأويل
الذي جاء به ثوبان فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جنة وفضله
معلوم يدع طعامه وشرابه لله وهو عمل بر وخير وقد قال تعالى وافعلوا الخير
لعلكم تفلحون ومالك لا يجهل شيئا من هذا
ولم يكره من ذلك إلا ما
خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعد من فرائض الصيام
مضافا إلى رمضان وما أظن مالكا جهل الحديث لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن
ثابت وأظن عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه وقد ترك مالك الاحتجاج
ببعض ما رواه عمر بن ثابت
وقيل إنه روى عنه ولولا علمه به ما أنكر بعض
شيوخه إذ لم يثق بحفظه لبعض ما يرويه وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو
علمه لقال به هذا كلامه
وقال القاضي عياض أخذ بهذا الحديث جماعة من العلماء
وروي عن مالك وغيره كراهية ذلك ولعل مالكا إنما كره صومها على ما قال في
الموطأ أن يعتقد من يصومه أنه فرض وأما على الوجه الذي أراده النبي فجائز
وأما المقام الثاني فلا ريب أنه متى كان في وصلها برمضان مثل هذا المحذور
كره أشد الكراهة وحمى الفرض أن يخلط به ما ليس منه ويصومها في وسط الشهر أو
آخره وما ذكروه من المحذور فدفعه والتحرز منه واجب وهو من قواعد الإسلام
فإن قيل الزيادة في الصوم إنما يخاف منها لو لم يفصل بين ذلك بفطر يوم العيد فأما وقد تخلل فطر يوم العيد فلا محذور
وهذا جواب أبي حامد الاسفرايني وغيره
قيل فطر العيد لا يؤثر عند الجهلة في دفع هذه المفسدة
لأنه لما كان واجبا فقد يرونه كفطر يوم الحيض لا يقطع التتابع واتصال
الصوم فبكل حال ينبغي تجنب صومها عقب رمضان إذا لم تؤمن معه هذا المفسدة
والله أعلم
فصل فإن قيل لم قال ست والأيام مذكرة فالأصل أن يقال ستة كما قال الله
تعالى سبع ليال وثمانية أيام وهل لشوال بخصوصه مزية على غيره في ذلك أم لا
وهل للست خصوصية على ما دونها وأكثر منها أم لا وكيف شبه من فعل ذلك بصيام
الدهر فيكون العمل اليسير مشبها بالعمل الكثير ومن جنسه ومعلوم أن من عمل
عملا وعمل الآخر بقدره مرتين لا يستويان فكيف يكون بقدره عشر مرات وهل فرق
بين قوله فكأنما صام الدهر وبين أن يقال فكأنه قد صام الدهر وهل يدل الحديث
على استحباب صيام الدهر لأجل هذا التشبيه أم لا فالجواب أما قوله ست ولم
يقل ستة فالعرب إذا عدت الليالي والأيام فإنها تغلب الليالي إذا لم تضف
العدد إلى الأيام فمتى أرادوا عد الأيام عدوا الليالي ومرادهم الأيام
قال تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا قال الزمخشري ولو قيل وعشرة لكان لحنا
وقال تعالى يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا فهذه أيام بدليل قوله تعالى
بعدها إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما فدل الكلام الأخير على أن
المعدود الأول أيام وأما قوله تعالى سبع ليال وثمانية أيام فلا تغليب هناك
لذكر النوعين وإضافة كل عدد إلى نوعه
وأما السؤال الثاني وهو اختصاص شوال ففيه طريقان
أحدهما أن المراد به الرفق بالمكلف لأنه حديث عهد بالصوم فيكون أسهل عليه
ففي ذكر شوال تنبيه على أن صومها في غيره أفضل هذا الذي حكاه القرافي من
المالكية وهو غريب عجيب
الطريق الثاني أن المقصود به المبادرة بالعمل وانتهاز الفرصة خشية الفوات
قال تعالى فاستبقوا الخيرات وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وهذا تعليل طائفة من الشافعية وغيرهم
قالوا ولا يلزم أن يعطى هذا الفضل لمن صامها في غيره لفوات مصلحة المبادرة والمسارعة المحبوبة لله
قالوا وظاهر الحديث مع هذا القول
ومن ساعده الظاهر فقوله أولى
ولا ريب أنه لا يمكن إلغاء خصوصية شوال وإلا لم يكن لذكره فائدة
وقال آخرون لما كان صوم رمضان لا بد أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط وهضم من
حقه وواجبه ندب إلى صوم ستة أيام من شوال جابرة له ومسددة لخلل ما عساه أن
يقع فيه
فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي يتنفل بها بعدها جابرة ومكملة وعلى هذا تظهر فائدة اختصاصها بشوال والله أعلم
فهذه ثلاث مآخذ
وسوى هذا جواب السؤال الثالث وهو اختصاصها بهذا العدد دون ماهو أقل وأكثر
فقد أشار في الحديث إلى حكمته فقال في حديث أبي هريرة من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها فثلاثين بثلاثمائة وستة بستين وقد صام السنة وكذلك في حديث
ثوبان ولفظه من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها لفظ ابن ماجه
وأخرجه صاحب المختارة
ولفظ النسائي فيه صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين
فذلك صيام سنة يعني صيام رمضان وستة أيام بعده فهذه هي الحكمة في كونها ستة
وأما ما ذكره بعضهم من أن الستة عدد تام فإنها إذا جمعت أجزاؤها قام منها عدد السنة
فإن أجزاءها النصف والثلث والسدس ويكمل بها بخلاف الأربعة والاثني عشر وغيرهما فهذا لا يحسن ولا يليق أن يذكر في أحكام الله ورسوله
وينبغي أن يصان الدين عن التعليل بأمثاله
وأما السؤال الرابع وهو تشبيه هذا الصيام بصيام الدهر مع كونه بقدره عشر مرات فقد أشكل هذا على كثير من الناس
وقيل في جوابه أن من صام رمضان وستة من شوال من هذه الأمة فهو كمن صام السنة من الأمم المتقدمة
قالوا لأن تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها من خصائص هذه الأمة
وأحسن من هذا أن يقال العمل له بالنسبة إلى الجزاء اعتباران اعتبار
المقابلة والمساواة وهو الواحد بمثله واعتبار الزيادة والفضل وهو المضاعفة
إلى العشر فالتشبيه وقع بين العمل المضاعف ثوابه وبين العمل الذي يستحق به
مثله ونظير هذا قوله من صلى عشاء الآخرة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة ومن
صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام ليلة
أما السؤال الخامس وهو الفرق بين أن يقول فكأنما قد صام الدهر وبين قوله فكأنما صام الدهر هو أن المقصود تشبيه الصيام بالصيام
ولو قال فكأنه قد صام الدهر لكان بعيدا عن المقصود فإنه حينئذ يكون تشبيها للصائم بالصائم
فمحل التشبيه هو الصوم لا الصائم ويجيء الفاعل لزوما ولو شبه الصائم لكان
هو محل التشبيه ويكون مجيء الصوم لزوما وإنما كان قصد تشبيه الصوم أبلغ
وأحسن لتضمنه تنبيه السامع على قدر الفعل وعظمه وكثرة ثوابه فتتوفر رغبته
فيه
وأما السؤال السادس وهو الاستدلال به على استحباب صيام الدهر فقد استدل به طائفة ممن يرى ذلك
قالوا ولو كان صوم الدهر مكروها لما وقع التشبيه به بل هذا يدل على أنه أفضل الصيام وهذا الاستدلال فاسد جدا من وجوه
أحدها أن في الحديث نفسه أن وجه التشبيه هو أن الحسنة بعشر أمثالها فستة
وثلاثون يوما بسنة كاملة ومعلوم قطعا أن صوم السنة الكاملة حرام بلا ريب
والتشبيه لا يتم إلا بدخول العيدين وأيام التشريق في السنة وصومها حرام
فعلم أن التشبيه المذكور لا يدل على جواز وقوع المشبه به فضلا عن استحبابه
فضلا عن أن يكون أفضل من غيره
ونظير هذا قول النبي لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد فقال لا تستطيعه
هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر قال لا
قال فذلك مثل المجاهد ومعلوم أن هذا المشبه به غير مقدور ولا مشروع
فإن قيل يحمل قوله فكأنما صام الدهر على ما عدا الأيام المنهي عن صومها
قيل تعليله حكمة هذه المقابلة وذكره الحسنة بعشر أمثالها وتوزيع الستة والثلاثين يوما على أيام السنة يبطل هذا الحمل
الثاني أن النبي سئل عمن صام الدهر فقال لا صام ولا أفطر وفي لفظ لا صام
من صام الأبد فإذا كان هذا حال صيام الدهر فكيف يكون أفضل الصيام الثالث أن
النبي ثبت عنه في الصحيحين أنه قال أفضل الصيام صيام داود وفي لفظ لا أفضل
من صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما فهذا النص الصحيح الصريح الرافع لكل
إشكال يبين أن صوم يوم وفطر يوم أفضل من سرد الصوم
مع أنه أكثر عملا
وهذا يدل على أنه مكروه لأنه إذا كان الفطر أفضل منه لم يمكن أن يقال بإباحته واستواء طرفيه
فإن العبارة لا تكون مستوية الطرفين ولا يمكن أن يقال هو أفضل من الفطر
بشهادة النص له بالإبطال فتعين أن يكون مرجوحا وهذا بين لكل منصف
ولله الحمد
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي صومه صلى الله عليه و سلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان
أحدها أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغل عن الصيام أشهرا فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض
الثاني أنه فعل ذلك تعظيما لرمضانوهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيما لحقها
الثالث أنه شهر ترفع فيه الأعمال فأحب صلى الله عليه و سلم أن يرفع عمله وهو صائم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأخرج النسائي من حديث المسيب بن رافع عن سواد الخزاعي
عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم الاثنين والخميس
وأخرج عن المسيب عن حفصة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم
الاثنين والخميس
وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام
الاثنين فقال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه وفيه من رواية
شعبة وسئل عن صوم الاثنين والخميس قال مسلم فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه
وهما
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي مسند أحمد وسنن
النسائي عن حفصة قالت أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه و سلم
صيام
عاشوراء والعشر وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل الغداة وفي مسند أحمد أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد ورد في النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة آثار
منها ما رواه النسائي عن عمرو بن دينار عن عطاء عن عبيد بن عمير قال كان
عمر ينهي عن صوم يوم عرفة بعرفة ومنها ما رواه أيضا عن أبي السوار قال سألت
ابن عمر عن صوم يوم عرفة فنهاني والمراد بذلك بعرفة
بدليل ما روى
نافع قال سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة بعرفة فقال لم يصمه رسول الله صلى
الله عليه و سلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان وعن عطاء قال دعا عبد الله
بن عباس الفضل بن عباس يوم عرفة إلى الطعام فقال إني
صائم
فقال عبد الله لا تصم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرب إليه حلاب فيه لبن يوم عرفة فشرب منه فلا تصم
فإن الناس يستنوون بكم رواهما النسائي ثم قال وقد أخرجا في الصحيحين من
حديث كريب عن ميمونة بنت الحرث أنها قالت إن الناس شكوا في صيام رسول الله
صلى الله عليه و سلم يوم عرفة فأرسلت إليه يعني ميمونة بحلاب لبن وهو واقف
في الموقف فشرب منه والناس ينظرون فقيل يحتمل أن تكون ميمونة أرسلت وأم
الفضل أرسلت كل منهما بقدح ويحتمل أن يكونا مجتمعين فإنها أختها فاتفقنا
على الإرسال بقدح واحد فينسب إلى هذه وإلى هذه فقد صح عن رسول الله صلى
الله عليه و سلم أنه أفطر بعرفة وصح عنه أن صيامه يكفر سنتين فالصواب أن
الأفضل لأهل الآفاق صومه ولأهل عرفة فطره
لاختياره صلى الله عليه و
سلم ذلك لنفسه وعمل خلفائه بعده بالفطر وفيه قوة على الدعاء الذي هو أفضل
دعاء العبد وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة فلا يستحب لهم صيامه
وبعض الناس يختار الصوم وبعضهم يختار الفطر وبعضهم يفرق بين من يضعفه ومن لا يضعفه
وهو اختيار قتادة والصيام اختيار ابن الزبير وعائشة وقال عطاء أصومه في
الشتاء ولا أصومه في الصيف وكان بعض السلف لا يأمر به ولا ينهي عنه ويقول
من شاء صام ومن شاء أفطر
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لا نقل اليوم لما روى أحمد في
مسنده من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال خالفوا
اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده وقال عطاء عن ابن عباس صوموا التاسع
والعاشر وخالفوا اليهود ذكره البيهقي
وهو يبين أن قول ابن عباس إذا
رأيت هلال المحرم فاعدد فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائما أنه ليس المراد به
أن عاشوراء هو التاسع بل أمره أن يصوم اليوم التاسع قبل عاشوراء
فإن قيل ففي آخر الحديث قيل كذلك كان يصومه محمد صلى الله عليه و سلم قال نعم فدل على أن المراد به نقل الصوم لا صوم يوم قبله
قيل قد صرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه و سلم قاللئن بقيت إلى قابل
لأصومن التاسع فدل على أن الذي كان يصومه هو العاشر وابن عباس راوي
الحديثين معا فقوله هكذا كان يصومه محمد أراد به والله أعلم قوله لئن بقيت
إلى قابل لأصومن التاسع عزم عليه وأخبر أنه يصومه إن بقي
قال ابن عباس
هكذا كان يصومه وصدق رضي الله عنه هكذا كان يصومه لو بقي فتوافقت الروايات
عن ابن عباس وعلم أن المخالفة المشار إليها بترك إفراده بل يصام يوم قبله
أو يوم بعده ويدل عليه أن في رواية الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني لصوم عاشوراء وخالفوا
اليهود فصوموا قبله يوما وبعده يوما فذكر هذا عقب قوله لأصومن التاسع يبين
مراده
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه
الله قال عبد الحق ولا يصح هذا الحديث في القضاء قال ولفظة اقضوه تفرد بها
أبو داود ولم يذكرها النسائي
قال واختلف الناس في يوم عاشوراء هل كان صومه واجبا أو تطوعا فقالت طائفة كان واجبا
وهذا قول أبي حنيفة وروى عن أحمد وقال أصحاب الشافعي لم يكن واجبا وإنما كان تطوعا واختاره القاضي أبو يعلى
وقال هو قياس المذهب واحتج هؤلاء بثلاث حجج
إحداها ما أخرجاه في الصحيحين عن حميد بن عبدالرحمن أنه سمع معاوية بن أبي
سفيان خطيبا بالمدينة يعني في قدمة قدمها خطبهم يوم عاشوراء فقال أين
علماؤكم ياأهل المدينة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لهذا اليوم
هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم أن
يصوم فليصم ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر
الحجة الثانية ما في
الصحيحين أيضا عن سلمة بن الأكوع قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم
رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن في الناس من كان لم يصم فليصم
قالوا فهذا أمر بإنشاء الصيام أثناء النهار
وهذا لا يجوز إلا في التطوع
وأما الصيام الواجب فلا يصح إلا بنية قبل الفجر
الحجة الثالثة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر المفطرين فيه إذ ذاك بالقضاء
واحتج الأولون بحجج
إحداها ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة قالت كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه
فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه
فلما فرض شهر رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه وفي صحيح البخاري عن ابن
عمر قال صام النبي صلى الله عليه و سلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض
رمضان تركه
قالوا ومعلوم أن الذي ترك هو وجوب صومه لا استحبابه فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرغب فيه ويخبر أن صيامه كفارة سنة
وقد أخبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصومه إلى حين وفاته
وأنه عزم قبل وفاته بعام على صيام التاسع فلو كان المتروك مشروعيته لم يكن
لقصد المخالفة بضم التاسع إليه معنى فعلم أن المتروك هو وجوبه
الحجة
الثانية أن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من كان أكل بأن
يمسك بقية يومه وهذا صريح في الوجوب فإن صوم التطوع لا يتصور فيه إمساك بعد
الفطر
الحجة الثالثة ما في الصحيحين أيضا عن عائشة قالت كان يوم
عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية فذكرت الحديث إلى أن قالت فلما فرض رمضان
كان هو الفريضة الحديث
وهذا اللفظ من سياق البيهقي
فقولها كان هو الفريضة دل على أن عاشوراء كان واجبا وأن رمضان صار هو الفرض لا عاشوراء وإلا لم يكن لقولها كان هو الفريضة معنى
قال الموجبون وأما حديث معاوية فمعناه ليس مكتوبا عليكم الآن أو لم يكتبه
بعد نزول رمضان أو إنما نفى الكتب وهو الفرض المؤكد الثابت بالقرآن ووجوب
عاشوراء إنما كان بالسنة ولا يلزم من نفى كتبه وفرضه نفى كونه واجبا
فإن المكتوب أخص من مطلق الواجب
وهذا جار على أصل من يفرق بين الفرض والواجب
وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أنه لا يقال فرض إلا لما ثبت بالقرآن وأما ثبت بالسنة فإنه يسميه واجبا
قالوا وأما تصحيحه بنية من النهار
فالجواب عنه من وجهين أحدهما أن هذا حجة لمن يقول بجواز صوم الفرض بنية من النهار
قالوا وهو عمدتنا في المسألة
فليس لكم أن تنفوا وجوبه بناءا على بطلان هذا القول فإنه دور ممتنع ومصادر باطلة
وهذا جواب أصحاب أبي حنيفة
قال منازعوهم إذا قلتم إنه كان واجبا ثبت نسخه اتفاقا وأنتم إنما جوزتم
الصوم المفروض بنية من النهار بطريق الاستنباط منه وأن ذلك من متعلقاته
ولوازمه والحكم إذا نسخ نسخت لوازمه ومتعلقاته ومفهومه وما ثبت بالقياس
عليه لأنها فرع الثبوت على الأصل فإذا ارتفع الأصل امتنع بقاء الفرع بعده
قال الحنفية الحديث دل على شيئين
أحدهما إجزاء الصوم الواجب بنية من النهار
والثاني تعيين الصوم الواجب بأنه يوم عاشوراء فنسخ تعيين الواجب برمضان
وبقي الحكم الآخر لا معارض له فلا يصح دعوى نسخه إذ الناسخ إنما هو تعيين
الصوم وإبداله بغيره لا إجزاؤه بنية من النهار
الجواب الثاني أن ذلك الصوم إنما صح بينة من النهار لأن الوجوب إنما ثبت في حق المكلفين من النهار
حين أمر النبي صلى الله عليه و سلم المنادي أن ينادي بالأمر بصومه فحينئذ
تحدد الوجوب فقارنت النية وقت وجوبه وقيل هذا لم يكن واجبا فلم تكن نية
التبييت واجبة
قالوا وهذا نظير الكافر يسلم في أثناء النهار أو الصبي
يبلغ فإنه يمسك من حين يثبت الوجوب في ذمته ولا قضاء عليه كما قاله مالك
وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين عنه ونظيره أيضا إذا أثبتنا
الصوم تطوعا بنية من النهار ثم نذر إتمامه فإنه يجزئه بنيته عند مقارنة
الوجوب
قالوا ولا يرد علينا ما إذا قامت البينة برؤية هلال رمضان في أثناء النهار حيث يلزم القضاء لمن لم يكن قد بيت الصوم
لأن الوجوب هنا كان ثابتا وإنما خفي على بعض الناس وتساوي المكلفين في
العلم بالوجوب لا يشترط بخلاف ابتداء الأمر بصيام عاشوراء فإنه حينئذ
ابتداء وجوبه
فالفرق إنما هو بين ابتداء الوجوب والشروع في الإمساك
عقبه وبين خفاء ما تقدم وجوبه ثم تجدد سبب العلم بوجوبه فإن صح هذا الفرق
وإلا فالصواب التسوية بين الصورتين وعدم وجوب القضاء
والله أعلم
وذكر الشافعي هذه الأحاديث في كتاب مختلف الحديث ثم قال وليس من هذه الإحاديث شيء مختلف عندنا
والله أعلم إلا شيئا ذكر في حديث عائشة وهو مما وصفت من الأحاديث التي
يأتي بها المحدث ببعض دون بعض فحديث ابن أبي ذئب عن عائشة كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يصوم عاشوراء ويأمرنا بصيامه لو انفرد كان ظاهره أن
عاشوراء كان فرضا فذكر هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم
صامه في الجاهلية
وأمر بصيامه فلما نزل رمضان كان الفريضة وترك
عاشوراء قال الشافعي لا يحتمل قول عائشة ترك عاشوراء معنى يصح إلا ترك
إيجاب صومه إذا علمنا أن كتاب
الله بين لهم أن شهر رمضان المفروض صومه وأبان لهم ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ترك استحباب صومه وهو أولى الأمور عندنا
لأن حديث ابن عمر ومعاوية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله لم
يكتب صوم يوم عاشوراء على الناس ولعل عائشة إن كانت ذهبت إليه أنه كان
واجبا ثم نسخ قالته لأنه يحتمل أن تكون رأت النبي صلى الله عليه و سلم لما
صامه وأمر بصومه كان صومه فرضا ثم نسخه ترك أمره من شاء أن يدع صومه
ولا أحسبها ذهبت إلى هذا ولا ذهبت إلا إلى المذهب الأول لأن الأول هو
الموافق للقرآن أن الله فرض الصوم فأبان أنه شهر رمضان ودل حديث ابن عمر
ومعاوية عن النبي صلى الله عليه و سلم على مثل معنى القرآن بأن لا فرض في
الصوم إلا رمضان وكذلك قول ابن عباس ماعلمت رسول الله صلى الله عليه و سلم
صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء كأنه يذهب
بتحرى فضله إلى التطوع بصومه
آخر كلامه
قالوا وأما حجتكم الثالثة
بأنه لم يأمرهم بالقضاء فجوابها من وجهين أحدهما أنا قد ذكرنا حديث أبي
داود أنهم أمروا بالقضاء وقد اختلف في هذا الحديث فإن كان ثابتا فهو دليل
على الوجوب وإن لم يكن ثابتا فإنما لم يؤمروا بالقضاء لعدم تقدم الوجوب إذ
الوجوب إنما ثبت عند أمره فاكتفى منهم بإمساك ما بقي كالصبي يبلغ والكافر
يسلم والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى
الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم ياأبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاثة عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وفي
صحيح مسلم عن أبي قتادة يرفعه ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام
الدهر كله وروى النسائي عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة
وأربع عشرة وخمس عشرة وروى أيضا عن أبي هريرة قال جاء أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه و سلم بأرنب قد شواها فوضعها بين يديه فأمسك فلم يأكل وأمر
القوم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما منعك
أن تأكل قال إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر
قال إن كنت صائما فصم الغد
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روي صيامها على صفة أخرى فعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم من الشهر
السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن
وقد روي فيه صفة أخرى فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان
يصوم ثلاثة أيام من كل شهر يوم الاثنين من أول الشهر ثم الخميس الذي يليه
ثم الخميس الذي يليه رواه النسائي
وقد جاء على صفة أخرى فعن هنيدة الخزاعي عن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بصيام ثلاثة أيام أول خميس
والاثنين والاثنين رواه النسائي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال النسائي الصواب عندنا موقوف
ولم يصح رفعه ومدار رفعه على ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر
فأما حديث
عبد الله بن أبي بكر فمن رواية يحيى بن أيوب عنه قال النسائي ويحيى بن
أيوب ليس بالقوي وحديث ابن جريج عن الزهري غير محفوظ
وقال البيهقي عبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه وهو من الثقات الأثبات
آخر كلامه
وقد روي من حديث عمرة عن عائشة واختلف عليها في وقفه ورفعه فرواه
الدارقطني عنها مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم من لم يبيت الصيام قبل
طلوع الفجر فلا صيام له قال الدارقطني تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل
يعني ابن فضالة بهذا الإسناد وكلهم ثقات وغيره يرويه موقوفا على عائشة
قاله عبدالحق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله زاد النسائي
فأكل وقال ولكن أصوم يوما مكانه ثم قال هذا خطأ قال عبد الحق قد روى
الحديث جماعة عن طلحة فلم يذكر أحد منهم ولكن أصوم يوما مكانه وهذه الزيادة
هي من رواية سفيان بن عيينة عن طلحة ولفظ النسائي فيه عن مجاهد عن عائشة
قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال هل عندكم شيء فقلت
لا
فقال فإني صائم ثم مر بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي لنا حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس
قالت يارسول الله إنه أهدي لنا حيس فخبأت لك منه قال أدنيه أما إني قد
أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يخرج من
ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها وفي لفظ النسائي ياعائشة إنما
منزلة من صام في غير رمضان أو في غير قضاء رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل
أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه وبخل بما بقي فأمسكه وفي لفظ
له عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين
قالت جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال هل عندكم من طعام قلت لا
قال إني إذن أصوم
قالت ثم دخل مرة أخرى
فقلت قد أهدي لنا حيس فقال إذن أفطر وقد فرضت الصوم
وفيه حجة على المسألتين جواز إنشاء صوم التطوع بنية من النهار وجواز الخروج منه بعد الدخول فيه
وأما زيادة النسائي تمثيله بالصدقة يخرجها الرجل فهذا اللفظ قد رواه مسلم
في صحيحه من قول مجاهد قال طلحة بن يحيى فحدثت مجاهدا بهذا الحديث فقال ذاك
بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى النسائي حديث الأمر
بالقضاء من حديث جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي
صلى الله عليه و سلم وتابعه الفرج بن فضالة عن يحيى قال الدارقطني وهم فيه
جرير وفرج وخالفهما حماد بن زيد وعباد بن العوام ويحيى بن أيوب فرووه عن
يحيى بن سعيد عن الزهري مرسلا وقد رواه النسائي أيضا من حديث جعفر بن برقان
أخبرنا الزهري عن عروة عن عائشة به وقال اقضيا يوما لغد ومن حديث سفيان عن
الزهري عن عروة عن عائشة به وفيه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم
أن يصوما يوما مكانه وذكر النسائي أنه أيضا من رواية إسماعيل بن عقبة وصالح
بن كيسان
فقد برىء زميل من عهدة التفرد به وتابعهم أيضا يحيى بن سعيد
عن ابن شهاب فهؤلاء سفيان وجعفر بن برقان وصالح بن كيسان وإسماعيل بن عقبة
ويحيى بن سعيد على اختلاف عنه عن ابن شهاب الزهري وصلا وإرسالا كلهم يذكر
الأمر بالقضاء زيادة على رواية زميل وجرير بن حازم
وفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة فالذي يغلب على الظن أن اللفظة محفوظة في الحديث وتعليلها بما ذكر قد تبين ضعفه
ولكن قد يقال الأمر بالقضاء أمر ندب لا أمر إيجاب
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال غير المنذري ويدل على أن
الحديث وهم لا أصل له أن في حديث الإفك المتفق على صحته قالت عائشة وإن
الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن
كتف أنثى قط قال ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله شهيدا وفي هذا نظر
فلعله تزوج بعد ذلك
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وروى النسائي في سننه عن أبي بن
كعب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان
فسافر عاما فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين وفي رواية ليلة
وهذا أولى من الاحتمال المذكور
وقال بعضهم يحتمل أن يكون هذان العشران المذكوران في حديث أبى داود هي
العشر الذي كان يعتكفه والعشر الذي تركه من أجل أزواجه ثم إعتكف من شوال
عشرين ليلة وهذا فاسد فإن الحديث حديث أبي بن كعب وقد أخبر أنه إنما تركه
لسفره
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه
الله وقد احتج من لا يرى الصوم شرطا في الاعتكاف لدخول يوم العيد في
اعتكافه وهذا لا يدل فإن الحديث رواه البخاري وقال حتى اعتكف عشرا من شوال
لم يذكر غيره
وفي صحيح مسلم اعتكف في العشر الأول من شوال
وهذا
لا يقتضي دخول يوم العيد فيه كما يصح أن يقال صام في العشر الأول من شوال
وفي لفظ له حتى اعتكف في آخر العشر من شوال وعدم الدلالة في هذا ظاهرة
وقولها إعتكف العشر الأول من شوال ليس بنص في دخول يوم العيد في اعتكافه
بل الظاهر أنه لم يدخله في اعتكافه لاشتغاله فيه بالخروج إلى المصلى وصلاة
العيد وخطبته
ورجوعه إلى منزله لفطره وفي ذلك ذهاب بعض اليوم فلا يقوم بقية اليوم مقام جميعه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قلت عبدالرحمن هذا قال فيه أبو
حاتم لا يحتج به وقال البخاري ليس ممن يعتمد على حفظه وقال الدارقطني ضعيف
يرمى بالقدر
وأيضا فإن الحديث مختصر
وسياقه يدل على أنه ليس
مجزوما برفعه وقال الليث حدثني عقيل عن الزهري عن عائشة أن النبي صلى الله
عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف
أزواجه من بعده والسنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لا بد منها
ولا يعود مريضا ولا يمس امرأته ولا يباشرها ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع
والسنة فيمن اعتكف أن يصوم
قال الدارقطني قوله والسنة في المعتكف إلى آخره ليس من قول النبي صلى الله عليه و سلم وإنما هو من
قول الزهري ومن أدرجه في الحديث فقد وهم ولهذا والله أعلم ذكر صاحب الصحيح
أوله وأعرض عن هذه الزيادة وقد رواه سويد بن عبدالعزيز عن سفيان بن حسين
عن الزهري عن عروة عن عائشة يرفعه لا اعتكاف إلا بصيام وسويد قال فيه أحمد
متروك وقال ابن معين ليس بشيء
وقال النسائي وغيره ضعيف وسفيان بن حسين في الزهري ضعيف
قال الشيخ شمس الدين اختلف أهل العلم في اشتراط الصوم في الاعتكاف فأوجبه
أكثر أهل العلم منهم عائشة أم المؤمنين وابن عباس وابن عمر وهو قول مالك
وأبى حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وذهب الشافعي وأحمد في الرواية
المشهورة عنه أن الصوم فيه مستحب غير واجب
قال ابن المنذر وهو مروي عن علي وابن مسعود
واحتج هؤلاء بما في الصحيحين عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم
فقال إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه و
سلم أوف بنذرك قالوا والليل ليس بمحل للصيام وقد جوز الاعتكاف فيه واحتجوا
أيضا بما رواه الحاكم في مستدركه من حديث ابى سهيل عن طاووس عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على
نفسه وقال صحيح الإسناد
واحتجوا أيضا بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن
يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه وإنه أمر بخباء فضرب وإنه أراد مرة
الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فأمرت زينب بخبائها فضرب وأمر غيرها من
أزواج النبي صلى الله عليه و سلم بخبائه فضرب فلما صلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم الفجر نظر فإذا الأخبية فقال آلبر تردن فأمر بخبائه فقوض وترك
الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف العشر الأول من شوال ويوم العيد داخل في
جملة العشر وليس محلا للصوم
واحتجوا أيضا بأن الاعتكاف عبادة مستقلة
بنفسها فلم يكن الصوم شرطا فيها كسائر العبادات من الحج والصلاة والجهاد
والرباط وبأنه لزوم مكان معين لطاعة الله تعالى فلم يكن الصوم شرطا فيه
كالرباط وبأنه قربة بنفسه فلا يشترط فيه الصوم كالحج
قال الموجبون الكلام معكم في مقامين أحدهما ذكر ضعف أدلتكم والثاني ذكر الأدلة على اشتراط الصوم
فأما المقام الأول فنقول لا دلالة في شيء مما ذكرتم أما حديث ابن عمر عن
أبيه فقد اتفق على صحته لكن اختلف في لفظه كثيرا فرواه مسدد وزهير ويعقوب
الدورقي عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فقالوا
ليلة وكذلك رواه ابن المبارك وسليمان بن بلال عن عبيد الله وهكذا رواه إسحق
بن راهويه عن حفص بن غياث عن عبيد الله ورواه أبو بكر بن أبي شيية عن حفص
بن غياث فأبهم النذر فقال إني نذرت أن أعتكف عند المسجد الحرام فقال أوف
بنذرك وكذلك رواه أبو أسامة عن عبيد الله مبهما ورواه شعبة عن عبيد الله بن
عمر فقال إني نذرت أن أعتكف يوما وكذلك اختلف فيه على أيوب السختياني
فرواه حماد بن زيد عنه عن نافع قال ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى
الله عليه و سلم من الجعرانة فقال لم يعتمر منها وكان على عمر نذر اعتكاف
ليلة في الجاهلية فسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره أن يفي به فدخل
المسجد تلك الليلة فلما أصبح إذا السبي يسعون يقولون أعتقنا رسول الله صلى
الله عليه و سلم متفق عليه وكذلك رواه ابن عيينة عن أيوب وخالفهما معمر
وجرير فقالا يوما وكلاهما في الصحيحين بهذين اللفظين
قال النفاة يجوز أن يكون عمر سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن اعتكاف ليلة وحدها فأمره به وسأله مرة أخرى عن اعتكاف يوم فأمره به
قال الموجبون هذا مما لا يشك عالم في بطلانه فإن القصة واحدة وعمر سأل
النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح سؤالا واحدا وهذه الطريقة يسلكها كثير
ممن لا تحقيق عنده وهي احتمال التكرار في كل حديث اختلفت ألفاظه بحسب
اختلافها وهو مما يقطع ببطلانه في أكثر المواضع كالقطع ببطلان التعدد في
اشتراء البعير من جابر مرارا في أسفار والقطع ببطلان التعدد في نكاح
الواهبة نفسها بلفظ الإنكاح مرة والتزويج مرة والإملاك مرة والقطع ببطلان
الإسراء مرارا كل مرة يفرض عليه فيها
خمسون صلاة ثم يرجع إلى موسى
فيرده إلى ربه حتى تصير خمسا فيقول تعالى لا يبدل القول لدي هي خمس وهي
خمسون في الأجر ثم يفرضها في الإسراء الثاني خمسين فهذا مما يجزم ببطلانه
ونظائره كثيرة كقول بعضهم في حديث عمران بن حصين كان الله ولا شيء قبله و
كان ولا شيء غيره و كان ولا شيء معه إنه يجوز أن تكون وقائع متعددة وهذا
القائل لو تأمل سياق الحديث لاستحيا من هذا القول فإن سياقه أنه أناخ
راحلته بباب المسجد ثم تفلتت فذهب يطلبها ورسول الله صلى الله عليه و سلم
في هذا الحديث فقال بعد ذلك وأيم الله وددت لو أني قعدت وتركتها فيا سبحان
الله أفي كل مرة يتفق له هذا وبالجملة فهذه طريقة من لا تحقيق له
وإذا
كان عمر إنما سأل النبي صلى الله عليه و سلم مرة واحدة فإن كان يوما فلا
دلالة فيه وإن كان ليلة فالليالي قد تطلق ويراد بها الأيام استعمالا فاشيا
في اللغة لا ينكر كيف وقد روى سعيد بن بشير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن
ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم فسأل النبي صلى الله عليه و
سلم فقال أوف بنذرك وسعيد بن بشير هذا وإن كان قد ضعفه ابن المديني ويحيى
بن معين والنسائي فقد قال فيه شعبة كان صدوق اللسان وقال سفيان بن عيينة
كان حافظا وقال دحيم هو ثقة وقال كان مشيختنا يوثقونه
وقال البخاري
يتكلمون في حفظه وهو يحتمل وقال عبدالرحمن بن أبى حاتم سمعت أبى ينكر على
من أدخله في كتاب الضعفاء وقال محله الصدق وقال ابن عدي الغالب على حديثه
الاستقامة
وقد روى عبد الله بن يزيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن
عمر هذا الحديث وفيه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يعتكف ويصوم ولكن
تفرد به ابن بديل وضعفه الدارقطني وقال ابن عدي له أحاديث مما ينكر عليه
الزيادة في متنه أو إسناده وقال أبو بكر النيسابوري هذا حديث منكر لأن
الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد
بن زيد وحماد بن سلمة وابن بديل ضعيف الحديث فهذا مما لا حاجة بنا إلى
الاستدلال به
وحديث سعيد بن بشير أجود منه
وأما حديث ابن عباس
الذي رواه الحاكم فله علتان إحداهما أنه من رواية عبد الله بن محمد الرملي
وليس بالحافظ حتى يقبل منه تفرده بمثل هذا
العلة الثانية أن الحميدي
وعمرو بن زرارة روباه عن الدراوردي عن أبى سهيل عن طاووس عن ابن عباس
موقوفا عليه وهذا هو الصواب وهو الثابت عن ابن عباس
وأما حديث عائشة وقصة اعتكاف النبي صلى الله عليه و سلم العشر الأول من شوال فهذا قد اختلف فيه لفظ الصحيح
وفيه ثلاثة ألفاظ أحدها عشرا من شوال والثاني في العشر الأول من شوال
والثالث العشر الأول ولا ريب أن هذا ليس بصريح في اعتكاف يوم العيد ولو كان
الثابت هو
قوله العشر الأول من شوال لأنه يصح أن يقال اعتكف العشر
الأول وإن كان قد أخل بيوم منه كما يقال قام ليالي العشر الأخير وإن كان
قد أخل بالقيام في جزء من الليل
ويقال قام ليلة القدر وإن أخل بقيامه في بعضها
وأما الأقيسة التي ذكرتموها فمعارضة بأمثالها أو بما هو من جنسها فلا حاجة إلى التطويل بذكرها
وأما المقام الثاني وهو الاستدلال على اشتراط الصوم فأمور أحدها أنه لم
يعرف مشروعية الاعتكاف إلا بصوم ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا
أحد من أصحابه أنهم اعتكفوا بغير صوم ولو كان هذا معروفا عندهم لكانت
شهرته تغني عن تكلفكم الاستدلال باعتكافه صلى الله عليه و سلم العشر الأول
من شوال
الثاني حديث عائشة الذي ذكره أبو داود في الباب وقولها السنة كذا وكذا ولا اعتكاف إلا بصوم
قال النفاة الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن رواية عبدالرحمن بن إسحاق قال
فيه أبو حاتم لا يحتج به وقال البخاري ليس ممن يعتمد على حفظه وقال
الدارقطني يرمي بالقدر
الثاني أن هذا الكلام من قول الزهري لا من قول
عائشة كما ذكره أبو داود وغيره قال الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن
عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى
توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده فالسنة في المعتكف إلى اخره ليس من قول
النبي صلى الله عليه و سلم وإنما هو من قول الزهري ومن أدركه في الحديث
فقد وهم
الثالث أن غايته الدلالة على استحباب الصوم في الاعتكاف فإن قوله السنة إنما يفيد الاستحباب
وقوله لا اعتكاف إلا بصوم نفي للكمال
قال الموجبون الجواب عما ذكرتم أما تضعيف عبدالرحمن بن إسحاق
فقد روى له مسلم في صحيحه ووثقه يحيى بن معين وغيره
وأما قولكم إنه من قول الزهري ومن أدرجه فقد وهم فجوابه من وجهين أحدهما
أنا لو تركنا هذا لكان ما ذكرتم فادحا ولكن قد روى الثوري عن حبيب بن أبي
ثابت عن عطاء عن عائشة قالت من اعتكف فعليه الصوم فهذا يقوي حديث الزهري
الثاني أنه ولو ثبت أنه من كلام الزهري فهو يدل على أن السنة المعروفة
التي استمر عليها العمل أنه لا اعتكاف إلا بصوم فهل عارض هذه السنة سنة
غيرها حتى تقابل به
وأما قولكم إن هذا إنما يدل على الاستحباب فليس
المراد بالسنة هاهنا مجرد الاستحباب وإنما المراد طريقة الاعتكاف وسنة
رسول الله صلى الله عليه و سلم المستمرة فيه
وقوله ولا اعتكاف إلا بصوم يبين ذلك
وقولكم إنه لنفي الكمال صحيح ولكن لنفي كمال الواجب أو المستحب الأول مسلم والثاني
ممنوع
والحمل عليه بعيد جدا إذا لا يصلح النفي المطلق عند نفي بعض المستحبات
وإلا صح النفي عن كل عبادة ترك بعض مستحباتها ولا يصح ذلك لغة ولا عرفا ولا
شرعا ولا يعهد في الشريعة نفي العبادة إلا بترك واجب فيها وقال الدارقطني
يقال إن قوله والسنة على المعتكف إلى آخره من كلام الزهري ومن أدرجه في
الحديث فقد وهم فيه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى
الدارقطني هذا الحديث في سننه عن نافع عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف في
الشرك ويصوم فسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك بعد إسلامه فقال أوف
بنذرك قال هذا إسناد حسن تفرد بهذا اللفظ سعيد بن بشير وروى الدارقطني ايضا
عن عائشة ترفعه لا اعتكاف إلا بصيام وقال تفرد به سويد بن عبدالعزيز عن
سفيان بن حسين عن الزهري
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد رواه ابن حبان في صحيحه
وروى الوليد بن مسلم عن عقبة بن عثمان أنه سمع سليم بن عامر يحدث عن أبي
أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت
وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع حتى ظننت أنه قد هوى به فعمد به إلى
الشام وإني أولت ذلك أن الفتن إذا وقعت أن الإيمان بالشام رواه أحمد في
مسنده
وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال
رسول الله
صلى الله عليه و سلم إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم لا تزال طائفة من أمتى
منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة رواه الترمذي
وقال قال محمد بن إسماعيل قال علي بن المديني هم أصحاب الحديث وهذا حديث حسن صحيح
وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يارسول الله أين تأمرني قال ههنا ونحا بيده نحو الشام قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وقال الإمام أحمد حدثنا حسن أخبرنا ابن لهيعة أخبرنا يزيد بن أبي حبيب عن
ابن شماسة عن زيد بن ثابت قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذ قال طوبى للشام طوبى للشام طوبى للشام
قلت ما بال الشام قال
الملائكة باسطو أجنحتها على الشام ورواه أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق
السيلحيني أخبرنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب ورواه ابن وهب أخبرني
عمرو عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة حدثه أنه سمع زيد بن ثابت فذكره
قال أبو عبد الله المقدسي وهذا الإسناد عندي على شرط مسلم
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم بارك
لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا فقالها مرارا فلما كان في الثالثة
أو الرابعة قالوا يارسول الله وفي عراقنا قال بها الزلازل والفتن وبها يطلع
قرن الشيطان وفي مسند الإمام أحمد من حديث محمد بن عبيد عن الأعمش عن عبد
الله بن ضرار الأسدى عن أبيه عن عبد الله قال قسم الله الخير فجعله عشرة
فجعل تسعة أعشاره في الشام وبقيته في سائر الأرض وروى الإمام أحمد في مسنده
من حديث الوليد بن عبدالرحمن عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل أنه أخبرهم
أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني سئمت الخيل وألقيت السلاح
ووضعت الحرب أوزارها قلت لا قتال قال فقال له النبي صلى الله عليه و سلم
الآن جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يرفع الله قلوب
أقوام فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ألا إن
عقد دار المؤمنين الشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة
ورواه النسائي وفي المسند والترمذي من حديث أبي قلابة عن سالم عن أبيه قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستخرج نار من حضرموت أو بحضرموت قبل يوم
القيامة تحشر الناس قلنا يارسول الله فما تأمرنا قال عليكم بالشام قال
الترمذي حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر
وفي المسند والترمذي والنسائي من
حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يارسول الله أين تأمرني قال ههنا ونحا بيده نحو الشام قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
ومن حديث المخلص أخبرنا يحيى بن صاعد أخبرنا محمد بن إسماعيل السلمي
أخبرنا أبو أيوب سليمان بن عبدالرحمن أخبرنا بشر بن عون القرشى أبو عون
أنبأنا بكار بن تميم عن مكحول عن واثله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و
سلم يقول لحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل وهما يستشيرانه في المنزل فأومأ
إلى الشام ثم سألاه فأومأ إلى الشام ثم سألاه فأومأ إلى الشام ثم قال عليكم
بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق بيمنه
ويستقي من غدره فإن الله عزوجل تكفل له بالشام وأهله ورواه الطبراني في
المعجم عن سليمان به
وذكر الطبراني من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن
أيوب بن ميسرة بن حبيش عن أبيه عن خريم بن فاتك الأسدي أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه و سلم يقول أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء
من عباده وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم ولا يموتون إلا غما
وهما رواه الإمام أحمد في مسنده موقوفا وكذلك أبو يعلى الموصلي وقال أحمد
في مسنده حدثنا عبدالصمد أنبأنا حماد عن الجريري عن أبي المشاء وهو لقيط بن
المشاء عن أبي أمامة قال لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى
الشام ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق وقال
رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم بالشام كذا رواه أحمد أوله موقوفا وآخره مرفوعا
وروى الطبراني في معجمه من حديث
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى الترمذي عن أبي سعيد
الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل أي العبادة أفضل درجة عند
الله يوم القيامة قال الذاكرين الله كثيرا قال قلت يارسول الله ومن الغازين
في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى يتكسر ويختضب دما
لكان الذاكرون الله أفضل منه درجة ولكن هو من حديث دراج وقد ضعف وقال
الإمام أحمد الشأن في دراج
ولكن روى الترمذي والحاكم في المستدرك عن
أبي الدرداء قال قال النبي صلى الله عليه و سلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم
وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق
وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال
ذكر الله
وقد رواه مالك في الموطأ موقوفا على أبي الدرداء قوله
قال الترمذي ورواه بعضهم فأرسله
والتحقيق في ذلك أن المراتب ثلاثة المرتبة الأولى ذكر وجهاد وهي أعلى
المراتب قال تعالى ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله
لعلكم تفلحون
المرتبة الثانية ذكر بلا جهاد فهذه دون الأولى
المرتبة الثالثة جهاد بلا ذكر فهي دونهما والذاكر أفضل من هذا
وإنما وضع الجهاد لأجل ذكر الله فالمقصود من الجهاد أن يذكر الله ويعبد وحده فتوحيده وذكره وعبادته هو غاية الخلق التي خلقوا لها
وتبويب أبي داود إنما هو على المرتبة الأولى
والحديث إنما يدل على أن الذكر أفضل من الإنفاق في سبيل الله فهو كحديث أبي الدرداء
وقد يحتمل الحديث أن يكون معناه أن الذكر والصلاة في سبيل الله تضاعف على
النفقة في سبيل الله فيكون الظرف متعلقا بالجميع والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله فروى مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فقال أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال إن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربكم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا فقالوا أي شيء نشتهي ونحن في الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا
والظاهر والله أعلم أن المسؤول عن هذه الآية الذي أشار إليه ابن مسعود هو رسول الله صلى الله عليه و سلم وحذفه لظهور العلم به وأن الوهم لا يذهب إلى سواه وقد كان ابن مسعود يشتد عليه أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان إذا سماه أرعد وتغير لونه وكان كثيرا ما يقول ألفاظ الحديث موقوفة وإذا رفع منها شيئا تحرى فيه وقال أو شبه هذا أو قريبا من هذا فكأنه والله أعلم جرى على عادته في هذا الحديث وخاف أن لا يؤديه بلفظه فلم يذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة إنما كانوا يسألون عن معاني القرآن رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
أخرجه الحاكم في المستدرك وليس مما يستدرك على الشيخين فإن فيه دراجا أبا السمح وهو ضعيف
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله
والصواب أنه فعل ذلك عقوبة لها لئلا تعود مثل قولها وتلعن مالا يستحق اللعن والعقوبة في المال لمصلحة مشروعة بالاتفاق
ولكن اختلفوا هل نسخت بعد مشروعيتها أو لم يأت على نسخها حجة وقد حكى أبو
عبد الله بن حامد عن بعض أصحاب أحمد أنه من لعن شيئا من متاعه زال ملكه عنه
والله تعالى أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأما وقوف النبي صلى الله عليه و سلم على راحلته في حجة الوداع وخطبته عليها فذاك غير ما نهى عنه فإن هذا عارض لمصلحة عامة في وقت ما لا يكون دائما ولا يلحق الدابة منه من التعب والكلال ما يلحقها من اعتياد ذلك لا لمصلحة بل يستوطنها ويتخذها مقعدا يناجي عليها الرجل ولا ينزل إلى الأرض فإن ذلك يتكرر ويطول بخلاف خطبته صلى الله عليه و سلم على راحلته ليسمع الناس ويعلمهم أمور الإسلام وأحكام النسك فإن هذا لا يتكرر ولا يطول ومصلحته عامة
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال أبو
داود ورواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم قال أبو داود
وهذا أصح عندنا
وهذا الحديث معروف بسفيان بن حسين عن الزهري وهو ثقة
لكن جمهور أئمة الحديث والحفاظ يضعفونه في الزهري ولا يرونه في حجة وقد
تابعه مثله عن الزهري وهو سعيد بن بشير هو ضعيف أيضا
وقال عبدالرحمن
بن أبي حاتم في كتاب العلل له سألت أبي عن حديث سفيان بن حسين فقال خطأ لم
يعمل سفيان شيئا لا يشبه أن يكون عن النبي صلى الله عليه و سلم وأحسن
أحواله أن يكون قول سعيد فقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب
قوله وفي تاريخ ابن أبي خيثمة قال سألت يحيى بن معين عن حديث سفيان هذا فخط
على أبي هريرة وقال الدارقطني في كتاب العلل يرويه سعيد بن بشير واختلف
عنه فرواه عبيد بن شريك عن هشام بن عمار عن الوليد عنه عن قتادة عن سعيد عن
أبي هريرة ووهم في قوله قتادة فغيره يرويه عن هشام فيقول عن الزهري بدل
قتادة وكذلك رواه محمود بن خالد وغيره عن الوليد
وكذلك رواه سفيان بن
حسين عن الزهري وهو المحفوظ قيل له فإن الحسين بن السميذع رواه عن موسى بن
أيوب عن الوليد عن سعيد بن عبدالعزيز عن الزهري فقال غلط بل هو ابن بشير
وقال ابن معين حديث سفيان في الزهري ليس بذاك إنما سمع منه بالموسم
وقال ابن حبان لا يحتج به عن الزهري وهو مثل ابن إسحاق
وسليمان بن كثير فلا تقدم رواية سفيان بن حسين على رواية الأئمة الأثبات من أصحاب الزهري وهم أعلم بحديثه
وقد روى أبو حاتم بن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم سابق بين الخيل وجعل بينها سبقا وجعل بينها محللا وقال لا سبق
إلا في نصل أو خف أو حافر ولكن أنكر عليه إدخاله هذا الحديث في صحيحه من
رواية عاصم بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر وهو ضعيف لا يحتج به ضعفه غير
واحد من الأئمة
وذكره هو في كتابه الضعفاء
وقد ذكر أبو أحمد بن عدي هذا الحديث في كتابه مما أنكر على عاصم بن عمر وضعفه عبدالحق وغيره
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث قد أسنده عمرو بن عاصم عن همام وجرير عن قتادة عن أنس ذكره النسائي
وقال الدارقطني الصواب عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلا
وروى النسائي في سننه عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف قال كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم من فضة
وفي الترمذي عن مزيدة العصري قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة وقال هذا حديث حسن غريب
والصواب أن حديث قتادة عن انس محفوظ من رواية الثقات الضابطين المتثبتين جرير بن حازم وهمام عن قتادة عن أنس
والذي رواه عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلا هو هشام الدستوائي وهشام
وإن كان مقدما في أصحاب قتادة فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال إذا أتى أحدكم على راع فليناد ياراعي الإبل ثلاثا فإن أجابه وإلا
فليحلب وليشرب ولا يحملن
وإذا أتى أحدكم على حائط فليناد ثلاثا ياصاحب الحائط
فإن أجابه وإلا فليأكل ولا يحملن وهذا الإسناد على شرط مسلم
وإنما أعله البيهقي بأن سعيدا الجريري تفرد به وكان قد اختلط في آخر عمره
وسماع يزيد بن هارون منه في حال اختلاطه وأعل حديث سمرة بالأختلاف في سماع
الحسن منه
وهاتان العلتان بعد صحتهما لا يخرجان الحديثين عن درجة الحسن المحتج به في الأحكام عند جمهور الأمة
وقد ذهب إلى القول بهذين الحديثين الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه
وقال الشافعي وقد قيل من مر بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة
وروى فيه حديث لو كان ثبت عندنا لم نخالفه
والكتاب والحديث الثابت
أنه لا يجوز أكل مال أحد إلا بإذنه
والحديث الذي أشار إليه الشافعي رواه الترمذي من حديث يحيى بن سليم عن
عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي قال من دخل حائطا فليأكل ولا
يتخذ خبنة قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم
أخبرنا قتيبة أخبرنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا
شيء عليه ثم قال هذا حديث حسن
فاختلف الفقهاء في القول بموجب هذه الأحاديث
فذهبت طائفة منهم إلى أنها محكمة وأنه يسوغ الأكل من الثمار وشرب اللبن لضرورة وغيرها
ولا ضمان عليه
وهذا المشهور عن أحمد وقالت طائفة لا يجوز له شيء من ذلك إلا لضرورة مع ثبوت العوض في ذمته
وهذا المنقول عن مالك والشافعي وأبي حنيفة واحتج لهذا القول بحجج
إحداها قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم والتراضي منتف في هذه الصورة
الثانية الحائط والماشية لو كانا ليتيم فأكل منهما كان قد أكل مال اليتيم ظلما فيدخل تحت الوعيد
الثالثة ما خرجاه في الصحيحين من حديث أبي بكرة
أن النبي قال في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذه في شهركم هذا ومثله في صحيح مسلم عن
جابر
الرابعة ما في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال كل المسلم على المسلم حرام
دمه وماله وعرضه
الخامسة ما رواه البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن عباس أن النبي خطب في حجة الوداع فذكر الحديث
وفيه ولا يحل لامرىء من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس
السادسة ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر عن النبي أنه قام فقال لا يحلبن
أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فيكسر باب خزانته
الحديث
السابعة أن هذا مال من أموال المسلم فكان محترما كسائر أمواله
قال الأولون ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أحاديث الجواز إلا حديث ابن عمر فإنه في الظاهر مخالف لحديث سمرة
وسيأتي بيان الجمع بينهما إن شاء الله
أما قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل فلا يتناول محل النزاع
فإن هذا أكل بإباحة الشارع فكيف يكون باطلا
وليس هذا من باب تخصيص العام في شيء بل هذه الصورة لم تدخل في الآية كما لم يدخل فيها أكل الوالد مال ولده
وأيضا فلأنه إنما يدل على تحريم الأكل بالباطل الذي لم يأذن فيه الشارع
ولا المالك فإذا وجد الإذن الشرعي أو الإذن من المالك لم يكن باطلا
ومعلوم أن إذن الشرع أقوى من إذن المالك
فما أذن فيه الشرع أحل مما أذن فيه المالك ولهذا كانت الغنائم من أحل
المكاسب وأطيبها ومال الولد بالنسبة إلى الأب من أطيب المكاسب وإن لم يأذن
له الولد
وأيضا فإنه من المستحيل أن يأذن النبي فيما حرمه الله ومنع منه
فعلم أن الآية لا تتناول محل النزاع أصلا
وبهذا خرج الجواب عن الدليل الثاني وهو كونه مثل كونه مثل مال اليتيم مع
أن قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية يدل على أنه إنما
يستحق
الوعيد من أكلها أكلا غير مأذون فيه شرعا فأما ما أذن فيه الشارع منها فلا يتناوله الوعيد
ولهذا كان للفقير أن يأكل منها أقل الأمرين من حاجته أو قدر عمله
ولم يكن ذلك ظلما لإذن الشارع فيه
وهذا هو بعينه الجواب عن قوله إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فإن التحريم
يتناول مالم يقع فيه الإذن من الشارع ولا من المالك وأما ما أذن فيه منهما
أو من أحدهما فليس بحرام
ولهذا ينتزع منه الشقص المشفوع فيه بغير رضاه
لإذن الشارع وينتزع منه ما تدعو إليه ضرورة من طعام أو شراب إما مجانا على
أحد القولين أو بالمعارضة على القول الآخر
ويكره على إخراج ماله لأداء ما عليه من الحقوق وغير ذلك
وهذه الصور وأمثالها ليست مستثناة من هذه النصوص بل النصوص لم تتناولها ولا أريدت بها قطعا
وأما حديث ابن عمر لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه فحديث صحيح متفق على صحته
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في جواز احتلاب الماشية للشرب
ولا خلاف في مذهبه أنه لا يجوز احتلابها لغيره وهو كالخبنة في الثمار
فمنعه في إحدى الروايتين أخذا بحديث ابن عمر وجوزه في الأخرى أخذا بحديث
سمرة
ومن رجح المنع قال حديث ابن عمر أصح
فإن حديث سمرة من رواية الحسن عنه وهو مختلف في سماعه منه
وأما حديث ابن عمر فمن رواية الليث وغيره عن نافع عنه
ولا ريب في صحته
قالوا والفرق بينه وبين الثمرة
أن اللبن مخزون في الضرع كخزن الأموال في خزانتها ولهذا شبهها النبي بذلك
وأخبر أن استخراجها من الضروع كاستخراج الأموال من الخزائن بكسرها
وهذا بخلاف الثمرة فإنها ظاهرة بادية في الشجرة غير مخزونة
فإذا صارت إلى الخزانة حرم الأكل منها إلا بإذن المالك
قالوا وأيضا فالشهوة تشتد إلى الثمار عند طيبها
لأن العيون تراها والنفوس شديدة الميل إليها
ولهذا جوز النبي فيها المزابنة في خمسة أوسق أو دونها في العرايا لما شكوا
إليه شهوتهم إليها وأنه لا ثمن بأيديهم بخلاف اللبن فإنه لا يرى ولا تشتد
الشهوة إليه كاشتدادها إلى الثمار
قالوا وأيضا فالثمار لا صنع فيها للآدمي بحال بل هي خلق الله سبحانه لم تتولد من كسب
آدمي ولا فعله بخلاف اللبن فإنه لا يتولد من عين مال المالك وهو العلف
وإن كانت سائمة فلا بد من قيامه عليها ورعيه إياها ولا بد من إعالته لها كل وقت
وهذا وإن كان في الثمار إلا أنه بالنسبة إلى الماشية قليل جدا فإنه لا
يحتاج أن يقوم على الشجر كل يوم فمؤنتها أقل من مؤنة الماشية بكثير
فهي بالمباحات أشبه من ألبان المواشي إلا إن اختصاص أربابها بأرضها وشجرها
أخرجها عن حكم المباحات المشتركة التي يسوغ أكلها ونقلها فعمل الشبه في
الأكل الذي لا يجحف المالك دون النقل المضر له
فهذه الفروق إن صحت بطل إلحاق الثمار بها في المنع
وكان المصير إلى حديث المنع في اللبن أولى وإن كانت غير مؤثرة ولا فرق بين البابين كانت الإباحة شاملة لهما
وحينئذ فيكون فحديث النهي متناولا للمحتلب غير الشارب
بل محتلبه كالمتخذ خبنة من الثمار
وحديث الإباحة متناول للمحتلب الشارب فقط دون غيره
ويدل على هذا التفريق قوله في حديث سمرة فليحتلب وليشرب ولا يحمل فلو احتلب للحمل كان حراما عليه
فهذا هو الاحتلاب المنهى عنه في حديث ابن عمر
والله أعلم
ويدل عليه أيضا أن في حديث المنع ما يشعر بأن النهي إنما هو عن نقل اللبن دون شربه
فإنه قال أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فيكسر باب خزانته فينتثل طعامه
ومما يدل على الجواز حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي سئل عن
التمر المعلق فقال من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه وهو
من رواية محمد بن عجلان عن عمرو ومحمد بن عجلان احتج به مسلم
والحديث حسن أخرجه أهل السنن
فإن قيل
فهذا دليل على جواز أكل المحتاج ونحن نقول له أن يأكل عند الضرورة وعليه القيمة وقوله
لا شيء عليه هو نفي للعقوبة لا للغرم
فالجواب أن هذا الحديث روي بوجهين أحدهما وإن أكل بفيه ولم يأخذ فيتخذ خبنة فليس عليه شيء
وهذا صريح في أن الأكل لا شيء عليه وإنما يجب الضمان على من اتخذ خبنة
ولهذا جعلهما قسمين
واللفظ الثاني قوله ومن أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة
وهذا صريح في أن الأكل منه لحاجة لا شيء عليه وأن الضمان إنما يجب على المخرج منه غير
ما أكله
والمنازعون لا يفرقون بل يوجبون الضمان على الآكل والمخرج معا ولا يفرقون فيه بين المحتاج وغيره
وهذا جمع بين ما فرق الرسول بينه والنص صريح في إبطاله
فالحديث حجة على اللفظين معا
فإن قيل فالمجوزون لا يخصون الإباحة بحال الحاجة بل يجوزون الأكل للمحتاج
وغيرها فقد جمعوا بين ما فرق الشارع بينه قيل الحاجة المسوغة للأكل أعم من
الضرورة والحكم معلق بها ولا ذكر للضرورة فيه وإنما الجواز دائر مع الحاجة
وهو نظير تعليق بيع العرايا بالحاجة فإنها الحاجة إلى أكل الرطب
ولا تعتبر الضرورة اتفاقا فكذلك هنا
وعلى هذا فاللفظ قد خرج مخرج الغالب
وما كان كذلك فلا مفهوم له اتفاقا
ومما يدل على الجواز أيضا حديث رافع بن عمرو الذي ذكره أبو داود في الكتاب وقد صححه الترمذي
ولا يصح حمله على المضطر لثلاثة أوجه
أحدها أن النبي أطلق له الأكل ولم يقل كل إذا اضطررت واترك عند زويل
الضرورة كما قال تعالى في الميتة وكما قال النبي للذي سأله عن ركوب هديه
اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا الثاني أنه لو كانت الإباحة
إنما هي لأجل الضرورة فقط لثبت البدل في ذمته كسائر الأموال والنبي لم
يأمره ببدل وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع
الثالث أن لفظ الحديث في كتاب أبي داود ليس فيه للضرورة ذكر فإنه قال ياغلام لم ترمي النخل قال آكل
فقال لا ترم النخل وكل ما سقط فأخبره أنه يرميها للأكل لا للحمل فأباح له
الساقط ومنعه من الرمي لما فيه من كثرة الأذى ورواه الترمذي ولفظه قال
يارافع لم ترمي نخلهم قال قلت يارسول الله الجوع
قال لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله فهذا اللفظ ليس معارضا للأول
وكلاهما يدل على إباحة الأكل وأن الإباحة عند الجوع أولى
ومما يدل على الجواز أيضا حديث عباد بن شرحبيل وقد ذكره أبو داود في الباب وهو صحيح الإسناد والاستدلال به في غاية الظهور
وقد تلكف بعض الناس رده بإنه لم يحدث به عن أبي بشر إلا جعفر بن إياس وهذا تكلف بارد
فإن أبا بشر هذا من الحفاظ الثقات الذين لم تغمز قناتهم
وتكلف آخرون ما هو أبعد من هذا
فقالوا الحديث رواه ابن ماجه والنسائي ولفظه فأقره النبي فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام
قالوا فالمأمور له بالوسق هو الأنصاري صاحب الحائط وكان هذا تعويضا من النبي له عن
سنبله وهذا خطأ بين
فإن المأمور له بالوسق إنما هو آكل السنبل عباد بن شرحبيل والسياق لا يدل إلا عليه
والنبي رد إليه ثوبه وأطعمه وسقا
ولفظ أبي داود صريح في ذلك فإنه قال فرد علي ثوبي وأعطاني وسقا
ومما يدل على الجواز أيضا ما رواه الترمذي
حدثنا ابن أبي الشوارب حدثنا يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن النبي
قال من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة وهذا الحديث وإن كان معلولا قال
الترمذي في كتاب العلل الكبير له سألت محمدا عن هذا الحديث فقال يحيى بن
سليم يروي أحاديث عن عبيد الله يهم فيها
تم كلامه
وقال يحيى بن معين هذا الحديث غلط
وقال أبو حاتم الرازي يحيى بن سليم هذا محله الصدق وليس بالحافظ ولا يحتج به
وقال النسائي ليس به بأس وهو منكر الحديث عن عبيد الله بن عمرو ولكن لو
حاكمنا منازعينا من الفقهاء إلى أصولهم لكان هذا الحديث حجة على قولهم
لأن يحيى بن سليم من رجال الصحيحين وهو لو انفرد بلفظة أو رفع أو اتصال
وخالفه غيره فيه لحكموا له ولم يلتفتوا إلى من خالفه ولو كان أوثق وأكثر
فكيف إذا روى مالم يخالف فيه بل له أصول ونظائر
ولكنا لا نرضى بهذه الطريقة فالحديث عندنا معلول وإنما سقناه اعتبارا لا اعتمادا
والله أعلم
فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب
عن ابن جريج عن عطاء قال رخص رسول الله للجائع المضطر إذا مر بالحائط أن
يأكل منه ولا يتخذ خبنة وهذا التقييد يبين المراد من سائر الأحاديث
قيل هذا من المراسيل التي لا يحتج بها فضلا عن أن يعارض بها المسندات
الصحيحة ثم ولو كان حجة فهو لا يخالف ما ذكرنا من الأحاديث بل منطوقه
يوافقنا ومفهومه يدل على أن غير المضطر يخالف المضطر في ذلك وهذا حق
والمفهوم لا عموم له بل فيه تفصيل
ومما يدل على الجواز أيضا حديث أبي سعيد وقد تقدم وإسناده على شرط مسلم
ورواه ابن حبان في صحيحه وأما تعليل البيهقي له بأن سعيدا الجريري تفرد به
وكان قد اختلط في آخر عمره والذي رواه عنه يزيد بن هارون وإنما روى عنه
بعض الاختلاط فجوابه من وجهين
أحدهما أن حماد بن سلمة قد تابع يزيد بن هارون على روايته
ذكره البيهقي أيضا
وسماع حماد منه قديم
الثاني أن هذا إنما يكون علة إذا كان الراوي ممن لا يميز حديث الشيخ صحيحه من سقيمه
وأما يزيد بن هارون وأمثاله إذا رووا عن رجل قد وقع في حديثه بعض الاختلاط فإنهم يميزون حديثه وينتقونه
هذا مع أن حديثه موافق لأحاديث الباب كأحاديث سمرة ورافع بن عمرو وعبد
الله بن عمرو وعباد بن شرحبيل وهذا يدل على أنه محفوظ وأن له أصلا
ولهذا صححه ابن حبان وغيره
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد استشكل قوله صلى الله عليه و سلم ما خرجوا منها أبدا ولم يزالوا فيها مع كونهم لو فعلوا ذلك لم يفعلوه إلا ظنا منهم أنه من الطاعة الواجبة عليهم وكانوا متأولين
والجواب
عن هذا أن دخولهم إياها معصية في نفس الأمر وكان الواجب عليهم أن لايبادروا
وأن يتثبتوا حتى يعلموا هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا فأقدموا على الهجوم
والاقتحام من غير تثبت ولا نظر فكانت عقوبتهم أنهم لم يزالوا فيها
وقوله أبدا لا يعطي خلودهم في نار جهنم
فإن الإخبار إنما هو عن نار الدنيا
والأبد كثيرا ما يراد به أبد الدنيا
قال تعالى في حق اليهود ولن يتمنوه أبدا وقد أخبر عن الكفار أنهم يتمنون الموت في النار ويسألون ربهم أن يقضي عليهم بالموت
وقد جاء في بعض الروايات أن هذا الرجل كان مازحا وكان معروفا بكثرة المزاح والمعروف أنهم أغضبوه حتى فعل ذلك
وفي الحديث دليل أن على من أطاع ولاة الأمر في معصية الله كان عاصيا وأن
ذلك لا يمهد له عذرا عند الله بل إثم المعصية لاحق له وإن كان لولا الأمر
لم يرتكبها
وعلى هذا يدل هذا الحديث وهو وجهه
وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال بعض أهل العلم إنما أمر لهم
بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين
ظهراني الكفار فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره
وهذا حسن جدا
والذي يظهر من معنى الحديث أن النار هي شعار القوم عند النزول وعلامتهم
وهي تدعو إليهم والطارق يأنس بها فإذا ألم بها جاور أهلها وسالمهم
فنار المشركين تدعو إلى الشيطان وإلى نار الآخرة فإنها إنما توقد في معصية
الله ونار المؤمنين تدعو إلى الله وإلى طاعته وإعزاز دينه فكيف تتفق
الناران وهذا شأنهما وهذا من أفصح الكلام وأجزله المشتمل على المعنى الكثير
الجليل بأوجز عبارة
وقد روى النسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن
جده قال قلت يارسول الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن لأصابع يديه أن
لا آتيك ولا آتي دينك وإني كنت امرءا لا أعقل شيئا إلا علمني الله ورسوله
وإني أسألك بوجه الله بم بعثك ربنا إلينا قال
بالإسلام
قلت وما آيات الإسلام قال أن تقول أسلمت وجهي إلى الله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة
كل المسلم على المسلم محرم أخوان نصيران لا يقبل الله من مشرك بعد ما يسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين
وقد ذكر أبو داود من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم من جامع
المشرك وسكن معه فإنه مثله وفي المراسيل لأبي داود عن مكحول عن النبي صلى
الله عليه و سلم لا تتركوا الذرية إزاء العدو
قال الحافظ شمس الدين
بن القيم رحمه الله وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال قدم على النبي
صلى الله عليه و سلم بسبي فأمرني ببيع أخوين فبعتهما وفرقت بينهما
ثم أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وأخبرته
فقال أدركهما وارتجعهما وبعهما جميعا ولا تفرق بينهما أخرجه الحاكم وقال هو صحيح على شرطهما ولم يخرجاه
وفي جامع الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه و سلم يقول من فرق بين الجارية وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة قال الترمذي حسن غريب
وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه وليس كما قاله
فإن إسناده حسين بن عبد الله ولم يخرج له في الصحيحين
وقال أحمد في حديثه مناكير
وقال البخاري فيه نظر
ولفظ الترمذي فيه من فرق بين والدة وولدها
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي صحيح الحاكم من حديث عبادة بن الصامت قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفرق بين الأم وولدها فقيل يارسول الله إلى متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد
ذكر أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث وزاد فيه واضربوا عنقه بدل واضربوه قال
عبد الحق هذا حديث يدور على صالح بن محمد وهو منكر الحديث ضعيفه لا يحتج
به ضعفه البخاري وغيره
انتهى
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وعلة هذا الحديث أنه من رواية زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب وزهير هذا ضعيف
قال البهيقي وزهير هذا يقال هو مجهول وليس بالمكي وقد رواه أيضا مرسلا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ويحتمل قولها أسهم لنا كما أسهم
للرجال أنها تعني به أنه أشرك بينهم في أصل العطاء لا في قدره
فأرادت أنه أعطانا مثل ما أعطى الرجال لا أنه أعطاهن بقدرهم سواء
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل
ونظيره في ذلك الجنازة بالكسر للسير والجنازة بالفتح للميت
قال بعضهم من ذلك الدجاج بالفتح للديكة والدجاج بالكسر للإناث
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن
أبي بكرة أنه شهد النبي صلى الله عليه و سلم أتاه بشير يبشره بظفر جند له
على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا
وفي المسند أيضا عن عبد
الرحمن بن عوف قال خرج النبي صلى الله عليه و سلم فتوجه نحو صدقته فدخل
فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود ثم رفع رأسه وقال إن جبريل أتاني
فبشرني فقال إن الله عزوجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك
سلمت عليه فسجدت لله شكرا
وفي مسند الإمام أحمد أيضا أن عليا سجد حين وجد ذا الثدية في الخوارج مقتولا
وفي سنن سعيد بن منصور أن أبا بكر الصديق سجد حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال عبد الحق إسناد هذا الحديث ضعيف
وقال ابن القطان يرويه حبيب بن مخنف وهو مجهول عن أبيه
وفيه أبو رملة عامر بن أبي رملة لا يعرف إلا به
انتهى
وقد روى أحمد في مسنده عن أبي رزين العقيلي أنه قال يارسول الله إنا كنا نذبح في رجب ذبائح فنأكل منها ونطعم من جاءنا
فقال لا بأس بذلك
وفي المسند أيضا وسنن النسائي عن الحارث بن عمرو أنه لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع
قال فقال رجل يارسول الله الفرائع والعتائر قال من شاء فرع ومن شاء لم يفرع ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر
في الغنم أضحية
وسيأتي بعد هذا في باب العتيرة قول النبي صلى الله عليه و سلم في كل سائمة من الغنم فرع
فهذه الأحاديث تدل على مشروعيته
وقال ابن المنذر ثبت أن عائشة قالت أمر النبي صلى الله عليه و سلم في
الفرعة من كل خمسين بواحدة قال وروينا عن نبيشة الهذلي قال سئل رسول الله
صلى الله عليه و سلم فقالوا يارسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في
رجب فما تأمرنا فقال في كل سائمة فرع اختصر الحديث وسيأتي لفظه قال وخبر
عائشة وخبر نبيشة ثابتان قال وقد كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية وفعله
بعض أهل الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بهما ثم نهى عنهما رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال لا فرع ولا عتيرة فانتهى الناس عنهما لنهيه
إياهم عنهما ومعلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل ولا نعلم أن
أحدا من أهل العلم يقول إن النبي صلى الله عليه و سلم كان نهاهم عنهما ثم
أذن فيهما والدليل على أن الفعل كان قبل النهي قوله في حديث نبيشة إنا كنا
نعتر عتيرة في الجاهلية وإنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية وفي إجماع عوام
علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك وقوف عن الأمر بهما مع ثبوت النهي عن
ذلك بيان لما قلنا
وقد كان ابن سيرين من بين أهل العلم يذبح العتيرة في شهر رجب وكان يروي فيها شيئا
وكان الزهري يقول الفرعة أول نتاج والعتيرة شاة كانوا يذبحونها في رجب آخر كلام ابن المنذر
وقال أبو عبيد هذا منسوخ وكان إسحاق بن راهويه يحمل قوله لا فرع ولا عتيرة أي لا يجب ذلك
ويحمل هذه الأحاديث على الإذن فيها
قال الحازمي وهذا أولى مما سلكه ابن المنذر
وقال الشافعي الفرعة شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم
فكان أحدهم يذبح بكر ناقته لا يعدوه رجاء البركة فيما يأتي بعده فسألوا
النبي صلى الله عليه و سلم فقال افرعوا إن شئتم أي اذبحوا إن شئتم وكانوا
يسألونه عما يصنعونه في الجاهلية خوفا أن يكون ذلك مكروها في الإسلام
فأعلمهم أنه لا بركة لهم فيه وأمرهم أن يعدوه ثم يحملون عليه في سبيل الله
قال البيهقي أو يذبحونه ويطعمونه كما في حديث نبيشة
قال الشافعي وقوله الفرعة حق أي ليست بباطل ولكنه كلام عربي يخرج على جواب السائل
قال الشافعي وروي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لا فرع ولا عتيرة وليس
باختلاف من الرواة إنما هو لا فرعة ولا عتيرة واجبة والحديث الآخر في
الفرعة والعتيرة يدل على معنى هذا أنه أباح الذبح واختار له أن يعطيه أرملة
أو يحمل عليه في سبيل الله
والعتيرة هي الرجبية
وهي ذبيحة كان أهل الجاهلية يتبررون بها في رجب
فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا عتيرة على معنى لا عتيرة لازمة
وقوله حين سئل عن العتيرة اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا لله وأطعموا أي
اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أي شهر كان لا أنها في رجب
دون ما سواه من الشهور
آخر كلامه
وقال أصحاب أحمد لا يسن شيء من ذلك
وهذه ا لأحاديث منسوخة
قال الشيخ أبو محمد ودليل النسخ أمران
أحدهما أن أبا هريرة هو الذي روى حديث لا فرع ولا عتيرة وهو متفق عليه
وأبو هريرة متأخر الإسلام أسلم في السنة السابعة من الهجرة
والثاني أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمرا متقدما على الإسلام
فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له قال ولو
قدرنا تقدم النهي على الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها
وهذا خلاف الظاهر
فإذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته
فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به أو إطعامه لم يكن ذلك مكروها
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه
فقالت طائفة لا يصح رفعه وإنما هو موقوف
قال الدارقطني في كتاب العلل ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان
وأبو ضمرة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد ووقفه عقيل على سعيد قوله
ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة قولها
ووقفه ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن عن أبي سلمة عن أم سلمة
قولها ووقفه عبدالرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد قوله
والمحفوظ عن مالك موقوف
قال الدارقطني والصحيح عندي قول من وقفه ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه
منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعا
ومنهم أبو عيسى الترمذي قال هذا حديث حسن صحيح
ومنهم ابن حبان خرجه في صحيحه
ومنهم أبو بكر البيهقي قال هذا حديث قد ثبت مرفوعا من أوجه لا يكون مثلها غلطا وأودعه مسلم في كتابه
وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن حميد عن سعيد عن
أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم
عن سعيد عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم
وليس شعبة وسفيان
يدون هؤلاء الذين وقفوه ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد
من خطاب النبي صلى الله عليه و سلم في قوله لا يؤمن أحدكم أيعجز أحدكم أيحب
أحدكم إذا أتى أحدكم الغائط إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه ونحو ذلك
وأما اختلافهم في متنه فذهبت إليه طائفة من التابعين ومن بعدهم
فذهب إليه سعيد بن
المسيب وربيعة بن أبي عبدالرحمن وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد وغيرهم
وذهب آخرون إلى أن ذلك مكروه لا محرم
وحملوا الحديث على الكراهة منهم مالك وطائفة من أصحاب أحمد منهم أبو يعلى وغيره
وذهبت طائفة إلى الإباحة وأنه غير مكروه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
والذين لم يقولوا به منهم من أعله بالوقف وقد تقدم ضعف هذا التعليل ومنهم
من قال هذا خلاف الحديث الثابت عن عائشة المتفق على صحته أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم كان يبعث بهديه ويقيم حلالا لا يحرم عليه شيء
قال
الشافعي فإن قال قائل ما دل على أنه اختيار لا واجب قيل له روى مالك عن عبد
الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت أنا فتلت قلائد هدي النبي صلى الله
عليه و سلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بعث بها مع
أبي بكر فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه و سلم شيء أحله الله له حتى
نحر الهدي
قال الشافعي وفي هذا دلالة على ما وصفت وعلى أن المرء لا يحرم ببعثه بهديه يقول البعث بالهدي أكثر من إرادة الأضحية
ومنهم من رد هذا الحديث بخلافه للقياس لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس والطبيب فلا يحرم عليه حلق الشعر ولا تقليم الظفر
وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه
وأما حديث عائشة فهو إنما يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنه
يقيم حلالا ولا يكون محرما بإرسال الهدي ردا على من قال من السلف يكون بذلك
محرما ولهذا روت عائشة لما حكي لها هذا الحديث
وحديث أم سلمة يدل على أن من أراد أن يضحي أمسك في العشر عن أخذ شعره وظفره
خاصة فأي منافاة بينهما ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين هذا في موضعه وهذا في موضعه
وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين فقال هذا له وجه وهذا له وجه
ولو قدر بطريق الفرض تعارضهما لكان حديث أم سلمة خاصا وحديث عائشة عاما
ويجب تنزيل العام على ما عدا مدلول الخاص توفيقا بين الأدلة
ويجب حمل حديث عائشة على ما عدا ما دل عليه حديث أم سلمة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروها
وأيضا فعائشة إنما تعلم ظاهر ما يباشرها به أو يفعله ظاهرا من اللباس والطيب
وأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وتقليم الظفر مما لا يفعل في الأيام العديدة إلا مرة
فهي لم تخبر بوقوعه منه صلى الله عليه و سلم في عشر ذي الحجة وإنما قالت لم يحرم عليه شيء
وهذا غايته أن يكون شهادة على نفي فلا يعارض حديث أم سلمة
والظاهر أنها لم ترد ذلك بحديثها وما كان كذلك فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل
وخبر أم سلمة صريح في النهي فلا يجوز تعطيله أيضا
فأم سلمة تخبر عن قوله وشرعه لأمته فيجب امتثاله
وعائشة تخبر عن نفي مستند إلى رؤيتها وهي إنما رأت أنه لا يصير بذلك محرما يحرم عليه ما يحرم على المحرم
ولم تخبر عن قوله إنه لا يحرم على أحدكم بذلك شيء
وهذا لا يعارض صريح لفظه
وأما رد الحديث بالقياس فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى
ذلك في رد القياس ومعلوم أن رد القياس بصريح السنة أولى من رد السنة
بالقياس وبالله التوفيق
كيف وأن تحريم النساء والطيب واللباس أمر يختص
بالإحرام لا يتعلق بالضحية وأما تقليم الظفر وأخذ الشعر فإنه من تمام
التعبد بالأضحية وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو أول الباب
وقوله
تأخذ من شعرك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله فأحب النبي صلى الله
عليه و سلم توفير الشعر والظفر في العشر ليأخذه مع الضحية فيكون ذلك من
تمامها عند الله
وقد شهد لذلك أيضا أنه صلى الله عليه و سلم شرع لهم
إذا ذبحوا عن الغلام عقيقته أن يحلقوا رأسه فدل على أن حلق رأسه مع الذبح
أفضل وأولى وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه
الله وهذا لا يصح فإن قوله لأحد هؤلاء ولن تجزىء عن أحد بعدك ولا رخصة فيها
لأحد بعدك ينفي تعدد الرخصة
وقد كنا نستشكل هذه الأحاديث إلى أن يسر
الله بإسناد صحتها وزوال إشكالها فله الحمد فنقول أما حديث أبي بردة بن
نيار فلا ريب في صحته وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له في الجذعة
من المعز ولن تجزىء عن أحد بعدك وهذا قطعا ينفي أن تكون مجزئة عن أحد بعده
وأما حديث عقبة بن عامر فإنما وقع فيه الإشكال من جهة أنه جاء في بعض ألفاظه أنه يثبت له جذعة
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه غنما يقسمها
على صحابته ضحايا فبقى عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ضح
به أنت فظن من قال إن العتود هو الجذع من ولد المعز فاستشكله وقوى هذا
الإشكال عنده رواية يحيى بن بكير عن الليث في هذا الحديث ولا رخصة فيها
لأحد بعدك
ولكن العتود من ولد المعز ما قوي ورعي وأتي عليه حول قاله الجوهري وكذلك كلام غيره من أئمة اللغة قريب منه
قال بعضهم ما بلغ السفاد
وقال بعضهم ما قوي وشب
وغير هذا فيكون هو الثني من المعز فتجوز الضحية به ومن رواه فبقي جذع لم
يقل فيه جذع من المعز ولعله ظن أن العتود هو الجذع من الماعز فرواه كذلك
والمحفوظ فبقي عتود وفي لفظ فأصابني جذع وليس في الصحيح إلا هاتان اللفظتان
وأما جذع من المعز فليس في حديث عقبة فلا إشكال فيه
فإن قيل فما وجه قوله ولا رخصة فيها لأحد بعدك
قيل هذه الزيادة غير محفوظة في حديثه ولا ذكرها أحد من أصحاب الصحيحين ولو
كانت في الحديث لذكروها ولم يحذفوها فإنه لا يجوز اختصار مثلها وأكثر
الرواة لا يذكرون هذه اللفظة
وأما حديث زيد بن خالد الجهني فهو والله أعلم حديث عقبة بن عامر الجهني بعينه
واشتبه على ابن إسحاق أو من حدثه اسمه وأن قصة العتود وقسمة الضحايا إنما كانت مع عقبة بن عامر الجهني وهي التي رواها أصحاب الصحيح
ثم إن الإشكال في حديثه إنما جاء من قوله فقلت إنه جذع من المعز وهذه
اللفظة إنما ذكرها عن أبي إسحاق السبيعي أحمد بن خالد الوهبي عنه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى ابن حزم من طريق سليمان
بن يسار عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ضحوا بالجذعة من
الضأن والثنية من المعز وهذا مرسل
8
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث له علل
احدهما أن عطاء بن السائب اضطرب فيه فمرة وصله ومرة أرسله
الثانية أن عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره واختلف في الاحتجاج بحديثه وإنما أخرج له البخاري مقرونا بأبي بشر
الثالثة أن فيه عمران بن عيينة أخو سفيان بن عيينة قال أبو حاتم الرازي لا يحتج بحديثه فإنه يأتى بالمناكير
الرابعة أن سورة الأنعام مكية باتفاق ومجيء اليهود إلى النبي صلى الله
عليه و سلم ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة وأما بمكة فإنما كان
جداله مع المشركين عباد الأصنام
قال الحافظ شمس الدين بن القيم
رحمه الله وحديث جابر قال ابن القطان فيه عبيد الله بن زياد القداح وفيه
عتاب بن بشر الحراني زعموا أنه روى بآخره أحاديث منكرة وأنه اختلط عليه
العرض والسماع فتكلموا فيه قال وهذا من الوسواس ولا يضره ذلك فإن كل واحد
منهما بمحمل صحيح وفي الباب حديث ابن عمر يرفعه ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر
أو لم يشعر ذكره الدارقطني
وله علتان إحداهما أن الصواب وقفه قاله الدارقطني
والثانية أنه من رواية عصام بن يوسف عن مبارك بن مجاهد وضعف البخاري مبارك بن مجاهد وقال أبو حاتم الرازي ما أرى بحديثه بأسا
وقوله في بعض ألفاظه فإن ذكاته ذكاة أمه مما يبطل تأويل من رواه بالنصب وقال ذكاة الجنين كذكاة أمه
قال الشيخ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذا باطل من وجوه أحدها أن سياق
الحديث يبطله فإنهم سألوا النبي صلى الله عليه و سلم عن الجنين الذي يوجد
في بطن الشاة أيأكلونه أم يلقونه فأفتاهم بأكله ورفع عنهم ما توهموه من
كونه ميتة بأن ذكاة أمه ذكاة له لأنه جزء من أجزائها كيدها وكبدها ورأسها
وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاة مستقلة
والحمل ما دام جنينا فهو
كالجزء منها لا ينفرد بحكم فإذا ذكيت الأم أتت الذكاة على جميع أجزائها
التي من جملتها الجنين فهذا هو القياس الجلي لو لم يكن في المسألة نص
الثاني أن الجواب لا بد وأن يقع عن السؤال والصحابة لم يسألوا عن كيفية
ذكاته ليكون قوله ذكاته كذكاة أمه جوابا لهم وإنما سألوا عن أكل الجنين
الذي يجدونه بعد الذبح فأفتاهم بأكله حلالا بجريان ذكاة أمه عليه وأنه لا
يحتاج إلى أن ينفرد بالزكاة
الثالث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و
سلم أعظم الخلق فهما لمراده بكلامه وقد فهموا من هذا الحديث اكتفاءهم
بذكاة الأم عن ذكاة الجنين وأنه لا يحتاج أن ينفرد بذكاة بل يؤكل
قال
عبد الله بن كعب بن مالك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون
إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا إشارة إلى جميعهم
قال ابن
المنذر كان الناس على إباحته لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوه إلى أن جاء
النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين
الرابع أن
الشريعة قد استقرت على أن الذكاة تختلف بالقدرة والعجز فذكاة الصيد الممتنع
بجرحه في أي موضع كان بخلاف المقدور عليه وذكاة المتردية لا يمكن إلا
بطعنها في أي موضع كان ومعلوم أن الجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح
أمه فتكون ذكاة أمه ذكاة له هو محض القياس
الخامس أن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه جملة خبرية جعل الخبر فيها نفس المبتدأ
فهي كقولك غذاء الجنين غذاء أمه ولهذا جعلت الجملة لتتميم إن وخبرها في
قوله فإن ذكاته ذكاة أمه وإذ كان هكذا لم يجز في ذكاة أمه إلا بالرفع ولا
يجوز نصبه لبقاء المبتدأ بغير خبر فيخرج الكلام عن الإفادة والتمام إذ
الخبر محل الفائدة وهو غير معلوم
السادس أنه إذا نصب ذكاة أمه فلا بد وأن يجعل الأول في تقدير فعل لينتصب عنه المصدر ويكون تقديره يذكي الجنين ذكاة أمه ونحوه
ولو أريد هذا المعنى لقيل ذكوا الجنين ذكاة أمه أو يذكى كما يقال اضرب
زيدا ضرب عمرو وينتصب الثاني على معنى اضرب زيدا ضرب عمرو فهذا لا يجوز
وليس هو كلاما عربيا إلا إذا نصب الجزآن معا فتقول ذكاة الجنين ذكاة أمه
وهذا
مع أنه خلاف رواية الناس وأهل الحديث قاطبة فهو أيضا ممتنع
فإن المصدر لابد له من فعل يعمل فيه فيؤول التقدير إلى ذكوا ذكاة الجنين
ذكاة أمه ويصير نظير قولك ضرب زيد ضرب عمرو تنصبهما
وتقديره اضرب ضرب زيد ضرب عمرو وهذا إنما يكون في المصدر بدلا من اللفظ بالفعل إذا كان منكرا نحو ضربا زيد أي ضرب زيد
ولهذا كان قولك ضربا زيدا كلاما تاما وقولك ضرب زيد ليس بكلام تام فإن
الأول يتضمن اضرب زيدا بخلاف الثاني فإنه مفرد فقط فيعطي ذلك معنى الجملة
فأما إذا أضفته وقلت ضرب زيد فإنه يصير مفردا ولا يجوز تقديره باضرب زيد
ويدل على بطلانه الوجه السابع وهو أن الجنين إنما يذكى مثل ذكاة أمه إذا
خرج حيا وحينئذ فلا يؤكل حتى يذكى ذكاة مستقبلة لأنه حينئذ له حكم نفسه وهم
لم يسألوا عن هذا ولا أجيبوا به فلا السؤال دل عليه ولا هو جواب مطابق
لسؤالهم فإنهم قالوا نذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله
فقال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه فهم إنما سألوه عن أكله أيحل لهم أم
لا فأفتاهم بأكله وأزال عنهم ما علم أنه يقع في أوهامهم من كونه ميتة بأنه
ذكى بذكاة الأم
ومعلوم أن هذا الجواب والسؤال لا يطابق ذكوا الجنين
مثل ذكاة أمه بل كان الجواب حينئذ لا تأكلوه إلا أن يخرج حيا فذكاته مثل
ذكاة أمه وهذا ضد مدلول الحديث والله أعلم
وبهذا يعلم فساد ما سلكه
أبو الفتح ابن جنى وغيره في إعراب هذا الحديث حيث قالوا ذكاة أمه على تقدير
مضاف محذوف أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه
وحذف المضاف وإقامة المضاف
إليه مقامه كثير وهذا إنما يكون حيث لا لبس وأما إذا أوقع في اللبس فإنه
تمتنع وما تقدم كاف في فساده وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين
بن القيم رحمه الله فإنه حكي أن محمد بن سيرين قال لحبيب بن الشهيد اذهب
إلى الحسن فاسأله ممن سمع حديث العقيقة فذهب إليه فسأله فقال سمعته من سمرة
وهذا يرد على من قال إنه لم يسمع منه
قال الحافظ شمس الدين
بن القيم رحمه الله وقال سلام بن أبي مطيع عن قتادة ويسمى ذكره أبو داود
وهو الذي صححه وقال إياس بن دغفل عن الحسن ويسمى
واختلف في حكمها أيضا فكان قتادة يستحب تسميته يوم سابعه كما ذكر أبو داود
وهذا يدل على أن هماما لم يهم في هذه اللفظة فإنه رواها عن قتادة وهذا مذهبه فهو والله أعلم بريء من عهدتها
وقد روى عن الحسن مثل قول قتادة
وكره آخرون التدمية منهم أحمد ومالك والشافعي وابن المنذر
قال ابن عبدالبر لا أعلم أحدا قال هذا يعني التدمية إلا الحسن وقتادة
وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه
وقال مهنا بن يحيى الشامي ذكرت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل حديث يزيد بن
عبدالمزنى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يعق عن الغلام ولا يمس
رأسه بدم فقال أحمد ما أظرفه ورواه ابن ماجه في سننه ولم يقل عن أبيه
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال أميطوا عنه الأذى والدم أذى
فكيف يؤمر بأن يصاب بالأذى ويلطخ به واحتجوا بأن الدم نجس فلا يشرع إصابة
الصبي به كسائر النجاسات من البول وغيره
واحتجوا أيضا بحديث بريدة الذي ذكره أبو داود في آخر الباب وسيأتي
واحتجوا بأن هذا كان من فعل الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطله كما قاله بريدة
وقوله ويسمى ظاهره أن التسمية تكون يوم سابعه
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمى ابنه إبراهيم ليلة ولادته
وثبت عنه أنه سمى الغلام الذي جاء به أنس وقت ولادته فحنكه وسماه عبد الله
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم سمى المنذر بن أسود المنذر حين ولد
وقد روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه و سلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق وقال هذا
حديث حسن غريب
والأحاديث التي ذكرناها أصح منه فإنها متفق عليها كلها ولا تعارض بينها
فالأمران جائزان
وقوله ويحلق رأسه قد جاء هذا أيضا في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله
عليه و سلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة على
المساكين والأوقاص يعني أهل الصفة
وروى سعيد بن منصور في سننه أن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورقا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله احتج بهذا من يقول الذكر والأنثي
في العقيقة سواء لا يفضل أحدهما على الآخر وأنها كبش كبش كقول مالك وغيره
واحتج الأكثرون بحديث أم كرز المتقدم
واحتجوا بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرهم عن الغلام
شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
ورواه أحمد بهذا اللفظ وله فيه لفظ آخر أمرنا رسول الله صلى الله عليه و
سلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين وهذا اللفظ لابن ماجه أيضا
واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه أراه عن جده وفيه
ومن ولد له فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية
شاة وسيأتي
قالوا وأما قصة عقه عن الحسن والحسين فذلك يدل على الجواز وما ذكرناه من الأحاديث صريح في الاستحباب
وقال آخرون مولد الحسن والحسين كان قبل قصة أم كرز فإن الحسن ولد عام أحد
والحسين في العام القابل وأما حديث أم كرز فكان سماعها له من النبي صلى
الله عليه و سلم عام الحديبية ذكره النسائي فهو متأخر عن قصة الحسن والحسين
قالوا وأيضا فإنا قد رأينا الشريعة نصت على أن الأنثى على النصف من
الذكر في ميراثها وشهادتها ودينها وعتقها كما روى الإمام أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه من حديث أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و
سلم قال أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزىء بكل عضو
منه عضوا منه وأيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار
يجزىء بكل عضوين منهما عضوا منه اللفظ للترمذي فحكم العقيقة موافق لهذه
الأحكام كما أنه مقتضى النصوص والله أعلم
والله الموفق
قال
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال ابن عبدالبر في حديث مالك عن زيد
بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و
سلم عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الإسم
قال أبو عمر ولا أعلم روى معنى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه ومن حديث عمرو بن شعيب
وقد اختلف فيه على عمرو وأحسن أسانيده ما ذكره عبدالرزاق قال أخبرنا داود بن قيس قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن العقيقة فذكره وهذا سالم من العلتين أعني الشك في جده ومن علي بن واقد
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ولكن قد رواه البزار في مسنده من حديث عائشة بمثله
وقالت فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا وقد
روى أبو أحمد بن عدي من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الخلوق
بمنزلة الدم يعني في العقيقة
وإبراهيم هذا قال عبد الحق لا أعلم أحدا وثقه إلا أحمد بن حنبل وأما الناس فضعفوه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ويروى مثل ذلك من حديث عبد الله بن عمرو وسيأتي آخر الباب والكلام عليه
وفي مسند الإمام أحمد من حديث إبراهيم عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسك على
نفسه وإذا أرسلت فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه
فاختلف في إباحة ما أكل منه الكلب من الصيد
فمنعه ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وطاوس والشعبي والنخعي وعبيد بن عمير
وسعيد بن جبير وأبو بردة وسويد بن غفلة وقتادة وغيرهم وهو قول إسحاق وأبو
حنيفة وأصحابه وهو أصح الروايتين عن أحمد وأشهرهما وأحد قولي الشافعي
وأباحه طائفة يروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان ويروي عن أبي هريرة أيضا
وعن ابن عمر رواه أحمد عنهم وبه قال مالك والشافعي في القول الآخر وأحمد في
إحدى الروايتين
واحتجوا بحديث أبي ثعلبة المتقدم وحديث عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو داود في آخر الباب
واحتجوا بما رواه عبد الملك بن حبيب عن أسد بن موسى وهو أسد السنة عن ابن
أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر نحو
حديث أبي ثعلبة في جوار الأكل منه إذا أكل واحتجوا أيضا بما رواه الثوري
عن سماك عن مري بن قطري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ما كان من كلب
ضار أمسك عليك فكل قلت وإن أكل قال نعم ذكر هذين الحديثين ابن حزم
وتعلق في الأول على عبد الملك وعلى أسد بن موسى
وتعلق في الثاني على سماك وأنه كان يقبل التلقين ذكره النسائي وعلى مري بن قطري
وقد تقدم تعليل حديث أبي ثعلبة بداود بن عمرو وهو ليس بالحافظ قال فيه ابن
معين مرة مستور قال أحمد يختلفون في حديث أبي ثعلبة على هشيم وحديث الشعبي
عن عدي من أصح ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم الشعبي يقول كان جاري
وربيطي فحديثي والعمل عليه
وسلكت طائفة مسلك الجمع بين الحديثين فقال
الخطابي يمكن أن يوفق بين الحديثين ثم ذكر ابن القيم ما ذكره عنه المنذري
ثم قال والصواب في ذلك أنه لا تعارض بين الحديثين على تقدير الصحة ومحمل
حديث عدي في المنع على ما إذا أكل منه حال صيده لأنه إنما صاده لنفسه ومحمل
حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن صاده وقبله ونهى عنه ثم أقبل
عليه فأكل منه فإنه لا يحرم لأنه أمسكه لصاحبه وأكله منه بعد ذلك كأكله من
شاة ذكاها صاحبها أو من لحم عنده فالفرق بين أن يصطاد ليأكل أو يصطاد ثم
يعطف عليه فيأكل منه فرق واضح
فهذا أحسن ما يجمع به بين الحديثين
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال عبد الحق المحفوظ موقوف على علي وقد روى من حديث جابر
ولكن في إسناده حرام بن عثمان وقال ابن القطان علة حديث علي أنه من رواية عبد الرحمن بن قيس ولا يعرف في رواة الأخبار
قال وعلته أيضا أنه سمع شيوخا من بني عمرو بن عوف خالد بن سعيد وعبد الله
بن أبي أحمد قال قال علي فخالد بن سعيد وابنه عبد الله بن خالد مجهولان ولم
أجد لعبد الله ذكر إلا في رسم ابن له يقال له إسماعيل بن عبد الله بن خالد
بن سعيد بن أبي مريم ذكره أيضا أبو حاتم وهو مجهول الحال فأما جده سعيد بن
أبي مريم فثقة ويحيى بن محمد المدني إما مجهول وإما ضعيف إن كان ابن هانىء
وهذا سهو فإن يحيى هذا هو يحيى بن محمد بن قيس أبو زكريا روى له مسلم في
الصحيح
قال ابن القطان وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش بن رئاب مجهول
الحال أيضا وقيس ليس هو والد بكير بن عبد الله بن الأشج كما ظنه ابن أبي
حاتم حين جمع بينهما والبخاري قد فصل بينهما فجعل الذي يروي عن علي في
ترجمة والذي يروي عن ابن عباس وهو والد بكير في ترجمة أخرى وأيهما كان
فحاله مجهول أيضا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله فهذا ما رد به حديث الخال وهي بأسرها وجوه ضعيفة
أما قولهم إن أحاديثه ضعاف فكلام فيه إجمال فإن أريد بها أنها ليست في درجة الصحاح التي
لا علة فيها فصحيح ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها ولا يوجب انحطاطها عن
درجة الحسن بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحسان فإنها قد تعددت
طرقها ورويت من وجوه مختلفة وعرفت مخارجها ورواتها ليسوا بمجروحين ولا
متهمين
وقد أخرجها أبو حاتم بن حبان في صحيحه وحكم بصحتها
وليس في أحاديث الأصول ما يعارضها
وقد رويت من حديث المقدام بن معدي كرب هذا ومن حديث عمر بن الخطاب ذكره
الترمذي عن حكيم بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال كتب عمر بن
الخطاب إلى أبي عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله ورسوله
مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له قال الترمذي هذا حديث حسن
ورواه ابن حبان في صحيحه ولم يصنع من أعل هذا الحديث بحكيم بن حكيم وأنه
مجهول شيئا فإنه قد روى عنه سهيل بن صالح وعبد الرحمن بن الحارث وعثمان بن
حكيم أخوه
ولم يعلم أن أحدا جرحه وبمثل هذا يرتفع عنه الجهالة ويحتج بحديثه
ومن حديث عائشة ذكره الترمذي أيضا عن ابن جريج عن عمرو بن مسلم عن طاوس عن
عائشة ترفعه الخال وارث من لا وارث له قال الترمذي حسن غريب
قال وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام
وأما زيد بن ثابت فلم يورثهم
وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عن عائشة تم كلامه
وهذا على طريقة منازعينا لا يضر الحديث شيئا لوجهين أحدهما أنهم يحكمون بزيادة الثقة
والذي وصله ثقة وقد زاد فيجب عندهم قبول زيادته
الثاني أنه مرسل قد عمل به أكثر أهل العلم كما قال الترمذي ومثل هذا حجة عند من يرى المرسل حجة كما نص عليه الشافعي
وأما حمل الحديث على الخال الذي هو عصبته فباطل ينزه كلام الرسول عن أن
يحمل عليه لما يتضمنه من اللبس فإنه أنما علق الميراث بكونه خالا فإذا كان
سبب توريثه كونه ابن عم أو مولى
فعدل عن هذا الوصف الموجب للتوريث إلى وصف لا يوجب التوريث
وعلق به الحكم
فهذا ضد البيان وكلام الرسول صلى الله عليه و سلم منزه عن مثل ذلك
وأما قوله قد أجمعوا على أن الخال لا يكون ابن عم أو مولى لا يعقل
بالخؤولة فلا إجماع في ذلك أصلا وأين الإجماع ثم لو قدر أن الإجماع انعقد
على خلافه في التعاقل فلم ينعقد على عدم توريثه بل جمهور العلماء يورثونه
وهو قول أكثر الصحابة فكيف يترك القول بتوريثه لأجل القول بعدم تحمله في
العاقلة وهذا حديث المسح على الجوربين والخمار والمسح على العصائب
والتساخين والمسح على الناصية والعمامة قد أخذوا منه ببعضه دون بعض وكذلك
حديث بصرة ابن أبي بصرة في الذي تزوج امرأة فوجدها حبلى أخذوا ببعضه دون
بعض وهذا موجود في غير حديث
وقوله لو كان ثابتا يكون في وقت كان الخال
يعقل بالخؤولة فهو إشارة إلى النسخ الذي لا يمكن إثباته إلا بعد أمرين
أحدهما ثبوت معارضته المقاوم له
والثاني تأخره عنه
ولا سبيل هنا إلى واحد من الأمرين
وقوله اختار وضع ماله فيه يعني على سبيل الطعمة لا الميراث فباطل لثلاثة
أوجه أحدها أن لفظ الحديث يبطله فإنه قال يرث ماله وفي لفظ يرثه
الثاني أنه سماه وارثا والأصل في التسمية الحقيقة فلا يعدل عنها إلا بعد أمور أربعة أحدها قيام دليل على امتناع إرادتها
الثاني بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي عينه مجازا له ولا يكفي ذلك إلا
بالثالث وهو بيان استعماله فيه لغة حتى لا يكون لنا وضع يحمل عليه لفظ النص
وكثير من الناس يغفل عن هذه الثلاثة ويقول يحمل على كذا وكذا وهذا غلط
فإن الحمل ليس بإنشاء وإنما هو إخبار عن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الذي
حمله عليه وإن لم يكن مطابقا كان خبرا كاذبا وإن أراد به أني أنشىء حمله
على هذا المعنى كما يظن كثير ممن لا تحقيق عنده فهو باطل قطعا لا يحل لأحد
أن يرتكبه ثم يحمل كلام الشارع عليه
الرابع الجواب عن المعارض وهو دليل إرادة الحقيقية ولا يكفيه دليل امتناع إرادتها ما لم يجب عن دليل الإرادة
الخامس أن المخاطبين بهذا اللفظ فهموا منه الميراث دون غيره وهم الصحابة
رضي الله عنهم ولهذا كتب به عمر رضي الله عنه جوابا لأبي عبيدة حين سأله في
كتابه عن ميراث الخال وهم أحق الخلق بالإصابة في الفهم
وقد علم بهذا بطلان حمل الحديث على أن الخال السلطان وعلى أن المراد به السلب
وكل هذه وجوه باطلة
وأسعد الناس بهذه الأحاديث من ذهب إليها وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأعل أيضا بعبد الواحد بن عبد
الله بن بسر البصري راوية عن وائلة قال ابن أبي حاتم صالح لا يحتج به
وقد اشتمل على ثلاث جمل إحداها ميراث المرأة عتيقها وهو متفق عليه
الثانية ميراثها ولدها الذي لاعنت عليه وقد اختلف فيه فكان زيد بن ثابت يجعل ميراثها منه كميراثها من الولد الذي لم تلاعن عليه
وروى عن ابن عباس نحوه وهو قول جماعة من التابعين وهو قول مالك والشافعي
وأبي حنيفة وأصحابهم وعندهم لا تأثير لانقطاع نسبه من أبيه في ميراث الأم
منه
وكان الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد وعطاء والنخعي والحكم وحماد
والثوري والحسن بن صالح وغيرهم يجعلون عصبة أمه عصبة له وهذا مذهب أحمد في
إحدى الروايتين عنه وهو إحدى الروايتين عن علي وابن عباس
وكان ابن مسعود وعلي في الرواية الأخرى عنه يجعلون أمه نفسها عصبة وهي قائمة مقام أمه وأبيه فإن عدمت فعصبتها عصبته
وهذا هو الرواية الثانية عن أحمد نقلها عنه أبو الحارث ومهنا
ونقل الأولى الأثرم وحنبل وهو مذهب مكحول والشعبي
وأصح هذه الأقوال أن أمه نفسها عصبة وعصبتها من بعدها عصبة له هذا مقتضى الآثار والقياس
أما الآثار فمنها حديث واثلة هذا
ومنها ما ذكره أبو داود في الباب عن مكحول
ومنها ما رواه أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله
ومنها ما رواه أبو داود أيضا عن عبد الله بن عبيد عن رجل من أهل الشام أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لولد الملاعنة عصبته عصبة أمه ذكره في
المراسيل
وفي لفظ له عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كتبت إلى صديق
لي من أهل المدينة من بني زريق أسأله عن ولد الملاعنة لمن قضى به رسول الله
صلى الله عليه و سلم فكتب إلي إني سألت فأخبرت أنه قضى به لأمه وهي بمنزلة
أبيه وأمه
وهذه آثار يشد بعضها بعضا
وقد قال الشافعي إن المرسل إذا روى من وجهين مختلفين أو روى مسندا أو اعتضد بعمل بعض الصحابة فهو حجة
وهذا قد روى من وجوه متعددة وعمل به من ذكرنا من الصحابة والقياس معه
فإنها لو كانت معتقة كان عصبتها من الولاء عصبة لولدها ولا يكون عصبتها من
النسب عصبة لهم
ومعلوم أن تعصيب الولاء الثابت لغير المباشر بالعتق
فرع على ثبوت تعصيب النسب فكيف يثبت الفرع مع انتفاء أصله وأيضا فإن الولاء
في الأصل لموالي الأب فإذا انقطع من جهتهم رجع إلى موالي الأم فإذا عاد من
جهة الأب انتقل من موالي الأم إلى موالي الأب وهكذا النسب هو في الأصل
للأب وعصباته فإذا انقطع من جهته باللعان عاد إلى الأم وعصباتها فإذا عاد
إلى الأب باعترافه بالولد وإكذابه نفسه رجع النسب إليه كالولاء سواء بل
النسب هو الأصل في ذلك والولاء ملحق به
وهذا من أوضح القياس وأبينه وأدله على دقة أفهام الصحابة وبعد غورهم في مأخذ الأحكام
وقد أشار إلى هذا في قوله في الحديث هي بمنزلة أمه وأبيه
حتى لو لم ترد هذه الآثار لكان هذا محض القياس الصحيح
وإذا ثبت أن عصبة أمه عصبة له فهي أولى أن تكون عصبته لأنهم فرعها وهم
إنما صاروا عصبة له بواسطتها ومن جهتها استفادوا تعصيبهم فلأن تكون هي
نفسها عصبة أولى وأحرى
فإن قيل لو كانت أمه بمنزلة أمه وأبيه لحجبت
إخوته ولم يرثوا معها شيئا وأيضا فإنهم إنما يرثون منه بالفرض فكيف يكونون
عصبة له فالجواب إنها إنما لم تحجب إخوته من حيث إن تعصيبها مفرع على
انقطاع تعصيبه من جهة الأب كما أن تعصيب الولاء مفرع على انقطاع التعصيب من
جهة النسب فكما لا يحجب عصبة الولاء أحدا من أهل النسب كذلك لا تحجب الأم
الإخوة لضعف تعصيبها وكونه إنما صار إليها ضرورة تعذره من جهة أصله وهو
بعرض الزوال بأن يقر به الملاعن فيزول
وأيضا فإن الاخوة استفادوا من جهتها أمرين أخوة ولد الملاعنة وتعصيبه
فهم يرثون أخاهم معها بالأخوة لا بالتعصيب وتعصيبها إنما يدفع تعصيبهم لا
أخوتهم ولهذا ورثوا معها بالفرض لا بالتعصيب وبالله التوفيق
الجملة الثالثة في حديث واثلة ميراث اللقيط وهذا قد اختلف فيه
فذهب الجمهور إلى أنه لا توارث بينه وبين ملتقطه بذلك
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن ميراثه لملتقطه عند عدم نسبه لظاهر حديث
واثلة وإن صح الحديث فالقول ما قال إسحاق لأن إنعام الملتقط على اللقيط
بتربيته والقيام عليه والإحسان إليه ليس بدون إنعام المعتق على العبد بعتقه
فإذا كان الإنعام بالعتق سببا لميراث المعتق مع أنه لا نسب بينهما فكيف
يستبعد أن يكون الإنعام بالالتقاط سببا له مع أنه قد يكون أعظم موقعا وأتم
نعمة وأيضا فقد ساوى هذا الملتقط المسلمين في مال اللقيط وامتاز عنهم
بتربية اللقيط والقيام بمصالحه وإحيائه من الهلكة فمن محاسن الشرع ومصلحته
وحكمته أن يكون أحق بميراثه
وإذا تدبرت هذا وجدته أصح من كثير من القياسات التي يبنون عليها الأحكام والعقول أشد قبولا له
فقول إسحاق في هذه المسألة في غاية القوة والنبي صلى الله عليه و سلم كان يدفع الميراث بدون هذا كما دفعه إلى العتيق مرة وإلى الكبر من خزاعة مرة وإلى أهل سكة الميت ودربه مرة وإلى من أسلم على يديه مرة ولم يعرف عنه صلى الله عليه و سلم شيء ينسخ ذلك ولكن الذي استقر عليه شرعه تقديم النسب على هذه الأمور كلها وأما نسخها عند عدم النسب فمما لا سبيل إلى إثباته أصلا وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد دل
على هذا قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا
فأمرهم بترك ما لم يقبضوا من الربا ولم يتعرض لما قبضوه بل أمضاه لهم
وكذلك الأنكحة لم يتعرض فيها لما مضى ولا لكيفية عقدها بل أمضاها وأبطل
منها ما كان موجب إبطاله قائما في الإسلام كنكاح الأختين والزائدة على
الأربع فهو نظير الباقي من الربا
وكذلك الأموال لم يسأل النبي صلى الله عليه و سلم أحدا بعد إسلامه عن ماله ووجه أخذه ولا تعرض لذلك
وكذلك للأسباب الأخرى كما تقدم في المستلحق في بابه
وهذا أصل من أصول الشريعة ينبني عليه أحكام كثيرة
وأما الرجل يسلم على الميراث قبل أن يقسم فروى عن عمر بن الخطاب وعثمان
وعبد الله بن مسعود والحسن بن علي أنه يرث وقال به جابر بن زيد والحسن
ومكحول وقتادة وحميد وإياس بن معاوية وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد في
إحدى الروايتين عنه اختارها أكثر أصحابه
وذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا يرث كما لو أسلم بعد القسمة وهذا مذهب الثلاثة
وذكر ابن عبد البر في التمهيد أن عمر قضى أن من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله نصيبه
وقضى به عثمان
واحتج لهذا القول الأول بما روى سعيد بن منصور في سننه عن عروة عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال من أسلم على شيء فهو له ورواه أيضا عن ابن أبي
مليكة عن النبي صلى الله عليه و سلم
واحتجوا أيضا بحديث أبي داود هذا
واحتجوا بأنه قضاء انتشر في الصحابة من عمر وعثمان ولم يعلم لهما مخالفا
وفيه نظر فإن المشهور عن علي أنه لا يرث
واحتجوا أيضا بأن التركة إنما يتحقق انتقالها إليهم بقسمتها وحوزها
واختصاص كل من الوارثين بنصيبه وما قبل ذلك فهي بمنزلة ما قبل الموت
والتحقيق أنها بمنزلة ما قبل الموت من وجه وبمنزلة ما قبل القسمة من وجه
فإنهم ملكوها بالموت ملكا قهريا ونماؤها لهم وابتدأ حول الزكاة من حين
الموت ولكن هي قبل القسمة كالباقي على
الملك الموروث ولو نمت لضوعف منها وصاياه وقضيت منها ديونه فهي في حكم الباقي على ملكه من بعض الوجوه
ولو تجدد للميت صيد بعد موته بأن يقع في شبكة نصبها قبل موته ثبت ملكه عليه
ولو وقع إنسان في بئر حفرها لتعلق ضمانه بتركته بعد موته فإذا قسمت التركة وتعين حق كل وارث انقطعت علاقة الميت عنها والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال ابن عبد البر هذا حديث حسن صحيح غريب
وذكر توثيق الناس لعمرو بن شعيب وأنه إنما أنكر من حديثه وضعف ما كان عن
قوم ضعفاء عنه وهذا الحديث قد رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن
حسين المعلم عن عمرو فذكره
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه
الله والذين ردوا هذا الحديث منهم من رده لضعفه ومنهم من رده لكونه منسوخا
ومنهم من قال لا دلالة فيه على الميراث بل لو صح كان معناه هو أحق به
يواليه وينصره ويبره ويصله ويرعي ذمامه ويغسله ويصلي عليه ويدفنه فهذه
أولويته به لا أنها أولويته بميراثه وهذا هو التأويل
وقال بهذا الحديث
آخرون منهم إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وطاوس
وربيعة والليث بن سعد وهو قول عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز
وفيها مذهب ثالث أنه إن عقل عنه ورثه وإن لم يعقل عنه لم يرثه وهو مذهب سعيد بن المسيب
وفيها مذهب رابع أنه إن أسلم على يديه ووالاه فإنه يرثه ويعقل عنه وله أن
يتحول عنه إلى غيره ما لم يعقل عنه إلى غيره فإذا عقل عنه لم يكن له أن
يتحول عنه إلى غيره
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
وفيها مذهب خامس أن هذا الحكم ثابت فيمن كان من أهل الحرب دون اهل الذمة وهو مذهب يحيى بن سعيد
فلا إجماع في المسألة مع مخالفة هؤلاء الأعلام
وأما تضعيف الحديث فقد رويت له شواهد
منها حديث أبي أمامة
وأما رده بجعفر بن الزبير فقد رواه سعيد بن منصور أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا معاوية بن يحيى الصدفي عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا
ورواه أيضا من حديث سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا
وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح فلا ينحط عن أدنى درجات الحسن وقد
عضده المرسل وقضاء عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز برواية الفرائض وإنما
يقتضي تقديم الأقارب عليه ولا يدل على عدم توريثه إذا لم يكن له نسب والله
أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وروى النسائي من
حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الصبي إذا استهل
ورث وصلى عليه ورواه الترمذي وقال هذا حديث قد روى موقوفا على جابر وكان
الموقوف أصح
ولفظه
الطفل لا يصلي عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل وفي مسند البزار من حديث ابن عمر يرفعه استهلال الصبي العطاس فيه ابن البيلماني عن أبيه
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله فالظاهر والله أعلم أن المراد بالحديث أن الله تعالى قد ألف بين المسلمين بالإسلام
وجعلهم به إخوة متناصرين متعاضدين يدا واحدة بمنزلة الجسد الواحد فقد
أغناهم بالإسلام عن الحلف بل الذي توجبه أخوة الإسلام لبعضهم على بعض أعظم
مما يقتضيه الحلف
فالحلف إن اقتضى شيئا يخالف الإسلام فهو باطل وإن اقتضى ما يقتضيه الإسلام فلا تأثير له فلا فائدة فيه
وإذا كان قد وقع في الجاهلية ثم جاء الإسلام بمقتضاه لم يزده إلا شدة وتأكيدا
وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم شهدت حلفا في الجاهلية ما أحب أن لي
به حمر النعم لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت فهذا والله أعلم هو حلف
المطيبين حيث تحالفت قريش على نصر المظلوم وكف الظالم ونحوه فهذا إذا وقع
في الإسلام كان تأكيدا لموجب الإسلام وتقوية له
وأما الحلف الذي أبطله فهو تحالف القبائل بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره ويحارب حاربه ويسالم من سالمه
فهذا لا يعقد في الإسلام وما كان منه قد وقع في الجاهلية
فإن الإسلام يؤكده ويشده إذا صار موجبه في الإسلام التناصر والتعاضد
والتساعد على إعلاء كلمة الله تعالى وجهاد أعدائه وتأليف الكلمة وجمع الشمل
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد تبين ان الحلف الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس هو الحلف والإخاء الذي عقده بين المهاجرين والأنصار ويشبه أن يكون أنس فهم من السائل له أن النهي عن الحلف متناول لمثل ما عقده النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه أنس بحلف النبي صلى الله عليه و سلم بين أصحابه في دارهم والله أعلم
قال الحافظ
شمس الدين بن القيم رحمه الله سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول هذا
الحديث موضوع ولا يعرف لرسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب اسمه السجل قط
وليس في الصحابة من اسمه السجل وكتاب النبي صلى الله عليه و سلم معروفون لم يكن فيهم من يقال له السجل
قال والآية مكية ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه و سلم كاتب بمكة
والسجل هو الكتاب المكتوب واللام في قوله للكتاب بمعنى على والمعنى نطوي السماء كطي السجل على ما فيه من الكتاب
كقوله وتله للجبين وقول الشاعر فخر صريعا لليدين وللفم أي على اليدين وعلى الفم والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال عبد الحق لا يحتج بإسناد هذا الحديث فيما أعلم
لأن سعيدا لم يرو عنه فيما أرى إلا ثابت وثابت مثله في الضعف يعني هذا
الحديث من رواية ثابت بن سعيد بن أبيض بن حمال عن أبيه عن جده
قال الحافظ شمس الدين القيم رحمهالله وهو من رواية قابوس بن أبي ظبيان عن ابن عباس وثقة ابن معين مرة وضعفه مرة وضعفه غيره وحدث عنه يحيى بن سعيد
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله وقال عبد الحق في إسناده اختلاف ولا أعلمه من طريق يحتج به
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله بعد ذكر الأقوال الأربعة التي ذكرها المنذري ولا تعارض بين هذين الحديثين بوجه فإن حديث أسامة صريح في أنه أعطاه القميص وقت موته فكفنه فيه وحديث عبد الله بن عمر لم يقل
فيه إنه ألبسه قميصه حين أخرجه من قبره وإنما فيه أنه نفث عليه من ريقه وأجلسه على ركبتيه وألبسه قميصه فأخبر بثلاث جمل متباينة الأوليان منها يتعين أن يكونا بعد الإخراج من القبر والثالثة لا يتعين فيها ذلك ولعل ابن عمر لما رأى عليه القميص في تلك الحال ظن أنه ألبسه إياه حينئذ
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي هذا رد على من زعم أنه لا يعاد من الرمد
وزعموا أن هذا لأن العواد يرون في بيته مالا يراه هو
وهذا باطل من وجوه
أحدها هذا الحديث
الثاني جواز عيادة الأعمى
الثالث عيادة المغمى عليه وقد جلس النبي صلى الله عليه و سلم في بيت جابر في حال إغمائه حتى أفاق وهو صلى الله عليه و سلم الحجة
وهذا القول في كراهة عيادة المريض بالرمد إنما هو مشهور بين العوام فتلقاه بعضهم عن بعض
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله والصواب في ذلك ما دل عليه النص أنه لا ينبغي القدوم على الأرض التي هو بها فان ذلك تعرض للبلاء وقد نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تمني لقاء العدو وإذا وقع في أرض هو فيها فإنه لا ينبغي له أن يفر منه بالخروج منها وإن ظن في ذلك نجاته بل ينبغي له أن يصبر كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في العدو وإذا لقيتموه فاصبروا لاسيما والطاعون قد جاء أنه وخز أعدائنا من الجن فالطاعون كالطعان فلا ينبغي الفرار منهما ولا تمنى لقائهما
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله استعمل أبو سعيد الحديث على ظاهره
وقد روى في تحسين الكفن أحاديث
وقد تأوله بعضهم على أن معنى الثياب العمل كني بها عنه يريد أنه يبعث على ما مات عليه من عمل صالح أو سيىء
قال والعرب تقول فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من
العيب والدنس وتقول دنس الثياب إذا كان بخلاف ذلك واستدل بقوله تعالى
وثيابك فطهر وأكثر المفسرين على أن المعنى وعملك فأصلح ونفسك فزك
قال
الشاعر ثياب بني عوف طهارى نقية قال وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم
قال يحشر الناس حفاة عراة وقالت طائفة البعث غير الحشر فقد يجوز أن يكون
البعث مع الثياب والحشر مع العري والحفا
قال الحافظ شمس الدين بن
القيم رحمه الله وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه و سلم مثله سواء وروى ضمام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة
يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال أكثروا من لا إله إلا الله قبل أن
يحال بينكم وبينها ولقنوها موتاكم ذكره أبو أحمد بن عدي
وضمام هذا صدوق صالح الحديث قاله عبدالحق الأشبيلي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا أحد الأحاديث التي ردتها عائشة واستدركتها ووهمت فيه ابن عمر
والصواب مع ابن عمر فإنه حفظه ولم يتهم فيه
وقد رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم أبوه عمر بن الخطاب وهو في
الصحيحين وقد وافقه من حضره من جماعة الصحابة كما أخرجا في الصحيحين عن ابن
عمر قال لما طعن عمر أغمي عليه فصيح عليه فلما أفاق قال أما علمتم أن رسول
الله صلى الله عليه و سلم قال إن الميت ليعذب ببكاء الحي
وأخرجا أيضا عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قالالميت يعذب بما نيح عليه
وأخرجا في الصحيحين أيضا عن أبي موسى قال لما أصيب عمر جعل صهيب يقول
واأخاه فقال له عمر ياصهيب أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
إن الميت ليعذب ببكاء الحي
وفي لفظ لهما قال عمر والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من يبك عليه يعذب
وفي الصحيحين عن أنس أن عمر لما طعن أعولت عليه حفصة فقال ياحفصة أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول المعوك عليه يعذب
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه
فهؤلاء عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابنته حفصة وصهيب والمغيرة بن شعبة كلهم يروي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم
ومحال أن يكون هؤلاء كلهم وهموا في الحديث
والمعارضة التي ظنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بين روايتهم وبين قوله تعالى لا تزر وازرة وزر أخرى غير لازمة أصلا
ولو كانت لازمة لزم في روايتها أيضا أن الكافر يزيده الله ببكاء أهله
عذابا فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب غيره الذي لا تسبب له فيه
فما تجيب به أم المؤمنين من قصة الكافر يجيب به أبناؤها عن الحديث الذي استدركته عليهم
ثم سلكوا في ذلك طرقا
أحدها أن ذلك خاص بمن أوصى أن يناح عليه فيكون النوح بسبب فعله ويكون هذا
جاريا على المتعارف من عادة الجاهلية كما قال قائلهم إذا مت فانعيني بما
أنا أهله وشقي علي الجيب ياابنة معبد وهو كثير في شعرهم
وأما من لم يتسبب إلى ذلك بوصية ولا غيرها فلا يتناوله الحديث
وهذا ضعيف من وجهين أحدهما أن اللفظ عام
الثاني أن عمر والصحابة فهموا منه حصول ذلك وإن لم يوص به
ومن وجه آخر وهو أن الوصية بذلك حرام يستحق بها التعذيب نيح عليه أم لا
والنبي صلى الله عليه و سلم إنما علق التعذيب بالنياحة لا بالوصية
المسلك الثاني أن ذلك خاص بمن كان النوح من عادته وعادة قومه وأهله وهو يعلم أنهم ينوحون عليه إذا مات
فإذا لم ينههم كان ذلك رضي منه بفعلهم وذلك سبب عذابه وهذا مسلك البخاري
في صحيحه فإنه ترجم عليه وقال إذا كان النوح من سننه وهو قريب من الأول
المسلك الثالث أن الباء ليست باء السببية وإنما هي باء المصاحبة
والمعنى يعذب مع بكاء أهله عليه أي يجتمع بكاء أهله وعذابه كقولك خرج زيد بسلاحه
قال تعالى وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به
وهذا المسلك باطل قطعا فإنه ليس كل ميت يعذب ولأن هذا اللفظ لا يدل إلا على السببية كما فهمه أعظم الناس فهما
ولهذا ردته عائشة لما فهمت منه السببية ولأن اللفظ الآخر الصحيح الذي رواه
بالمغيرة يبطل هذا التأويل ولأن الإخبار بمقارنة عذاب الميت المستحق
للعذاب لبكاء أهله لا فائدة فيه
المسلك الرابع أن المراد بالحديث ما يتألم به الميت ويتعذب به من بكاء الحي عليه
وليس المراد أن الله تعالى يعاقبه ببكاء الحي عليه فإن التعذيب هو من جنس الألم الذي يناله بمن يجاوره مما يتأذى به ونحوه
قال النبي صلى الله عليه و سلم السفر قطعة من العذاب وليس هذا عقابا على
ذنب وإنما هو تعذيب وتألم فإذا وبخ الميت على ما يناح به عليه لحقه من ذلك
تألم وتعذيب
ويدل على ذلك ما روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير
قال أغمي على عبد الله بن رواخة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه واكذا واكذا
تعدد عليه فقال حين أفاق ما قلت شيئا إلا قيل لي أأنت كذلك
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عبد الله بن ثابت فإذا وجب فلا تبكين باكية
وهذا أصح ما قيل في الحديث
ولا ريب أن الميت يسمع بكاء الحي ويسمع قرع نعالهم وتعرض عليه أعمال
أقاربه الأحياء فإذا رأى ما يسؤهم تألم له وهذا ونحوه مما يتعذب به الميت
ويتألم ولا تعارض بين ذلك وبين قوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى بوجه ما
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهؤلاء رأوا أن الغسل لم يأت فيه شيء يعارض حديث جابر في قتلي أحد وأما الصلاة عليه فقد أخرجا في الصحيحين عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت
وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على حمزة
وحديث أبي مالك الغفاري قال كان قتلي أحد يؤتي منهم بتسعة وعاشرهم حمزة
فيصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يحملون ثم يؤتي بتسعة فيصلي
عليهم وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا مرسل
صحيح ذكره البيهقي وقال هو أصح ما في الباب
وروى أبو بكر بن عياش عن
يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه صلى عليهم رواه البيهقي وقال لا
يحفظ إلا من حديثهما وكانا غير حافظين يعني أبا بكر ويزيد بن أبي زياد
وقد روى ابن إسحاق عن رجل من أصحابه عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه و سلم صلى على حمزة فكبر سبع تكبيرات ولم يؤت بقتيل إلا صلى عليه
معه حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة
ولكن هذا الحديث له ثلاث علل
إحداهما أن ابن إسحاق عنعنه ولم يذكر فيه سماعا
الثانية أنا رواه عمن لم يسمه
الثالثة أن هذا قد روى من حديث الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن
عباس والحسن لا يحتج به وقد سئل الحكم أصلى النبي صلى الله عليه و سلم على
قتلي أحد قال لا
سأله شعبة
وقد روى أبو داود عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
وفيه فصلى عليه ودفنه فقالوا يارسول الله أشهيد هو قال نعم وأنا له شهيد وقد تقدم
قالوا وهذه آثار يقوي بعضها بعضا ولم يختلف فيها وقد اختلف في شهداء أحد
فكيف يؤخذ بما اختلف فيه وتترك هذه الآثار والصواب في المسألة أنه مخير
بين الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين وهذا إحدى
الروايات عن الإمام أحمد وهي الأليق بأصوله ومذهبه
والذي يظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن
وقد قتل معه بأحد سبعون نفسا فلا يجوز أن تخفي الصلاة عليهم
وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ فله من الخبرة ما ليس لغيره
وقد ذهب الحسن البصري وسعيد بن المسيب إلى أنهم يغسلون ويصلي عليهم
وهذا ترده السنة المعروفة في ترك تغسيلهم
فأصح الأقوال أنه لا يغسلون ويخير في الصلاة عليهم
وبهذا تتفق جميع الأحاديث وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله وقد حمل الشافعي قولها ليس فيها
قميص ولا عمامة على أن ذلك ليس في الكفن بموجود وأن عدد الكفن ثلاثة أبواب
وحمله مالك على أنه ليس بمعدود من الكفن بل يحتمل أن يكون الثلاثة الأثواب زيادة على القميص والعمامة
وقال ابن القصار لا يستحب القميص ولا العمامة عند مالك في الكفن ونحوه عن
أبي القاسم قال وهذا خلاف ما حكى متقدموا أصحابنا يعني عن مالك
قال
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الإمام أحمد وفي رواية أبي داود
حديث مصعب هذا ضعيف يعني حديث عائشة وقال الترمذي قال البخاري حديث عائشة
في هذا الباب ليس بذاك وقال ابن المنذر ليس في هذا حديث يثبت وقال الإمام
أحمد وحديث أبي هريرة موقوف وسيأتي
وقال الشافعي في رواية البويطي إن صح الحديث قلت بوجوبه
وقال في رواية الربيع وأولى الغسل عندي أن يجب بعد غسل الجنابة الغسل من
غسل الميت ولا أحب تركه بحال ثم ساق الكلام إلى أن قال وإنما منعني من
أيجاب الغسل من غسل الميت أن في إسناده رجلا لم أقع من معرفة تثبت حديثه
إلى يومي هذا على ما يقنعني فإن وجدت
من يقنعني من معرفة تثبت حديثه أوجبته وأوجبت الوضوء من مس الميت مفضيا إليه فإنهما في حديث واحد
وقال في غير هذه الرواية وإنما لم يقو عندي أنه يروي عن سهيل بن أبي صالح
عن أبيه عن أبي هريرة ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة إسحاق
مولى زائدة
وقيل إن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة وليست معرفتي
بإسحاق مولى زائدة مثل معرفتي بأبي صالح ولعله أن يكون ثقة وقد رواه صالح
مولى التوأمة عن أبي هريرة
وقال الإمام أحمد في رواية أبي داود يجزئه
الوضوء قال أبو داود أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة فيه إسحاق مولى
زائدة قال وحديث مصعب ضعيف
هذا آخر كلامه
وهذا الحديث له عدة طرق
أحدها سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة
الثاني سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة
الثالث عن يحيى بن أبي كثير عن إسحاق عن أبي هريرة
الرابع عن يحيى عن أبي إسحاق عن أبي هريرة
الخامس عن يحيى عن رجل من بني ليث عن أبي إسحاق عن أبي هريرة
السادس عن معمر عن أبي إسحاق عن أبيه عن حذيفة
السابع عن أبي صالح عن أبي سعيد
الثامن عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا
قال البيهقي رحمه الله والموقوف أصح
التاسع زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا
العاشر عمرو بن عمير عن أبي هريرة مرفوعا
الحادي عشر صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا ذكرها البيهقي
وقال إنما يصح هذا الحديث عن أبي هريرة موقوفا
وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ
وقد روى أبو داود عن علي بن أبي طالب أنه اغتسل من تجهيزه أباه ومواراته
قال البيهقي وروينا ترك إيجاب الغسل منه عن ابن عباس في أصح الروايتين عنه
وعن ابن عمر وعائشة ورويناه أيضا عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود
وأنس بن مالك
هذا آخر كلامه
وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب
أحدها أن الغسل لا يجب على غاسل الميت وهذا قول الأكثرين
الثاني أنه يجب
وهذا اختيار الجوزجاني ويروى عن ابن المسيب وابن سيرين والزهري وهو قول أبي هريرة ويروى عن علي
الثالث وجوبه من غسل الميت الكافر دون المسلم
وهو رواية عن الإمام أحمد لحديث علي أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره
بالغسل وليس فيه أنه غسل أبا طالب مع أنه من رواية ناجية بن كعب عنه وناجية
لا يعرف أحد روى عنه غير أبي إسحاق قاله ابن المديني وغيره
قال
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وابن حبان يصحح لعاصم ومن طريقه صحح
حديث سبق رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الخيل وجعل بينهما محللا وذكره
في الضعفاء
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذه النار كانت للاضاءة ولهذا ترجم عليه أبو داود الدفن بالليل
قال الإمام أحمد
لا بأس بذلك وقال أبو بكر دفن ليلا وعلى دفن فاطمة ليلا
وحديث عائشة سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه و سلم
وممن دفن ليلا عثمان وعائشة وابن مسعود
ورخص فيه عقبة بن عامر وابن المسيب وعطاء والثوري والشافعي وإسحاق
وكرهه الحسن وأحمد في إحدى الروايتين
وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب يوما فذكر رجلا
من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا فزجر النبي صلى الله عليه و
سلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك
والآثار في جواز الدفن بالليل أكثر
وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى
الله عليه و سلم دخل قبرا ليلا فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال
رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن وكبر عليه أربعا قال وفي الباب عن
جابر وزيد بن ثابت وهو أخو زيدا أكبر منه قال وحديث ابن عباس حديث حسن
قال ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل وقد نزل النبي صلى الله عليه و سلم في قبر ذي البجادين ليلا
وفي صحيح البخاري أن النبي سأل عن قبر رجل فقال من هذا قالوا فلان دفن البارحة فصلى عليه
وهذه الآثار أكثر وأشهر من حديث مسلم
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلا فلما أصبح أخبروه
فقال ما منعكم أن تعلموني فقالوا كان الليل وكرهنا وكانت ظلمة أن نشق عليك فأتى قبره فصلى عليه
قيل وحديث النهي محمول على الكراهة والتأديب
والذي ينبغي أن يقال في ذلك والله أعلم أنه متى كان الدفن ليلا لا يفوت به
شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به وعليه تدل أحاديث الجواز وإن
كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهى عن ذلك وعليه يدل
الزجر وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وحديث أبي معاوية رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان مع الجنازة لم يجلس حتى توضع في اللحد أو تدفن شك أبو معاوية
ويدل على أن المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق حديث البراء بن عازب خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد بعد فجلس النبي صلى الله عليه و سلم وجلسنا معه وهو حديث صحيح وسيأتي إن شاء الله تعالى
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذا هو الذي نحاه الشافعي
قال وقد روى حديث عامر بن ربيعة وهذا لا يعدو أن يكون منسوخا أو يكون
النبي صلى الله عليه و سلم قام لها لعلة قد رواها بعض المحدثين من أن جنازة
يهودي مر بها على النبي صلى الله عليه و سلم فقام لها كراهية أن تطوله
وأيهما كان فقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم تركه بعد فعله والحجة في
الآخر من أمره إن كان الأول واجبا فالآخر من أمره ناسخ وإن كان استحبابا
فالآخر هو الاستحباب وإن كان مباحا فلا بأس في القيام والقعود أحب إلي لأنه
الآخر من فعله
قال الشيخ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد اختلف أهل العلم في القيام الجنازة وعلى القبر على أربعة أقوال
أحدها أن ذلك كله منسوخ قيام تابعها وقيام من مرت عليه وقيام المسيح على القبر
قال هؤلاء وما جاء من القعود نسخ هذا كله وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه
أحدها أن شرط النسخ المعارضة والتأخر وكلاهما منتف في القيام على القبر
بعد الدفن وفي استمرار قيام المشيعين حتى توضع وإنما يمكن دعوى النسخ في
قيام القاعد الذي تمر به الجنازة على ما فيه
الثاني أن أحاديث القيام كثيرة صحيحة صريحة في معناها
فمنها حديث عامر بن ربيعة وهو في الصحيحين وفي بعض طرقه إذا رأى أحدكم
الجنازة فإن لم يكن ماشيا معها فليقم حتى تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه
وفي لفظ إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه
ومنها حديث
أبي سعيد وهو متفق عليه ولفظهما إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع وفي
لفظ لهما إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع وهو دليل
على القيام في المسألتين
ومنها حديث جابر في قيامه لجنازة يهودي وهو
في الصحيحين وتعليله بأن ذلك كراهية أن تطوله تعليل باطل فإن النبي صلى
الله عليه و سلم علل بخلافه
وعنه في ذلك ثلاث علل
إحداها قوله إن الموت فزع ذكره مسلم في حديث جابر وقال إن الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا
الثانية أنه قام للملائكة كما روى النسائي عن أنس أن جنازة مرت برسول الله
صلى الله عليه و سلم فقام فقيل إنها جنازة يهودي فقال إنما قمنا للملائكة
الثالثة التعليل بكونها نفسا وهذا في الصحيحين من حديث قيس بن سعد وسهل بن
حنيف قالا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم مرت به جنازة فقام فقيل إنه
يهودي فقال أليست نفسا فهذه هي العلل الثابتة عنه
وأما التعليل بأنه كراهية أن تطوله فلم يأت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة
ولو قدر ثبوتها فهي ظن من الراوي وتعليل النبي صلى الله عليه و سلم الذي ذكره بلفظه أولى
فهذه الأحاديث مع كثرتها وصحتها كيف يقدم عليها حديث عبادة مع ضعفه وحديث علي وإن
كان في صحيح مسلم فهو حكاية فعل لا عموم له وليس فيه لفظ عام يحتج به على النسخ وإنما فيه أنه قام وقعد وهذا يدل على أحد أمرين
إما أن يكون كل منهما جائزا والأمر بالقيام ليس على الوجوب وهذا أولى من النسخ
قال الإمام أحمد إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس
وقال القاضي وابن أبي موسى القيام مستحب ولم يرياه منسوخا
وقال بالتخيير إسحاق وعبد الملك بن حبيب وابن الماجشون
وبه تأتلف الأدلة
أو يدل على نسخ قيام القاعد الذي يمر عليه بالجنازة دون استمرار قيام
مشيعها كما هو المعروف من مذهب أحمد عند أصحابه وهو مذهب مالك وأبي حنيفة
الثالث أن أحاديث القيام لفظ صريح وأحاديث الترك إنما هو فعل محتمل لما ذكرنا من الأمرين فدعوى النسخ غير بينة والله أعلم
وقد عمل الصحابة بالأمرين بعد النبي صلى الله عليه و سلم فقعد علي وأبو
هريرة ومروان وقام أبو سعيد ولكن هذا في قيام التابع والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ومثل هذا يعني قول المنذري سفيان بن عيينة من الأثبات الحفاظ وقد أتى بزيادة على من أرسل
فوجب تقديمه لا يعبأ به أئمة الحديث شيئا ولم يخف عليهم أن سفيان حجة ثقة وأنه قد وصله فلم يستدرك عليهم المتأخرون شيئا لم يعرفوه
وقال آخرون قد تابع ابن عيينة على روايته إياه عن الزهري عن سالم عن أبيه يحيى بن
سعيد وموسى بن عقبة وزياد بن سعد وبكر ومنصور وابن جريج وغيرهم ورواه عن
الزهري مرسلا مالك ويونس ومعمر وليس هؤلاء الذين وصلوه بدون الذين أرسلوه
فهذا كلام على طريقة أئمة الحديث وفيه استدراك وفائدة تستفاد
قال المصححون لارساله الحديث هو لسفيان وابن جريج أخذه عن سفيان
قال الترمذي قال ابن المبارك وأرى ابن جريج أخذه عن سفيان
قالوا وأما رواية منصور وزياد بن سعد وبكر فإنها من رواية همام
وقد قال الترمذي في الجامع
وروى همام بن يحيى هذا الحديث عن زياد بن سعد ومنصور وبكر وسفيان عن
الزهري عن سالم عن أبيه وإنما هو سفيان بن عيينة روى عنه همام يعني أن
الحديث لسفيان وحده وروى عنه همام كذلك وفي هذا نظر لا يخفى
فإن هماما
قد رواه عن هؤلاء عن الزهري ويبعد أن يكونوا كلهم دلسوه عن سفيان ولم
يسمعوه من الزهري وهذا يحيى بن سعيد مع تثبته وإتقانه يرويه كذلك عن الزهري
وكذلك موسى بن عقبة فلأي شيء يحكم للمرسلين على الواصلين وقد كان ابن عيينة مصرا على وصله ونوظر فيه فقال الزهري حدثنيه مرارا
فسمعته من فيه يعيده ويبديه عن سالم عن أبيه
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث يونس عن ابن شهاب عن أنس أن النبي صلى
الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة قال
الترمذي هذا غير محفوظ
وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال
هذا حديث خطأ أخطأ فيه محمد بن بكر وإنما يروي هذا الحديث عن يونس عن
الزهري أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام
الجنازة قال الزهري وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة قال محمد
والحديث الصحيح هو هذا هذا آخر كلام البخاري
وسيأتي بعد هذا حديث ابن
مسعود الجنازة متبوعة ليس معها من يقدمها وأنه ضعيف وذكر ابن عبد البر من
حديث أبي هريرة يرفعه امشوا خلف الجنازة وفيه كنانة مولى صفية لا يحتج به
وذكر أبو أحمد بن عدي عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يمشي
خلف الجنازة وهو من حديث يحيى بن سعيد الحمصي العطار منكر الحديث
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث فيه أربعة ألفاظ
أحدهما فلا شيء فقط
وهي في بعض نسخ السنن
اللفظ الثاني فلا شيء عليه وهي رواية الخطيب
اللفظ الثالث فلا شيء له وهي رواية ابن ماجه
اللفظ الرابع فليس له أجر ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد
وقال هو خطأ لا إشكال فيه
قال والصحيح فلا شيء عليه
وهذا الذي قاله أبو عمر في حديث أبي هريرة هو الصواب لأن فيه قال صالح
فرأيت الجنازة توضع في المسجد فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعا إلا في
المسجد خرج وانصرف ولم يصل عليها ذكره البيهقي في حديث صالح
وقد قال بعض أهل الحديث ما رواه ابن أبي ذئب عن صالح فهو لا بأس به لأنه روى عنه قبل الاختلاط
وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه
وقال ابن عدي وممن سمع من صالح قديما ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم ولحقه مالك والثوري وغيرهم بعد الأختلاط
9
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى البخاري عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه و سلم قام على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه قال الترمذي
وفي الباب عن أنس وبريدة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعامر بن ربيعة وأبي
قتادة وسهل ابن حنيف
قال الترمذي وحديث ابن عباس حديث حسن صحيح
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
وغيرهم وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم لا يصلى على القبر
وهو قول مالك بن أنس وقال عبد الله بن المبارك إذا دفن الميت ولم يصل عليه
صلي على القبر
وقال الإمام أحمد ومن يشك في الصلاة على القبر يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم من ستة وجوه حسان
وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على قبر
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه و
سلم يعوده نذكر الحديث وفيه فأتى قبره فصلى عليه ولكن هذه الأحاديث إنما
تدل على قول ابن المبارك فإنها وقائع أعيان والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه الحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأخرجه الإمام أحمد والحاكم في صحيحه
وقد أعله أبو حاتم بن حبان بأن قال زاذان لم يسمعه من البراء قال ولذلك لم أخرجه
وهذه العلة فاسدة فإن زاذان قال سمعت البراء بن عازب يقول فذكره ذكره أبو عوانة الإسفرائيني في صحيحه
وأعله ابن حزم أيضا بضعف المنهال بن عمرو
وهي علة فاسدة فإن المنهال ثقة صدوق وقد صححه أبو نعيم وغيره
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذه الآثار لا تضاد بينها
والأمر بتسوية القبور إنما هو تسويتها بالأرض وأن لا ترفع مشرفة عالية وهذا
لا يناقض تسنيمها شيئا يسيرا عن الأرض
ولو قدر تعارضها فحديث سفيان بن دينار التمار أصح من حديث القاسم
وقال البيهقي وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح وأولى أن يكون محفوظا
وليس الأمر كذلك
فحديث سفيان رواه البخاري في صحيحه وحديث القاسم لم يروه أحد من أصحاب الصحيح
قال الشيخ أبو محمد المقدسي حديث سفيان التمار أثبت وأصح فكان العمل به أولى
قال البيهقي في حديث سفيان وصحة رواية سفيان له مسنما فكأنه غير يعني القبر عما كان عليه في القديم
فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبد الملك ثم أصلح
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمة الله وتبويب أبي داود وذكره هذا الحديث
يدل على أن ذلك لا يتقيد عنده بوقت لا شهر ولا غيره وقد روى سعيد بن المسيب
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى على أم سعد بعد موتها بشهر وهذا
مرسل صحيح
وصلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين وصلى على غير واحد في القبر لدون الشهر
ولم يأت في التحديد نص
وصلاته على أم سعد بعد شهر لا ينفى الصلاة بعد أزيد منه وكون الميت في الغالب لا يبقى أكثر من شهر لا معنى له
فإن هذا يختلف باختلاف الأرض والعظام تبقى مدة طويلة ولا تأثير لتمزق اللحوم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفي صحيح أبي حاتم بن حبان من
حديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذون القبور مساجد
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه و سلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم
خليل
فإن الله عزوجل قد اتخذني خليلا
كما اتخذ ابراهيم خليلا
ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا
وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك
وفي الصحيحين عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة
فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا
فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
وزاد البخاري إن هذه الكنيسة ذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي مات فيه
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد قالت ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي
الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل 1 برسول الله صلى الله عليه و
سلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك
لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما
صنعوا
وفي صحيح أبي حاتم بن حبان عن أبي صالح عن ابن عباس قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم زائرات
القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج قال أبو حاتم أبو صالح هذا اسمه
مهران ثقة وليس بصاحب الكلبي ذاك اسمه باذام وقال عبد الحق الإشبيلي هو
بإذام صاحب الكلبي وهو عندهم ضعيف جدا
وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد اختلف الناس في هذين الحديثين فضعفت طائفة حديث بشير
قال البيهقي رواه جماعة عن الأسود بن شيبان ولا يعرف إلا بهذا الإسناد وقد
ثبت عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم فذكر هذا الحديث
وبالجملة وقال أحمد بن حنبل رحمة الله حديث بشير إسناده جيد أذهب إليه إلا من علة
قال المجوزون
يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم رأى بنعليه قذرا فأمره أن
يخلعهما ويحتمل أن يكون كره له المشي فيهما لما فيه من الخيلاء فإن النعال
السبتية من زي أهل التنعم والرفاهية كما قال عنترة يظل كأن ثيابه في سرجه
يحذي نعال السبت ليس بتوأم وهذا ليس بشيء ولا ذكر في الحديث شيء من ذلك
ومن تدبر نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الجلوس على القبر والاتكاء
عليه والوطء عليه علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال
فوق رؤوسهم ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور وأخبر النبي صلى الله عليه و
سلم أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر ومعلوم
أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال
وبالجملة فاحترام الميت في قبرة بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيافإن القبر قد صار داره
وقد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم كسر عظم الميت ككسره حيا فدل على أن
احترامه في قبره كاحترامه في داره والقبور هي ديار الموتى ومنازلهم ومحل
تزاورهم وعليها تنزل الرحمة من ربهم والفضل على محسنهم فهي منازل المرحومين
ومهبط الرحمة ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون كما
تضافرت به الآثار
ومن تأمل كتاب القبور لإبن أبي الدنيا رأي فيه آثارا كثيرة في ذلك
فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال
وإحترامها بل هذا من تمام محاسنها وشاهده ما ذكرناه من وطئها والجلوس
عليها والاتكاء عليها
وأما تضعيف حديث بشير فمما لم نعلم أحدا طعن فيه بل قد قال الإمام أحمد إسناده جيد
وقال عبد الرحمن بن مهدي كان عبد الله بن عثمان يقول فيه حديث جيد ورجل ثقة
وأما معارضته بقوله صلى الله عليه و سلم إنه ليسمع قرع نعالهم فمعارضة
فاسدة فإن هذا إخبار من النبي صلى الله عليه و سلم بالواقع وهو سماع الميت
قرع نعال الحي وهذا لا يدل على الإذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال
إذ الإخبار عن وقوع الشيء لايدل على جوازه ولا تحريمه ولا حكمه
فكيف
يعارض النهي الصريح به قال الخطابي ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
نهى أن توطأ القبور وقد روى ابن ماجه في سننه عن أبي الخير عن عقبة بن عامر
قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف
نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبر كذا قال
فضلت حاجتي
أو وسط الطريق وعلى هذا فلا فرق بين النعل والجمجم والمداس والزربول
وقال القاضي أبو يعلى ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها إلى غيرها
قال لأن الحكم تعبدي غير معلل فلا يتعدى مورد النص
وفيما تقدم كفاية في رد هذا وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد تقدم أن أبا حاتم خالفه في ذلك
وقال أبو صالح هذا هو مهران ثقة
وليس بصاحب الكلبى ذاك اسمه باذام
وقد أخرج الترمذي من حديث عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة إن رسول
الله صلى الله عليه و سلم لعن زوارت القبور وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه
ابن حبان في صحيحه وفي الباب عن عائشة وحسان وحديث حسان بن ثابت قد أخرجه
الإمام أحمد في مسنده
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث ربيعة بن سيف
المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال قبرنا مع رسول
الله صلى الله عليه و سلم يوما فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه و
سلم وانصرفنا معه فلما حاذينا به وتوسط الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة فلما
دنت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم
ما أخرجك يافاطمة من بيتك قالت
يارسول الله رحمت على أهل هذا الميت ميتهم
فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فلعلك بلغت معهم الكدي قالت
معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر
قال لو بلغت معهم الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك فسألت ربيعة عن الكدي فقال القبور
قال أبو حاتم
يريد الجنة العالية التي يدخلها من لم يرتكب نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم
لأن فاطمة علمت النهي فيه قبل ذلك والجنة هي جنان كثيرة لا جنة واحدة والمشرك لا يدخل الجنة أصلا لا عالية ولا سافلة ولا ما بينهما
وقد طعن غيره في هذا الحديث وقالوا
هو غير صحيح لأن ربيعة بن سيف ضعيف الحديث عنده مناكير
وقد اختلف في زيارة النساء للمقابر على ثلاثة أقوال
أحدها التحريم لهذه الأحاديث
والثاني يكره من غير تحريم
وهذا منصوص أحمد في إحدى الروايات عنه
وحجة هذا القول
حديث أم عطية المتفق عليه نهينا عن اتباع الجنائز
ولم يعزم علينا وهذا يدل على أن النهي عنه للكراهة لا للتحريم
والثالث أنه مباح لهن غير مكروه وهو الرواية الأخرى عن أحمد
واحتج لهذا القول بوجوه
أحدها ما روى مسلم في صحيحه من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وفيه أيضا عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال زوروا القبور فإنها تذكر الموت قالوا وهذا
الخطاب يتناول النساء بعمومه بل هن المراد به فإنه إنما علم نهيه عن
زيارتها للنساء دون الرجال وهذا صريح في النسخ لأنه قد صرح فيه بتقدم النهي
ولا ريب في أن المنهي عن زيارة القبور هو المأذون له فيها والنساء قد نهين
عنها فيتناولهن الأذن قالوا وأيضا فقد قال عبد الله بن أبي ملكية لعائشة
ياأم المؤمنين من أين أقبلت قالت من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها أليس قد
نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن زيارة القبور قالت نعم ثم أمر
بزيارتها رواه البيهقي من حديث يزيد بن زريع عن بسطام بن مسلم عن أبي
التياح عن ابن أبي مليكة قال توفى عبد الرحمن بن أبي بكر يحيى
فحمل
إلى مكة فدفن فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن فقالت وكنا كندماني جذيمة
حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم
نبت ليلة معا ثم قالت والله لو حضرتك ما دفنت
إلا حيث مت ولو شهدتك ما زرتك
قالوا وأيضا فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال مر النبي صلى الله عليه و
سلم بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها فقال لها اتقي الله واصبري فقالت وما
تبالي بمصيبتي
فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فإخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين فقالت يا رسول الله لم
أعرفك فقال إنما الصبر عند الصدمة الأولى وترجم عليه البخاري باب زيارة
القبور قالوا ولأن تعليل زيارتها بتذكير الآخرة أمر يشترك فيه الرجال
والنساء
وليس الرجال إليه منهن
قال الأولون أحاديث التحريم صريحة في معناها
فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن النساء على الزيارة واللعن على
الفعل من أدل الدلائل على تحريمه ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين
عليها المساجد والسرج وهذا غير منسوخ بل لعن في مرض موته من فعله كما تقدم
قالوا وقوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم إنما هو صيغة خطاب للذكور والإناث وإن دخلن فيه تغليبا
فهذا حيث لا يكون دليل صريح يقتضي عدم دخولهن وأحاديث التحريم من أظهر القرائن على عدم دخولهن في خطاب الذكور
قالوا وأما قولكم إن النهي إنما كان للنساء خاصة فغير صحيح لأن قوله كنت
نهيتكم خطاب للذكور أصلا ووضعا فلا بد وأن يتناولهم وحدهم ولو كان النهي
إنما كان للنساء خاصة لقالكنت نهيتكن ولم يقل نهيتكم بل كان في أول الإسلام
قد نهى عن زيارة القبور صيانة لجانب التوحيد وقطعا للتعلق بالأموات وسدا
لذريعة الشرك التي أصلها تعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن عباس فلما تمكن
التوحيد من قلوبهم واضمحل الشرك واستقر الدين أذن في زيارة يحصل بها مزيد
الإيمان وتذكير ما خلق العبد له من دار البقاء فأذن حينئذ فيها فكان نهيه
عنها للمصلحة وإذنه فيها للمصلحة
وأما النساء
فإن هذه المصلحة
وإن كانت مطلوبة منهن لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص
والعام من فتنة الأحياء وإيذاء الأموات والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا
بمنعهن منها أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل يسيرة تحصل لهن بالزيارة
والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته ورجحان
هذه المفسدة لا خفاء به فمنعهن من الزيارة من محاسن الشريعة
وقد روى
البيهقي وغيره من حديث محمد بن الحنفية عن علي أن النبي صلى الله عليه و
سلم خرج في جنازة فرأى نسوة جلوسا فقال ما يجلسكن فقلن الجنازة فقال أتحملن
فيمن يحمل قلن لاقال فتدلين فيمن يدلي قلن لا قال فتغسلن فيمن يغسل قلن لا
قال فارجعن مأزورات غير مأجورات وفي رواية فتحثين فيمن يحثو ولم يذكر
الغسل
فهذا يدل على أن اتباعهن الجنازة وزر لا أجر لهن فيه إذ لا مصلحة لهن ولا للميت في اتباعهن لها بل فيه مفسدة للحي والميت
قالوا وأما حديث عائشة فالمحفوظ فيه حديث الترمذي مع ما فيه وعائشة إنما
قدمت مكة للحج فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه وهذا لا بأس به
إنما الكلام في قصدهن الخروج لزيارة القبور
ولو قدر أنها عدلت إليه
وقصدت زيارته فهي قد قالت لو شهدتك لما زرتك وهذا يدل على أنه من المستقر
المعلوم عندها أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور وإلا لم يكن في قولها
ذلك معنى
وأما رواية البيهقي وقولها نهى عنها ثم أمر بزيارتها فهي
من رواية بسطام بن مسلم ولو صح فهي تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء
والحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي وتأويله إنما يكون مقبولا حيث لا
يعارضه ما هو أقوى منه وهذا قد عارضه أحاديث المنع
قالوا وأما حديث
أنس فهو حجة لنا فإنه لم يقرها بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به
وترك ما نهى عنه ومن جملتها النهي عن الزيارة وقال لها اصبري ومعلوم أن
مجيئها إلى القبر وبكاءها مناف للصبر فلما أبت أن تقبل منه ولم تعرفه انصرف
عنها فلما علمت أنه صلى الله عليه و سلم هو الآمر لها جاءته تعتذر إليه من
مخالفة أمره
فأي دليل في هذا على جواز زيارة النساء
وبعد فلا
يعلم أن هذه القضية كانت بعد لعنه صلى الله عليه و سلم زائرات القبور ونحن
نقول إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع أو
تكون دالة على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها على الجواز فعلى
التقديرين لا تعارض أحاديث المنع ولا يمكن دعوى نسخها بها والله أعلم
وأما قول أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز فهو حجة للمنع
وقولها ولم يعزم علينا إنما نفت فيه وصف النهي وهو النهي المؤكد بالعزيمة
وليس ذلك شرطا في اقتضاء التحريم بل مجرد النهي كاف ولما نهاهن انتهين
لطواعيتهن لله ولرسوله فاستغنين عن العزيمة عليهن وأم عطية لم تشهد العزيمة
في ذلك النهي
وقد دلت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة فهي مثبتة للعزيمة فيجب تقديمها وبالله التوفيق
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله ولفظ النسائي فله ثنياه وفي لفظ
له فهو بالخيار إن شاء مضى وإن شاء ترك ولفظ الترمذي فلا حنث عليه ولفظ ابن
ماجه إن شاء رجع وإن شاء ترك غير حانث
قال الترمذي وقد رواه عبيد الله بن عمر وغيره عن نافع عن ابن عمر موقوفا
وهكذا روى مسلم عن ابن عمر موقوفا ولا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني
وقال إسماعيل بن إبراهيم كان أيوب أحيانا يرفعه وأحيانا كان لا يرفعه
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث رواه
الترمذي
وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به إلا أن الحديث معلول
قال الترمذي سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث خطأ أخطأ فيه
عبد الرزاق اختصره من حديث معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن سليمان بن داود قال لأطوفن الليلة على تسعين امرأة الحديث وفيه لو قال إن شاء الله كان كما قال
قال الحافظ شمس
الدين بن القيم رحمه الله يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة كذلك رواه محمد بن
أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري وسليمان بن أرقم متروك والحديث عند غيره
عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن حصين
عن النبي صلى الله عليه و سلم كذلك رواه علي بن المبارك عن يحيى بن أبي
كثير وبمعناه رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير إلا في حديث الأوزاعي لا
نذر في غضب وكفارته كفارة يمين وكذلك رواه حماد ابن ويد عن محمد بن الزبير
ورواه بن أبي عروبة عن محمد بن الزبير وقال لا نذر في معصية الله
ورواه عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن الزبير عن أبيه أن رجلا حدثه أنه سأل
عمران بن حصين عن رجل حلف أنه لا يصلي في مسجد قومه فقال عمران سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول لانذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين وفي
هذا دلالة على أن أباه لم يسمعه من عمران
ورواه محمد بن إسحاق عن محمد بن الزبير عن رجل صحبه عن عمران
ورواه الثورى عن محمد بن الزبير عن الحسن عن عمران إلا أنه قال لا نذر في
معصية أو في غضب قال فهذا حديث مختلف في إسناده ومتنه كما ذكرنا
ولا تقوم الحجة بأمثال ذلك
وقد روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال محمد بن الزبير الحنظلي منكر الحديث
وفيه نظر
قال البيهقي وإنما الحديث فيه عن الحسن عن هياج بن عمران البرجمي أن غلاما
لابنه أبق فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده فلما قدر عليه بعثني إلى
عمران بن حصين فسألته فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يحث في
خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة
فقل لابنك فليكفر عن يمينه وليتجاوز عن غلامه
قال وبعثنى إلى سمرة فقال مثل ذلك وهذا أصح ما روى فيه عن عمران
واختلف في اسم الذي رواه عن الحسن فقيل هكذا
وقيل حبان بن عمران البرجمي
والأمر بالتكفير فيه موقوف على عمران وسمرة
والذي روي عن ابن عباس مرفوعا من نذر نذرا في معصية الله فكفارته كفارة
يمين ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين لم يثبت رفعه والله أعلم
قال الموجبون للكفارة في نذر المعصية وهم أحمد وإسحاق والثورى وأبو حنيفة وأصحابه هذه الآثار قد تعددت طرقها
ورواتها ثقات
وحديث عائشة احتج به الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وإن كان الزهري لم
يسمعه من أبي سلمة فإن له شواهد تقويه رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم
سوى عائشة جابر وعمران بن حصين وعبد الله بن عمر قاله الترمذي وفيه حديث
ابن عباس رفعه من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين رواه أبو داود
ورواه ابن الجارود في مسنده ولفظه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و
سلم النذر نذران فما كان لله فكفارته الوفاء به وما كان للشيطان فلا وفاء
فيه وعليه كفارة يمين وروى أبو إسحاق الجوزجاني حديث عمران بن حصين في
كتابه المترجم وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول النذر نذران
فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية
الله فلا وفاء فيه ويكفره ما يكفر اليمين وروى الطحاوي بإسناد صحيح عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن
يعصي الله فلا يعصه ويكفر عن يمينه وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة
قال الاشبيلي وهذا أصح إسنادا وأحسن من حديث أبي داود يعني حديث الزهري عن أبي سلمة المتقدم
وفي مصنف عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وعن أبي
سلمة كلاهما عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا لا نذر في غضب ولا في
معصية الله وكفارته كفارة يمين قالوا وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة
بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال كفارة النذر كفارة اليمين
وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين
أحدهما أنه عام لم يخص منه نذر دون نذر
الثاني أنه شبهه باليمين ومعلوم أنه لو حلف على المعصية وحنث لزمه كفارة
يمين بل وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية لما سنذكره
قالوا ووجوب الكفارة قول عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وسمرة بن جندب ولا يحفظ عن صحابي خلافهم
قالوا وهب أن هذه الآثار لم تثبت فالقياس يقتضي وجوب الكفارة فيه لأن
النذر يمين ولو حلف ليشربن الخمر أو ليقتلن فلانا وجبت عليه كفارة اليمين
وإن كانت يمين معصية فهكذا إذا نذر المعصية
وقد ثبت عن النبي صلى الله
عليه و سلم تسمية النذر يمينا لما قال لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت
الله فعجزت تكفر يمينها وهو حديث صحيح وسيأتي
وعن عقبة مرفوعا وموقوفا النذر حلفة
وقال ابن عباس في امرأة نذرت ذبح ابنها كفري يمينك
فدل على أن النذر داخل في مسمى اليمين في لغة من نزل القرآن بلغتهم
وذلك أن حقيقته هي حقيقة اليمين فإنه عقده لله ملتزما له كما أن الحالف
عقد يمينه بالله ملتزما حلف عليه بل ما عقد لله أبلغ وألزم مما عقد به فإن
ما عقد به من الأيمان لا يصير باليمين واجبا فإذا حلف على قربة مستحبة
ليفعلنها لم تصر واجبة عليه وتجزئه الكفارة ولو نذرها وجبت عليه ولم تجزئه
الكفارة
فدل على أن الالتزام بالندر آكد من الالتزام باليمين فكيف
يقال إذا التزم معصية بيمينه وجبت عليه الكفارة وإذا التزمها بنذره الذي هو
أقوى من اليمين فلا كفارة فيها فلو لم يكن في المسألة إلا هذا وحده لكان
كافيا
ومما يدل على أن النذر آكد من اليمين
أن الناذر إذا قال
لله علي أن أفعل كذا فقد عقد نذره بجزمه أيمانه بالله والتزامه تعظيمه كما
عقدها الحالف بالله كذلك فهما من هذه الوجوه سواء والمعنى الذي يقصده
الحالف ويقوم بقلبه هو بعينه مقصود للناذر قائم بقلبه ويزيد النذر عليه أنه
التزمه لله فهو ملتزم من وجهين له وبه
والحالف إنما التزم ما حلف
عليه خاصة فالمعنى الذي في اليمين داخل في حقيقة النذر فقد تضمن النذر
اليمين وزيادة فإذا وجبت الكفارة في يمين المعصية فهي أولى بأن تجب في
نذرها
ولأجل هذه القوة والتأكيد قال بعض الموجبين للكفارة فيه إنه إذا
نذر المعصية لم يبرأ بفعلها بل تجب عليه الكفارة عينا ولو فعلها لقوة
النذر بخلاف ما إذا حلف عليها فإنه إنما تلزمه الكفارة إذا حنث لأن اليمين
أخف من النذر
وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد وتوجيهه ظاهر جدا فإن
النبي صلى الله عليه و سلم نهاه عن الوفاء بالمعصية وعين عليه الكفارة عينا
فلا يخرج من عهدة الأمر إلا بأدائها
وبالله التوفيق
قال
الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله المحفوظ في هذا الحديث ماأخرجه أصحاب
الصحيح من قوله أمسك عليك بعض مالك وأما ذكر الثلث فيه فإنما أتى به ابن
إسحاق ولكن هو في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال
يارسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأنخلع من مالي صدقة لله
عزوجل ولرسوله
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجزىء عنك الثلث
ولعل بعض الرواة وهم في نقله هذا إلى حديث كعب بن مالك في قصة توبته ولكن
ليس في هذا أنه نذر الصدقة بماله ولا تعلق في قوله ويجزئك الثلث على أنه
كان نذرا فإن يجزىء رباعي بمعنى يكفي والمعنى يكفيك مما عزمت عليه وأردته
الثلث
وليس في هذا ما يدل على أن الناذر للصدقة بماله يجزئه ثلثه
والقياس أنه إن كان حالفا بالصدقة أجزأه كفارة يمين وإن كان ناذرا متقربا
تصدق به وأبقى ما يكفيه ويكفي عياله على الوجه الذي قلنا به في الحج
وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأنها هي الواجب شرعا فينصرف النذر إليها
وقال الشافعي إن حلف به فكفارة يمين وإن نذره قربة تصدق به كله
وقال مالك يخرج ثلثه في الوجهين
وقال أبو حنيفة إن كان ماله زكويا تصدق به كله
وعنه في غير الزكوي روايتان إحداهما يخرجه كله
والثانية لا تجب الصدقة بشيء منه
وأصح هذه الأقوال ما دل عليه حديث كعب المتفق عليه أنه يتصدق به ويمسك عليه بعضه وهو ما يكفيه ويكفي عياله
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله الصواب في هذا أنه قول عائشة كذلك رواه الناس
وهو في صحيح البخاري عن عائشة قولها ورواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة مرفوعا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الإمام أحمد وغيره من
الأئمة سعيد بن المسيب عن عمر عندنا حجة قال أحمد إذا لم نقبل سعيدا عن عمر
فمن نقبل قد رآه وسمع منه ذكره ابن أبي حاتم فليس روايته عنه منقطعة على
ما ذكره أحمد
ولو كانت منقطعة فهذا الانقطاع غير مؤثر عند الأئمة فإن
سعيدا أعلم الخلق بأقضية عمر وكان ابنه عبد الله بن عمر يسأل سعيدا عنها
وسعيد بن المسيب إذا أرسل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل مرسله فكيف
إذا روى عن عمر
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأخرج ابن ماجه منهمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها وترجم عليه من قال تركها كفارتها
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال البيهقي أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة تم كلامه
وقد روي هذا من حديث ابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة
أما حديث ابن عباس فرواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه و سلم
ذكره البيهقي والبزار وغيرهما وقال البزار ليس في هذا الباب حديث أجل إسنادا من هذا
وأما حديث ابن عمر فرواه علي بن عبد العزيز من حديث محمد بن دينار الطاحي
عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال الترمذي سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال إنما يرويه عن
زياد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا
وأما حديث جابر بن سمرة فرواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه
وقال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال البيهقي واحتج أصحابنا بحديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و
سلم أمره أن يجهز جيشا وأمره أن يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق فابتاع عبد
الله بن عمرو البعير بالبعيرين إلى خروج المصدق بأمر رسول الله صلى الله
عليه و سلم
وهذا غير حديث محمد بن إسحاق فإنه يرويه عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريث عن عبد الله بن عمرو
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس أن
النبي صلى الله عليه و سلم اشترى صفية من دحية الكلبي بسبعة أرؤس وقال
الشافعي أخبرنا سفيان عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس أنه سئل عن بعير
ببعيرين قد يكون البعير خيرا من البعيرين
وقال الشافعي أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد بن علي عن علي أنه باع بعيرا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل
وقال الشافعي أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه باع بعيرا له بأربعة أبعرة مضمومة عليه بالربذة
روى الترمذي من حديث حجاج بن أرطاة عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا
بيد قال الترمذي هذا حديث حسن
وفي مسند أحمد عن ابن عمر أن رجلا قال يارسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والبختية بالإبل قال لا بأس إذا كان يدا بيد
قال الإمام أحمد والبخاري حديث ابن عمر هذا المعروف مرسل
فاختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال وهي أربع روايات عن أحمد
إحداها أن ما سوى المكيل والموزون من الحيوان والنبات ونحوه يجوز بيع بعضه ببعض
متفاضلا ومتساويا وحالا ونساء وأنه لا يجري فيه الربا بحال وهذا مذهب
الشافعي وأحمد في إحدى رواياته واختارها القاضي وأصحابه وصاحب المغني
والرواية الثانية عن أحمد أنه يجوز التفاضل فيه يدا بيد ولا يجوز نسيئة وهي مذهب أبي حنيفة كما دل عليه حديثا جابر وابن عمر
والرواية الثالثة عنه أنه يجوز فيه النساء إذا كان متماثلا ويحرم مع التفاضل
وعلى هاتين الروايتين فلا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل بل إن وجد أحدهما حرم الآخر
وهذا أعدل الأقوال في المسألة وهو قول مالك
فيجوز عبد بعيدين حالا وعبد بعبد نساء إلا أن لمالك فيه تفصيلا
والذي عقد عليه أصل قوله أنه لا يجوز التفاضل والنساء معا في جنس من
الأجناس والجنس عنده معتبر باتفاق الأغراض والمنافع فيجوز بيع البعير
البختي بالبعيرين من الحمولة ومن حاشية إبله إلى أجل لاختلاق المنافع وإن
أشبه بعضها بعضا اختلفت أجناسها أو لم تختلف فلا يجوز منها اثنان بواحد إلى
أجل
فسر مذهبه أنه لا يجتمع التفاضل والنساء في الجنس الواحد عنده والجنس ما اتفقت منافعه وأشبه بعضه بعضا وإن اختلفت حقيقته
فهذا تحقيق مذاهب الأئمة في هذه المسألة المعضلة ومآخذهم
وحديث عبد الله بن عمرو صريح في جواز المفاضلة والنساء وهو حديث حسن
قال عثمان بن سعيد قلت ليحيى بن معين أبو سفيان الذي روى عنه محمد بن إسحاق يعني هذا الحديث ما حاله قال مشهور ثقة
قلت عن مسلم بن كثير عن عمرو بن حريث الزبيدي قال هو حديث مشهور ولكن مالك
يحمله على اختلاف المنافع والأغراض فإن الذي كان يأخذه إنما هو للجهاد
والذي جعله عوضه هو من إبل الصدقة قد يكون مع بني المخاض ومن حواشي الإبل
ونحوها
وأما الإمام أحمد فإنه كان يعلل أحاديث المنع كلها
قال ليس فيها حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديثا ابن عباس وابن عمر فقال هما مرسلان
وحديث سمرة عن الحسن قال الأثرم قال أبو عبد الله لا يصح سماع الحسن من سمرة
وأما حديث جابر من رواية حجاج بن أرطاة عن الزبير عنه فقال الإمام أحمد
هذا حجاج زاد فيه نساء والليث بن سعد سمعه من أبي الزبير لا يذكر فيه نساء
وهذه ليست بعلة في الحقيقة فإن قوله ولا بأس به يدا بيد يدل على أن قوله
لا يصلح يعني نساء فذكر هذه اللفظة زيادة إيضاح لوسكت عنها لكانت مفهومة من
الحديث ولكنه معلل بالحجاج فقد أكثر الناس الكلام فيه وبالغ الدارقطني في
السنن في تضعيفه وتوهينه
وقد قال أبو داود إذا اختلفت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم نظرنا إلى ما عمل به أصحابه من بعده
وقد ذكرنا الآثار عن الصحابة بجواز ذلك متفاضلا ونسيئة وهذا كله مع اتحاد الجنس
وأما إذا اختلف الجنس كالعبيد بالثياب والشاء بالإبل فإنه يجوز عند جمهور
الأمة التفاضل فيه والنساء إلا ما حكي رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه متفاضلا
يدا بيد ولا يجوز نساء وحكى هذا أصحابنا عن أحمد رواية رابعة في المسألة
واحتجوا لها بظاهر حديث جابر الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نسيئة ولا بأس
به يدا بيد ولم يخص به الجنس المتحد وكما يجوز التفاضل في المكيل المختلف
الجنس دون النساء فكذلك الحيوان وغيره إذا قيل إنه ربوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق