بحث حول تفسير الفخر الرازي لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني
أفادني فضيلة العلامة الجليل الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع حفظه الله أن صاحب كشف الظنون ذكر أن تفسير الفخر الرازي المسمى بمفاتيح الغيب لم يكمله الفخر، وأنه أكمله نجم الدين أحمد بن محمد القمولي، وأن في ترجمة من طبقات ابن السبكي ومن الدرر الكامنة أن له تكملة لتفسير الفخر الرازي. وكأن فضيلة الشيخ - حفظه الله - ندبني لتحقيق هذه القضية؛ لأن هذا التفسير مطبوع بكماله منسوبًا إلى الفخر الرازي، وليس فيه تمييز بين أصل وتكملة، وآخره على طريقة أوله.
هذا ولم تكن سبقت لي مطالعة التفسير ولا مراجعة، ولي عنه صوارف، فرجوت أن أجد في كتب التاريخ والتراجم والفهارس ما يغني عن تصفح التفسير، فلم أجد ما يفيد التحديد إلا في بعض الفهارس الحديثة أنه وجد بخط السيد مرتضى الزبيدي عن شرح الشفاء للخفاجي أن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء، فأحببت أن أقف على عبارة الخفاجي، وشرحه للشفاء مطبوع في أربعة مجلدات كبار ولم تسبق لي مطالعة له أيضًا فنظرت أولًا في فهارس مجلداته الأربعة، وراجعت ما رأيت أنه مظنة للعبارة المذكورة فلم أجد.
فتجشمت تصفح ذاك الشرح من أوله ولم يكلفني ذلك كبير تعب لأنني وجدت العبارة في ص267 من المجلد الأول طبع القسطنيطية سنة 1267هـ وسيأتي نصها، فرابني قوله: "الثابت في كتب المؤرخين" فإني قد تتبعت ما وجدته من كتبهم فلم.. كيف خفي ذلك على صاحب كشف الظنون مع سعة إطلاعه وكثرة تتبعه؟ وكيف خفي على الزبيدي حتى احتاج إلى تعليقه عن كتاب الخفاجي، ثم خفي على من بعده حتى لم يجدوا إلا النقل عن خط الزبيدي عن كتاب الخفاجي، إذا لا بد من النظر في التفسير نفسه في تفسير سورة الأنبياء وما قبلها وما بعدها. فزادني ارتيابًا بقول الخفاجي أنني وجدت الروح واحدة [و] الأسلوب واحد حتى أنتي كدت أجزم أو جزمت بأن تفسير سورة الأنبياء وسور بعدها من هذا التفسير هو تصنيف مفسر، سورة الكهف وسورة مريم وسورة طه منه، وراجعت مواضع من تفسير البقرة وآل عمران ونظرت نظرة في أواخر التفسير فوجدته أيضًا موافقًا لذلك، عثرت على إحالة في تفسير سورة الإخلاص لفظها "وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله:{ لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا } وهذه الآية في سورة الأنبياء، فخطر لي احتمال أن يكون قائل: (إن الرازي وصل إلى سورة الأنبياء) إنما أخذ ذلك من هذه العبارة مضمومة إلى نصوص المؤرخين أن الرازي لم يكمل التفسير، وإنما أكمله غيره؛ فإن العادة في تصنيف التفاسير أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب. والظاهر أن الرازي هكذا صنع، وقد نصوا على أنه لم يكمل التفسير، إذن فلا بد أن يكون هناك موضع انتهى إليه الأصل وشرعت منه التكملة، وعباراتهم تعطي أنه بقي على الرازي مقدار له شأن، فتفسير سورة الإخلاص لن يكون إلا من التكملة، فكلمة "وقد استقصينا" من كلام المكمّل، فتفسير الآية المحال عليها من كلامه...
دع هذا ودع مناقشته، فالمقصود أن الريبة في قول الخفاجي استحكمت بل اتضح بطلانه كما سيأتي.
واصلت النظر في تفسير سورة الحج والمؤمنين والنور والفرقان والشعراء والقصص متفهمًا تارة، متصفحًا أخرى، وأنا لا أنكر شيئًا من الروح والأسلوب، مع وجود شواهد تدل أن الكلام كلام الرازي، لكن لم أكد أشرع في النظر في تفسير العنكبوت حتى شعرت بأن هذه روح أخرى، وأسلوب يحاول محاكاة السابق وليس به، فأنعمت النظر فتأكد ذلك وتأيد بوجود عدة فوارق، فقفزت إلى تفسير سورة الروم، ثم إلى تفسير سورة لقمان، فالسجدة، فأجد الطريقة الثانية مستمرة، فرأيت أني قد اكتشفت الحقيقة، وأن الرازي بلغ إلى آخر تفسير القصص، فما بعد ذلك هو التكملة، لكنني تابعت تصفحي لأوائل تفسيره سورة سورة فلما بلغت تفسير الصافات إذا بالطريقة الأولى ماثلة أمامي، فجاوزتها إلى السورة الخامسة أو السادسة بعدها فوجدت الطريقة الأولى باقية، فجاوزت ذلك إلى السابعة والثامنة فإذا بالطريقة الثانية، وهكذا أجد كلتا الطريقتين تغيب ثم تعود، فعلمت أنه لا بد من استقصاء النظر على الترتيب؛ وسألخص البحث من أوله مرتبًا على أسئلة كل منها مع جوابه.
السؤال الأول: ألم يكمل الفخر الرازي تفسيره؟
الجواب: يُعلم مما يأتي:
في عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة (2/29) في ترجمة الفخر، في بيان مؤلفاته: (كتاب التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب، اثنتا عشرة مجلدة بخطة الدقيق سوى الفاتحة، فإنه أفرد لها كتاب تفسير الفاتحة مجلد، تفسير سورة البقرة من الوجه العقلي لا النقلي مجلد..) ظاهر هذا أن الفخر أكمل التفسير، لكن ذكر ابن أبي أصيبعة نفسه في كتابه المذكور (2/171) في ترجمة شمس الدين أحمد بن خليل الخولي أن له (تتمة تفسير القرآن لابن خطيب الري). وابن خطيب الري هو الفخر الرازي. وذكر ابن أصيبعة في ترجمة الخولي أنه - أعني ابن أبي أصيبعة - أخذ عن الخولي وأدرك الفخر الرازي وأخذ عنه، والفخر توفي سنة 606هـ كما هو معروف، وتوفي ابن أبي أصيبعة سنة 668هـ.
وفي تاريخ ابن خلكان (1/474) في ترجمة الفخر في ذكر مؤلفاته: "منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدًا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد"؛ توفي ابن خلكان سنة 681هـ.
وذكر ابن السبكي في طبقاته (5/35) في ترجمة الفخر تفسيره، ولم يبين أكمل أم لا، لكنه قال (5/179) في ترجمة نجم الدين أحمد بن محمد القمولي: "وله تكملة على تفسير الإمام فخر الدين". توفي ابن السبكي سنة 771هـ.
وفي شذرات الذهب (6/75) في ترجمة القمولي: "قال الأسنوي: وكمل تفسير ابن الخطيب". وابن الخطيب هو الفخر. توفي الأسنوي سنة 771هـ. وفيها (5/21) في ترجمة الفخر: "قال ابن قاضي شبهة: ومن تصانيفه تفسير كبير لم يتمه في اثني عشر مجلدًا كبارًا.." توفي ابن قاضي شهبة سنة 851هـ.
وفي الدرر الكامنة لابن حجر (1/204) في ترجمة القمولي: "وأكمل تفسير الإمام فخر الدين". توفي ابن حجر سنة 852هـ.
السؤال الثاني: إن لم يكمله فمن أكمله؟
الجواب: قد علم مما مر أنه أكمله كل من الخولي والمقولي، فأما الأول فهو شمس الدين قاضي القضاة أحمد بن خليل الخولي، توفي سنة 637هـ. هذا هو الصواب في اسمه ولقبه ونسبته ووفاته، ووقع في عدة كتب تخليط في ذلك. راجع عيون الأنباء (2/171) والمرآة لبسط الجوزي (8/730)، وطبقات ابن السبكي (5/8)، والسلوك للمقريزي (1/373)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (4/200). والبداية والنهاية لابن كثير (13/155)، والشذرات (5/183)، وراجع شرح القاموس ( خ و ي) وكشف الظنون (مفاتيح الغيب)، والشذرات (5/423)، وفهرس الأزهر (1/299)، وفهرس الخزانة التيمورية (1/235)، ومعجم المطبوعات.
وله ابن اسمه شهاب الدين قاضي القضاة محمد بن أحمد بن خليل الخولي، كان محدثًا فاضلًا، توفي سنة 693هـ. ذكر في مواضع من سلوك المقريزي وتاريخ ابن الفرات، وله ترجمة حسنة في البداية والنهاية لابن كثير (13/337)، فوات الوفيات (2/182)، والوافي بالوفيات (2/137)، والشذرات (5/423) على تخليط في الشذرات.
ولما كان الغالب أن يُلقب من اسمه محمد شمسَ الدين، ومن اسمه أحمد شهابَ الدين، اشتبه الأمر على صاحب كشف الظنون فجعل لقب الأب شهابَ الدين.
وأما الثاني فهو نجم الدين أحمد بن محمد القمولي، توفي سنة 727هـ، كما في طبقات ابن السبكي (5/179)، والدرر الكامنة (1/304)، والشذرات (6/75)، وكشف الظنون (مفاتيح الغيب). ووقع في فهرس الأزهر، وفهرس الخزانة التيمورية ذكر وفاته سنة 777 تبعًا لنسخة كشف الظنون الطبعة الأولى، وذلك خطأ.
وزعم بعضهم أن للسيوطي تكملة على تفسير الفخر، كتب منها من سورة سبح إلى آخر القرآن في مجلد، وإنما ذكر صاحب كشف الظنون أن للسيوطي تفسيرًا اسمه مفاتيح الغيب كتب منه ذاك المقدار، وهذا هو الظاهر أنه تفسير مستقل، وسيأتي ما يؤكد ذلك إن شاء الله.
السؤال الثالث: إذا لم يكمل الفخر تفسيره فهذا التفسير المتداول الكامل مشتمل على الأصل والتكملة، فهل يعرف أحدهما من الآخر؟
الجواب: هذا يحتاج إلى إطالة. فقد قال الشهاب الفخاجي المتوفي عام 1069هـ في شرحه لشفاء القاضي عياض (1/267) معترضًا على من نقل عن التفسير الكبير للفخر الرازي: "الثابت في كتب التأريخ أن التفسير الكبير وصل إلى سورة الأنبياء وكمله تلميذه الخولي".
وقد ذكرت ارتيابي في هذا القول ثم نظري في التفسير نفسه، وسألخص ذلك محيلا على النسخة المطبوعة بمصر سنة 1278هـ، وهي في ستة مجلدات، وله نسخة مخطوطة محفوظة بمكتبة الحرم المكي.
أولًا: في آخر تفسير البقرة من المخطوطة "حكاية تأريخ المصنف": وقد تم يوم الخميس في المعسكر المتاخم للقرية المسماة بأرصف، سنة أربع وتسعين وخمسمائة".
وفي آخر تفسير آل عمران من المخطوطة "قال رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس"، ونحوه في المطبوعة، وزاد: "أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة".
وهكذا ثبت التأريخ في أكثر السور الآتية إلى آخر سورة الكهف حيث في النسختين "قال المصنف رحمه الله: تم تفسير يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة اثنتين وستمائة في بلدة غزنين".
ثم انقطعت السلسلة إلى سورة يس، ثم شرعت من آخر تفسير الصافات حيث وقع هناك في المطبوعة: "تم تفسير هذه السورة ضحوة يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستمائة".
ثم استمر التأريخ فيما بعد ذلك من السور إلى آخر تفسير الأحقاف حيث وقع في النسختين: "قال المصنف رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الأربعاء العشرين من ذي الحجة سنة ثلاثة وستمائة".
ولم يثبت آخر القتال، ووقع في المطبوعة آخر تفسير سورة الفتح: "قال المصنف رحمه الله تعالى: تم تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة".
كذا وقع من أن أول ذي الحجة تلك السنة "الجمعة" كما تصرح به تواريخ السور السابقة.
وفي الشذرات (5/10) ما يدل على أن أول شوال تلك السنة كان الاثنين، فإذا تم شؤال ثلاثين كان أول ذي القعدة الأربعاء كما تقدم، فإذا تم أيضًا ثلاثين ولا مانع من ذلك كان أول ذي الحجة الجمعة.
ثانيًا: وقع في القسم الذي زعم الخفاجي أنه التكملة - في مواضع منه نصوص تبين أن تلك المواضع من تصنيف الفخر، فمنها ما هو صريح كقوله في تفسير سورة الأنبياء - التفسير (4/521): "أما المأخذ الأول فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول".
وفي تفسير الزمر - التفسير (5/415): "الثالث كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول..".
وفي تفسير الزمر - التفسير (5/448): "لنا كتاب مفرد في تنزيه الله.. سميناه تأسيس التقديس".
وفي تفسير سورة الحشر - التفسير (6/275): "اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب المحصول في أصول الفقه".
وفي تفسير المدثر - التفسير (6/404): "والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه".
وفي تفسير سورة الفجر - التفسير (6/547): "وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتاب المسمى بلباب الإشارات".
وكتاب المحصول في أصول الفقه، وكتاب تأسيس التقديس في العقائد، وكتاب لباب الإشارات، ملخص من إشارات ابن سينا - ثلاثتها من مصنفات الفخر الرازي المشهورة - وضياء الدين عمر هو والد الفخر الرازي وشيخه.
ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة الفرقان - التفسير (5/28): "وفي تحقيقه وبسط كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية".
وفي تفسير سورة القصص - التفسير (5/135): "وهذه طريقة ركيكة بينا سقوطها في الكتب الكلامية".
وفي تفسير سورة فصلت - التفسير (5/449): "لأنا قد دللنا في المعقولات..".
وفي تفسر سورة القيامة (6/415): "بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه فلا حاجة هنا إلى ذكرها".
والذي نسبت إليه التكملة لم تعرف له كتب عقلية وكتب كلامية يتأتى منه أن يحيل عليها بمثل هذه الكلمات، وإنما ذلك للفخر الرازي.
فأما ما وقع في التفسير (5/317): " في تفسير سورة يس، وهو من القسم الثالث "قد ذكرنا الدلائل على جواز الخلاء في الكتب العقلية". فالصواب كما في المخطوطة "قد ذكر الدلائل..".
ومنها ما هو دون ذلك كقوله في تفسير سورة النور - التفسير (4/620): "فقد بينا في أصول الفقه". ونحوه في تفسير النور أيضًا - التفسير (4/637)، و (4/709) وفي تفسير الفرقان (5/21) وسورة النمل (5/93).
وفي تفسير الدخان - التفسير (5/583): "وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه".
وفي تفسير الحديد - التفسير (6/232): "سمعت والدي رحمه الله.. ".
وفي تفسير سورة الحشر - التفسير (6/275): ".. أن المسلم لا يقتل بالذمي، وقد بينا وجهه في الخلافات".
وحمل هذه الإحالات على أنها من كلام الفخر هو الظاهر.
ثالثًا: الطريقة التي جرى عليها الرازي في الشطر المقطوع بأنه تصنيفه من هذا التفسير استمرت إلى آخر سورة القصص، ومن ثم خلفتها طريقة أخرى في تفسير العنكبوت وما بعدها إلى آخر سورة يس، يتبين ذلك لمن أنعم النظر في القسمين، وهذه طائفة من وجوه الفرق التي يتيسر بيانها.
الأول: أطال الرازي في أول تفسير سورة البقرة القول في الحروف المقطعة أوائل السور واختار أنها أسماء للسور، واستمر مقتضى هذا القول في أول آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه، وكذا في أول سورة الشعراء والنمل والقصص.
فأما أول العنكبوت فابتدأ المفسر بكلام طويل في تثبيت قول جديد حاصله أن الحروف المقطعة إنما أتي بها لتنبيه السامع، قال: "الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة.. يقدم على الكلام المقصود شيئًا غيره ليلتفت المخاطب..".
"وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتًا غير مفهوم، كمن يصفر خلف إنسان ليتلفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه..". فنقول:
"إن النبي ﷺ وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفًا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه..". ثم قال في إعراب "الم": "قد ذكر في تمام ذلك في سورة البقرة مع الوجوه المنقولة في تفسيره ونزيدها هنا أن علة ما ذكرنا في الحروف (من أنها للتنبيه) لا إعراب لها (أي الم) لأنها جارية مجرى الأصوات المنبهة". نقلت هذه العبارة الأخيرة من النسخة المخطوطة وزدت الكلمات المحجوزة إيضاحًا، والعبارة في المطبوعة مغيرة تغييرًا موهمًا، وواضح أنه لا ينكر إحالة صاحب التكملة على الأصل بنحو "قد تقدم" وجرى أول تفسير سورة الروم على هذا القول الجديد، وأحال على العنكبوت، وسكت في أول لقمان، واقتصر أول السجدة على قوله "قد علم ما في قوله:{ الم } وقوله: { ولا ريب } من سورة البقرة وغيرها"، وقال أول يس "قد ذكرنا كلامًا كليًا في حروف التهجي في سورة العنكبوت".
الوجه الثاني: لم يعن في القسم الأول ببيان ارتباط السورة بالتي قبلها، وعني به في القسم الثاني - العنكبوت ويس وما بينهما.
الثالث: يكثر في القسم الأول التعرض للقضايا الكلامية ولو لغير مناسبة يعتد بها بخلاف القسم الثاني.
الرابع: يكثر في القسم الأول النقل عن رؤس المعتزلة كالأصم والجبائي والقاضي عبد الجبار والكعبي وأبي مسلم الأصفهاني، ويظهر من عدة مواضع أن تفاسيرهم كانت عند الرازي؛ ولا يوجد ذلك في القسم الثاني.
الخامس: يكثر في القسم الأول نقل احتجاجات المعتزلة مشروحة، فربما أجاب عنها، وربما اقتصر على المعارضة، وربما اجتزأ بالإشارة إلى الجواب، وربما سكت، ويندر ذلك في القسم الثاني.
السادس: يكثر في القسم الأول الألفاظ الجدلية مثل: سلمنا، فلم قلتم، ونحوها، بخلاف القسم الثاني.
السابع: يكثر في القسمين النقل عن الكشاف، والتزم في الأول "قال صاحب الكشاف" ونحوه؛ وفي الثاني غالبًا "قال الزمخشري" ونحوه.
الثامن: يغلب في الأول عند إكمال تفسير الآية وإرادة الشروع في غيرها أن يقال: "قوله تعالى.." وفي القسم الثاني "ثم قال تعالى".
التاسع: يكثر في الأول جدًا تصدير كل مقصد بقوله: "اعلم" ويندر ذلك في القسم الثاني.
العاشر: يندر في الأول تحري السجع ويكثر في الثاني.
الحادي عشر: يقع في القسم الأول التعرض لما يتعلق بقواعد العربية باعتدال، أما في القسم الثاني فنجد كثيرًا محاولة التعمق في ذلك والتدقيق والإيغال في التعليل والإعراب بما لا يوجد في كتب العربية نفسها.
الثاني عشر: يقع في الأول التعرض للنكات البلاغية باعتدال، ويكثر ذلك في الثاني.
عرفنا أن القسم الأول وهو من أول التفسير إلى آخر سورة القصص جرت فيه الطريقة الأولى، وأن القسم الثاني وهو من أول تفسير العنكبوت إلى آخر تفسير يس جرت فيه الطريقة الثانية، فماذا بعد ذلك؟ عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير الأحقاف، فهذا قسم ثالث، ثم رجعت الطريقة الثانية من أول سورة القتال إلى آخر تفسير الواقعة فهذا قسم رابع، ثم عادت الطريقة الأولى في تفسير الحديد والمجادلة والحشر فقط، فهذا قسم خامس، ثم رجعت الطريقة الثانية من أول تفسير سورة الممتحنة إلى آخر تفسير سورة التحريم، إلا أنه يتبين فيه الاستعجال وترك التدقيق، ويكاد يقتصر فيه على الأخذ من تفسير الواحدي والكشاف، فهذا قسم سادس، ثم عادت الطريقة الأولى من أول تفسير الملك إلى آخر القرآن، فهذا قسم سابع.
ولا ريب أن القسم الأول من تصنيف الفخر والطريقة الأولى طريقته، إذن فالقسم الثالث والخامس والسابع من تصنيفه، وهذا مطابق للنصوص المتقدمة تحت قولي: "ثانيًا.." فإن تلك النصوص كلها في هذه الأقسام.
ومطابق أيضًا لأمر الأول، وهو التواريخ في أواخر تفسير السور؛ فإن السلسلة الأولى في أواخر سور القسم الأول، والسلسلة الثانية هي في أواخر سورة القسم الثالث خلا التاريخ الذي في آخر تفسير سورة الفتح فإن تفسير سورة الفتح من القسم الرابع، لكن ذلك التاريخ مخدوش كما تقدم، ويذفف عليه أن تفسير الفتح جار على الطريقة الثانية.
قد تضافرت الأدلة على أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الفخر الرازي، وبقي النظر في بقية الأقسام، وهي الثاني والرابع والسادس، ويدل على أنها من تصنيف غيره أمور:
الأول: اختلاف الطريقة كما تقدم.
الثاني: في التفسير (5/182) في تفسير سورة الروم - وهو من القسم الثاني -:"فأخبرني الشيخ الورع الحافظ الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بحلب..".. وعبد الرحمن هذا توفي سنة 623 كما في الشذرات وغيرها.
وفي التفسير (5/255) في تفسير سورة سبأ - وهو من القسم الثاني أيضًا: "أخبرني تاج الدين عيسى بن أحمد بن الحاكم البندهي، قال أخبرني والدي، عن جدي، عن محي السنة، عن عبد الواحد المليجي، عن أحمد بن عبد الله النعيمي، عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري..".
لم أجد ترجمة لعيسى هذا، والظاهر أنه متأخر عن الفخر، فإن بين الراوي عن عيسى وبين محي السنة ثلاثة، والفخر كما في ترجمته من طبقات ابن السبكي أخذ عن أبيه ضياء الدين، وضياء الدين من أصحاب محي السنة.
وفي التفسير (6/18) في تفسير ق، وهو من القسم الرابع: (الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر.. وهذا وجهه جيدًا مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده".
لم يتبين من زين الدين هذا، وظاهر العبارة أنه كان حيًا حين التصنيف، وربما كان هو ابن معطي صاحب الألفية، توفى سنة 628هـ.
وفي التفسير (6/143) في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع أيضًا: "روى الواحدي في تفسيره، قال سمعت (الصواب: في تفسيره ما سمعته على - كما في المخطوطة) الشيخ رضي الدين المؤيد الطوسي بنيسابور قال: سمعت عبد الجبار، قال: أخبرنا الواحدي، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد السراج..".
والمؤيد الطوسي محدث توفي سنة 617هـ.
هذا وقد عرفت أن هؤلاء الذين روى عنهم المفسر متأخرون عن الفخر، والفخر ليس براو كما في ترجمته من طبقات ابن السبكي، ولم أجد في الأقسام الأربعة التي قامت الأدلة على أنها من تصنيفه تعرضًا للرواية، ولا نقلًا عن عالم من أهل عصره غير والده، والظاهر أن المفسر الراوي عن هؤلاء هو أحمد بن خليل الخولي، فهو صاحب هذه التكملة، فأما القمولي فمتأخر لم يدرك هؤلاء، وفي ترجمة الخولي من طبقات ابن السبكي أنه أدراك المؤيد الطوسي وسمع منه.
وفي التفسير (6/54) في تفسير الذاريات - وهو من القسم الرابع - كلام في مسألة اعتقادية، ثم قال: "والاستقصاء مفوض في ذلك إلى المتكلم الأصولي لا المفسر"، وهكذا لا يشبه كلام الفخر بل فيه تعريض به، وعادة الفخر أن يستقصي أو يحيل على كتبه العقلية أو الكلامية أو يسمي بعضها.
وفي التفسير (6/147) وهو في تفسير سورة القمر، وهو من القسم الرابع: "سادسها ما قاله فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } وأخذ هذا المفهوم اللغوي.. وهو قريب إلى اللغة لكنه بعيد الاستعمال في القرآن"؛ وقع في المخطوطة "سادسها ما قلنا" وهو من إصلاح الناسخ بزعمه والسياق يشهد لما في المطبوعة، والآية التي ذكرها في تفسير فصلت، وفيه المعنى الذي حكاه، وتفسير فصلت من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر الرازي، فهذا مما يؤكد ذلك.
وفي التفسير (6/196) وهو في تفسير الواقعة، وهو من القسم الرابع أيضًا: "... وشيء من هذا رأيته في كلام الإمام فخر الدين رحمه الله بعدما فرغت من كتابه هذا مما وافق خاطري على أني معترف بأني أصبت منه فوائد لا أحصيها" هكذا في النسختين إلا أنه سقط من المخطوطة قوله:"معترف بأني" والبحث متعلق بقوله تعالى { ليس كمثله شيء } وهي في سورة الشورى، وفي تفسيرها بعض ما ذكره هنا، وتفسير الشورى من القسم الثالث الذي قامت الأدلة على أنه من تصنيف الفخر، فهذا مما يؤيد ذلك.
وفي التفسير بعدما تقدم بقليل: "وفيه مسائل الأولى أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة، ونحن نذكر بعضها، فالأولى: قالت المعتزلة..
وقد أجاب الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه". وفيه: "مسائل أصولية المسألة الأولى قالت المعتزلة.. وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين الرازي بأجوبة كثيرة وأظن أنه لم يذكر ما أقول فيه..".
الأمر الثالث: الإحالات، أعني قوله: قد ذكرنا في.." ونحوه، وأرى أن أبسط القول في الإحالات بوجه عام.
وقعت الإحالات في جميع الأقسام خلا السادس، وذلك من أثر الاستعجال فيه كما سبق. ولا تنكر الإحالة في قسم على ما تقدم منه، أو من قسم آخر لمصنفه، ولا الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد تقدم" ونحوه، وإنما الذي يستنكر ضربان مشككان، الأول الإحالة في التكملة على الأصل بلفظ "قد ذكرنا" ونحوه؛ إذ يقال: كيف ينسب إلى نفسه ما هو من كلام غيره؟ الضرب الثاني الإحالة فيما هو من الأصل على ما هو من التكملة؛ إذ يقال: كيف يحال على ما لم يوجد بعد بلفظ يفيد أنه قد وجد؟ فأما الضرب الأول فاصطدمت أولًا بعدد من تلك الإحالات في القسم الثاني، فراعني قوله في موضعين أو أكثر من أوائل تفسير العنكبوت: "قد ذكرنا مرارًا" ونحو هذا؛ فإن الدلائل تقضي بأن ما قبل العنكبوت كله من تصنيف الرازي وأن تفسير العنكبوت كله من تصنيف الرازي وأن تفسير العنكبوت من التكملة، وإحالات أخرى في ذاك القسم - أعني الثاني - على تفسير البقرة وغيرها من سور القسم الأول، حيرني ذلك أولًا لقوة جزمي بأن مصنف تفسير العنكبوت غير مفسر ما قبلها فذهبت أتلمس الاحتمالات، وكان أقربها أن صاحب التكملة رأى أنه وصاحب الأصل شريكان في الجملة في هذا التفسير، وأنه يسوغ أن يُنسب فعل أحد الشريكين إليهما، فهو يقول: "ذكرنا" يريد ذكر مصنف الأصل. ثم بدا لي أن أتتبع المواضع المحال عليها وأنظر أيوجد فيها المعاني المحال بها عليها أم لا؟ فإذا أخلص من إشكال وأقع في آخر، ففي التفسير (5/201): "وذكرنا في تفسير الأنفال في أوائلها أن الصلاة ترك التشبه السيد.."
وفيه (5/220): "المسألة الرابعة: لم قدم السمع هنا والقلب في قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [البقرة]... وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار.. وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع...).
وليس لما أحال في هاتين الإحالتين وجود في الموضعين المحال عليهما - وهاتان في القسم الثاني -، وفيه إحالات أخرى يوجد في المواضع المحال عليها فيها طرف من المعنى المحال به فقط.
وهذه أمثلة من القسم الرابع:
في التفسير (6/22) في تفسير سورة ق: "ذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا: قال بسم الله الرحمن الرحيم إشارة إلى كونه رحمانًا في الدنيا حيث خلقنا، رحيمًا في الدنيا حيث رزقنا رحمة، ثم قال مرة بعد قوله: { الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم } أي هو رحمان مرة أخرة في الآخرة بخلقنا ثانيًا، استدللنا عليه بقوله بعد ذلك: { مٰلك يوم الدين } أي بخلقنا ثانيًا، ورحيم برزقنا،ويكون هو المالك في ذلك اليوم إذا علمت هذا..".
وليس في تفسير الفاتحة أثر لهذا الكلام بلفظه، ولا معناه...
وفي التفسير (6/30) في تفسير الذاريات: "المسئلة الأولى: قد ذكرنا الحكم وفي القسم من المسائل الشريفة والمطالب العظيمة في سورة الصافات ونعيدها ههنا، وفيها وجوه: الأول.. واستوفينا الكلام في سورة الصافات".
ساق كلامًا طويلًا ليس له أثر في تفسير الصافات، وإنما يوجد بعضه في تفسير يس؛ هذا وتفسير الصافات من القسم الثالث، وهو من تصنيف الرازي، فأما تفسير يس فمن القسم الثاني، وهو من تصنيف مصنف الرابع.
وفي التفسير (6/72) في تفسير الطور: " المسئلة الرابعة: هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرًا وقوله تعالى: { قل لا اسئلكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى..} المراد من قوله: "إلا المودة في القربى" هو أني لا أسألكم عليه أجرًا يعود إلي في الدنيا، وإنما أجري المحبة في الزلفى إلى الله تعالى.. وقد ذكرناه (هناك)"، يعني في تفسير الشورى؛ وتفسير الشورى من القسم الثالث، وليس فيه هذا الذي قال.
وفي التفسير (6/76) في تفسير الطور أيضًا: "ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى: { فصعق من في السمٰوات ومن في الأرض إلا من شاء الله }، وقد ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه، ومن لا يعلم يكون كالغفل..". وآية "فصعق..." في سورة فصلت، وهي من القسم الثالث؛ وليس في تفسيرها ما أحال به عليه، نعم يوجد نحوه في تفسير سورة ق، وهو من القسم الرابع.
وبقيت إحالات من هذا القبيل لا أرى ضرورة لاستيفائها.
في هذا دلالة بينة على أن لهذه السور المحال عليها سوى تفسيرها هذا تفسيرًا آخر عليه وقعت الإحالة، والظاهر أنه من تصنيف المحيل نفسه فيصح قوله: "ذكرنا" ونحوه على ظاهره فانحل الإشكال، وصح أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس غير مصنف بقية الأقسام. لكن نشأ إشكال جديد هذا حله: قد مر ما يدل على أن مصنف القسم الثاني والرابع والسادس هو الخولي.. والمعروف كما سبق أن للخولي تكملة على تفسير الفخر فكان تكملة الخولي عبارة عن كتاب يتضمن تعليقًا على السور التي فسرها الفخر وتفسيرًا تامًا للسور التي لم يفسرها الفخر، فهو يحيل في التفسير على التعليق لأنهما كتاب واحد. ويشهد لهذا فقدان خطبته لأنها كانت أول الكتاب ويليها التعليق على القسم الأول، فعمد من بعده إلى تفسيره للسور التي لم يفسرها الفخر فاقتطعه من التكملة ووصل به تفسير الفخر وأهمل التعليق فذهبت الخطبة معه.
الضرب الثاني من الإحالات المشككة ما وقع فيما تبين لنا أنه من تصنيف الرازي على تفسير سور تبين لنا أن تفسيرها من هذا الكتاب من تصنيف غيره، ففي القسم الثالث إحالة واحدة من هذا الضرب مع أن فيه من الإحالات غير المشككة زهاء سبعين وهذه الواحدة هي ما في التفسير (5/602): "تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان".
وفي القسم الخامس منها واحدة وهي ما في تفسير (6/233) بعد ذكر آية: "وهو مفسر في سبأ" وفي السابع منها عشر إحالات. وأكثر هذه الإحالات مجمل كما رأيت، فلا يمكن أن نستفيد شيئًا من مقابلة الإحالتين السابقتين على تفسير تينك الآيتين في العنكبوت ولقمان وسبأ من هذا التفسير، بل وجدت إحالتين من العشر الأخيرة أفادت مقابلتها.
فالأولى في التفسير (6/330) في سورة ن قال: "المسألة الثانية: القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائها من قوله: "{ ن والقلم } وقد ذكرنا هذا في طس ويس". وتفسير يس من القسم الثاني وليس فيه تعرض لهذه المسألة، وكذلك لاذكر لها في طس مع أنها من القسم الأول، ولعله يأتي النظر في هذا..
الإحالة الثانية في التفسير (6/586) في تفسير "اقرأ": "قد مر تفسير النادي عند قوله: { وتأتون في ناديكم المنكر }" وهذه الآية في سورة العنكبوت، وهي في هذا التفسير (5/155) وليس ثمة تفسير للنادي.
فهذا يدلك أن هذه الإحالات ليست على هذا التفسير الذي يأيدينا. ويؤكد ذلك أن في تفسير القيامة إحالتين على تفسير الواقعة مع أنه قد تقدم في النصوص النص القاطع على أن تفسير الواقعة لغير الرازي، والنص الواضح على أن تفسير القيامة من تصنيفه عن الأدلة الأخرى التي تقضي بذلك.
فاتضح أن هذه الإحالات لا تخدش فيما قضت به الأدلة من أن القسم الأول والثالث والخامس والسابع من تصنيف الرازي، وأن القسم الثاني والرابع والسادس من تصنيف غيره بل تؤكد ذلك..
وهناك احتمالان:
الأول: أن يكون الفخر صنف التفسير كاملًا ولكن فقدت منه قطع هي التي أكملها الخولي وغيره..
الثاني: أن لا يكون فسر تلك السور أصلًا - أعني التي اشتملت عليها القسم الثاني والرابع والسادس.
قد يستدل للأول بأمرين:
الأول: الإحالات التي مر ذكرها قريبًا.
الثاني: أن العادة على العموم أن يبدأ المفسر من أول القرآن ثم يجري على الترتيب؛ وأي سبب يحمل الرازي على أن يطفر ثم يطفر ثم يطفر؟
ويستدل للثاني بأمور:
الأول: أن الظاهر أنه فقد شيء من تفسير الرازي لنقل ذلك.
الثاني: أن ابن أبي أصيبعة تلميذ الخولي ذكر تفسير الرازي، وأنه في اثنتي عشرة مجلدة بخطة الدقيق، ولم يذكر فقد شيء منه، وذكر تكملة الخولي.
الثالث: إن ابن خلكان مع سعة إطلاعه وتحريه وتثبته ذكر أن الرازي لم يكمل تفسيره، أما الإحالات السابقة ففيها قرائن توهم دلالتها على أن الرازي قد كان فرغ من تفسير جميع السور التي بما قبلها...
القرينة الأولى: قلة تلك الإحالات.
القرينة الثانية: أن عبارته في أكثرها قريبة الاحتمال لأن يكون إنما أحال على ما عزم عليه، لا على ما قد فرغ منه. وذلك كقوله: "مفسر في سورة سبأ، مفسرة في سورة الطور، مفسرة في آخر سورة الطور، مفسر في سورة النجم". وقوله في بعضها: "قد ذكرنا" ونحوه يحتمل التجوز بأن يكون نزل لمعزوم عليه منزلة ما قد وقع. وهون عليه ذلك أن تلك السور التي يحيل على تفسيرها متقدمة في ترتيب القرآن ويرى أنه إذا فسرها بعد ذلك سيكون تفسيره لها متقدمًا في الترتيب على موضع الإحالة، فاستثقل أن يكون في كتابه إحالة على ما تقدم فيه بلفظ "سيأتي" ونحوه.
فأما الاستدلال بالعادة واستبعاد الطفر فيخفف من قوته أننا نجد في تفسير الرازي إحالات عديدة على تفسير سور مستقبلة بألفاظ صارخة بأنه قد فسرها قبل ذلك.
ففي نفس الآية السابعة من سورة البقرة - التفسير (1/192): "المسألة الثامنة واستقصينا في بيانه في سورة الشعراء".
وفي تفسير الآية السادسة من المائدة - التفسير (2/592): "وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له } فليرجع إليه" والآية في سورة البينة.
وفي تفسير الآية 54 من الاعراف - التفسير (3/236): "وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا".
عثرت على هذه الأمثلة عثورًا فإني لم أتصفح الشطر الأول من التفسير. ولعلك إن تتبعت تجد فيه كثيرًا من هذا الضرب.
وفي التفسير (5/340) في تفسير الصفات: "ولعنا قد شرحنا هذا الكلام في تفسير "تبارك الذي بيده الملك" في تفسير قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح }.
ثم قال في صفحة 341: "الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح }. ثم قال ص342: "إذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك...".
وفي التفسير (5/521): "يؤكد هذا إنا بينا في تفسير سبح اسم ربك الأعلى..". وفي مواضع من القسم السابع إحالات على مواضع أخرى منه، منها من هذا القبيل قوله في تفسير سورة تبارك الملك، ونظير هذه الآية قوله: { سلهم أيهم بذلك زعيم } وقد تقدم الكلام فيه، وهذا في سورة ن، وقوله في تفسير المعارج: "فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله: { يوم يقوم الروح والملائكة صفا }" وهذه في سورة النبأ.
وإحالة مجملة وهي قوله في آخر تفسير الحاقة: "وأما تفسير قوله: { فسبح باسم ربك } فمذكور في أول سبح اسم ربك الأعلى".
وإحالتنا على المتأخر على أنه مستقبل ففي تفسير الحاقة: "سنذكره في أول سورة القيامة"، وفي "التين" بعد الإشارة إلى قصة الفيل: "على ما يأتيك شرحه"؛ وعدة إحالات على المتقدم منه بلفظ: "قد تقدم" ونحوه. ففي المعارج على الملك، وفي المدثر وهل أتى على المزمل، وفي التكوير والمطففين والانشقاق على القيامة، وفي المطففين على هل أتى، وفي البروج على التكوير، وفي البلد على الجن، وفي العاديات على الانفطار وعلى الغاشية، وفي القارعة على المعارج وعلى الحاقة، وفي التكاثر على الضحى. وفيه إحالات عديدة على بعض سور القسم الأول الفاتحة والبقرة والأنعام والأعراف والتوبة والكهف وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان وطس "النمل"، وهذه الأخيرة قد تقدم ذكرها في أوائل "الضرب الثاني من الإحالات المشككة" وأنه لا يوجد في تفسر طه من هذا الكتاب المعنى المحال به عليه.
ولهذا وغيره يتبين أن إحالته على تفسير سورة متقدمة في الترتيب بلفظ "قد تقدم" ونحوه لا يتم دليلًا على أنه عند كتابة الإحالة قد كان فسر تلك السورة المتقدمة بل يحتمل أنه لم يكن فسرها، وإنما كان عازمًا على تفسيرها فيما بعد فيجوز؛ ثم من المحتمل أن يكون فسرها بعد ذلك كما في هذا الموضع، وأن يكون مات قبل أن يفسرها كما هو الظاهر في سور القسم الثاني والرابع والسادس على ماتقدم.
وفيه إحالة على الزمر وأخرى على الأحقاف، وهما من سور القسم الثالث. هذا ومقصودي إثبات أن جري الفخر الرازي غير المعتاد واقع في الجملة فأما كيف ولماذا؟ فادعه لمن يهمه.
ملخص الجواب عن السؤال الثاني
الأصل من هذا الكتاب وهو القدر الذي هو من تصنيف الفخر الرازي وهو من أول الكتاب إلى آخر تفسير سورة القصص، ثم من أول تفسير الصافات إلى آخر تفسير سورة الأحقاف، ثم تفسير سورة الحديد والمجادلة والحشر، ثم من أول تفسير سورة الملك إلى آخر الكتاب؛ وما عدا ذلك فهو من تصنيف أحمد بن خليل الخولي، وهو من التكملة المنسوبة إليه، فإن تكملته تشمل زيادة على ما ذكر تعليقًا على الاصل، هذا ما ظهر لي. والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق