بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أما بعد فهذه - إن شاء الله تعالى - رسالة في معرفة الحديث، أتوخى فيها تحرير المطالب، وتقرير الأدلة، وأتتبع مذاهب أئمة الجرح والتعديل فيها ليتحرر بذلك ما تعطيه كلماتهم في الرواة، فإن منهم من لا يطلق " ثقة " إلا على من كان في الدرجة العليا، من العدالة والضبط ومنهم من يطلقها على كل عدل ضابط وإن لم يكن في الدرجة العليا ومنهم من يطلقها على العدل وإن لم يكن ضابطا، ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى حديثا واحدا قد تُوبع عليه، ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى حديثا له شاهد ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى حديثا لم يستنكره هو، ومنهم من يطلقها على المجهول الذي روى عنه ثقة، إلى غير ذلك مما يأتي - إن شاء الله تعالى.

وهم - مع ذلك - مختلفون في الاستدلال على أحوال الرواة، فمنهم المبالغ في التثبت، ومنه المتسامح، ومن لم يعرف مذهب الإمام منهم ومنزلته من التثبت لم يعرف ما تعطيه كلمتُه، وحينئذ: فإما أن يتوقف، وإما أن يحملها على أدنى الدرجات ولعل ذلك ظلم لها، وإما أن يحملها على ما هو المشهور في كتب المصطلح ولعل ذلك رفع لها عن درجتها.

وبالجملة فإن لم يتوقف قال بغير علم، وسار على غير هدى.

وأرجو - إذا يسر الله تبارك وتعالى إتمام هذه الرسالة كما أحب - أن يتضح لقارئها سبيل القوم في نقد الحديث، ويتبين أن سلوكها ليس من الصعوبة بالدرجة التي يُقطع بامتناعها، وعسى أن يكون ذلك داعيا لأولي الهمم إلى الاستعداد لسلوكها، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك - إن شاء الله تعالى.

هذا ونقد الخبر على أربع مراتب:

الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدا واحدا.

الثانية: النظر في اتصاله.

الثالثة: البحث والنظر في الأمور التي تدل على خطأ إن كان.

الرابعة: النظر في الأدلة الأخرى مما يوافقه أو يخالفه.

فلنعقد لكل واحدة من هذه الأربع مقالة، ونسأل الله تبارك وتعالى التوفيق.

المقالة الأولى: في النظر في أحوال الرواة

شرط قبول الخبر أن يكون المخبر حين أخبر به مسلما بالغا عاقلا عدلا ضابطا.

الباب الأول: في الإسلام

أما الإسلام فلاشتراطه أدلة منها: أنّ عامة الأدلة على مشروعة العمل بخبر الواحد في الدين خاصة واردة في خبر المسلم، ومنها: قول الله تبارك وتعالى في المنافقين والرد عليهم: { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } التوبة: 61. أي ويصدق المؤمنين

ومنها: قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } الحجرات: 6.

والكفر من الفسق قال تعالى: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ } إلى قوله { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } السجدة: 18 -20. وقال سبحانه: { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون } البقرة: 99.

والآيات في ذلك كثيرة.

وتبادر المسلم من نحو قولك: " رأيت رجلا فاسقا " من العرف الحادث بعد صدر الإسلام، وسببه أنها صار الغالب إذا ذكر الكافر أن يذكر بلفظه الخاص به " كافر " أو ما يعطي ذلك مثل: يهودي، ونصراني، ومجوسي، وإذا ذكر المسلم الذي ليس بعدل أن يذكر بنحو: فاسق، وفاجر، ومثل هذا العرف لا يعتد به في فهم القرآن.

وغفل بعضهم عن هذا فظن أن دخول الكافر في الآية إنما هو من باب الفحوى، قال: لأنه أسوأ حالا من الفاسق.

ونوقش في ذلك بأن الفسق مظنة التساهل في الكذب: إذ المانع من الكذب هو الخوف من الله عز وجل ومن عيب الناس، ومرتكب الكبيرة قد دل بارتكابه إياها على ضعف الخوف من نفسه.

وأما الكافر فقد يكون عدلا في دينه بأن يكون يحسب أنه على الدين الحق، ويحافظ على حدود ذلك الدين، ويخاف الله عز وجل والناس بحسب ذلك.

أقول: في هذا نظر؛ فإن الحجة قد قامت على الكافر، فدل ذلك على كذبه في زعمه أنه يعتقد أن دينه حق.

والكافر الذي بلغته دعوة الإسلام لا يخلو عن واحدة من ثلاثة أمور:

الأول: التقصير في البحث عن الدين الحق.

الثاني: الهوى الغالب.

الثالث: العناد

ولو برئ من هذه الثلاثة لأسلم، قال الله تبارك وتعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }. خاتمة العنكبوت: 68 - 69

وقد اتفقوا على أن من كان مسلما مخالطا للمسلمين، ثم ارتكب كبيرة قد قامت الحجة بأنها كبيرة - كأن ترك صوم رمضان - فهو فاسق، فإن زاد على ذلك فزعم أنه لا حجة عنده على تحريم ما ارتكبه كان مرتدا، وهو في باب الأخبار أسوأ حالا من المسلم المرتكب الكبيرة مع اعترافه بأنها كبيرة.

فإن قيل: إننا نجد من الكفار من يبالغ في تحري الصدق والأمانة حتى إن من يخبر حاله، ويتبع أخباره، قد يكون أوثق بخبره من خبر كثير من عدول المسلمين.

قلت: وكذلك في فساق المسلمين ممن يترك الصلاة المفروضة - مثلا - من يكون حاله في إظهار تحري الصدق والأمانة كحال الكافر المذكور.

وحل الإشكال من أوجه:

الوجه الأول: أن الظاهر من حال الكافر والفاسق الذي يعرف بتحري الصدق أن المانع له من الكذب الخوف من الناس، وحب السمعة الحسنة بينهم، وعلى هذا فهذا المانع إنما يؤثر في الأخبار التي يخاف من اطلاع الناس على جلية الحال فيها، فلا يؤمن ممن هذا حاله أن يكذب إذا ظن أنه لا يوقف على كذبه.

فالعدل في خبر هذا أن يتثبت فيه، فإن ثبت بدليل موثوق به أنه صدق عمل به لذلك الدليل، وإلا اطرح لعدم الوثوق به حينئذ.

الوجه الثاني: أنه لا يستنكر من الشارع أن لا يعتد بصدق مثل هذا؛ لأنه ليس بصدق يحمده عليه الشارع؛ إذ الباعث عليه هو رئاء الناس كما علمت.

الوجه الثالث: أنه لو فرض أنه يحصل من الوثوق بخبره كما يحصل بخبر المسلم العدل، فقد يكون الشارع جعل كفر هذا الرجل أو فسقه مانعا من قبول خبره في الدين زجرا له، وعونا له على نفسه، لعله يستنكف من تلك الحال فيتوب، ورفعا لتلك المرتبة العليَّة - وهي أن يُدان بخبر الرجل - عمن لا يستحقها.

الوجه الرابع: أن السبب الباعث على الحكم قد يكون خفيّا، أو غير منضبط، فإذا كان هكذا فلو كلَّف الشارع الناس ببناء الحكم عليه كان في ذلك مفاسد منها: أنه من باب التكليف بما لا يطاق، ومنها: أنه فتح لباب اتباع الهوى، ولكثرة الاختلاف واتهام الحكام، وغير ذلك.

فاقتضت الحكمة أن يبني الشارع الحكم على أمر آخر يشتمل على ذلك السبب غالبا، ثم تكفل الله عز وجل بتطبيق العدل بقضائه وقدره.

مثال ذلك: أن السبب الباعث على شرع العقوبة على ذنب هو الذنب فإذا شرعت العقوبة على وجهين - مثلا - فإنما ذلك لاختلاف حال ذلك الذنب، فمن ذلك الزنا شرع الحدُ عليه على وجهين:

الأول: الجلد.

الثاني: الرجم.

ولا يخفى أن الجلد أخف من الرجم، وأن حقه أن يكون الرجم عقوبة لمن يكون زناه جرما أغلظ من زنا من عقوبته الجلد، ولكن الغلظ والخفة في الإجرام بالزنا لا ينضبط؛ لأن شديد الشهوة أقرب إلى العذر من ضعيفها، وشدتها وضعفها أمر خفي وغير منضبط، والعاشق أقرب إلى العذر من المتصدي لها، والعاجز عن التزوج بالمرأة أقرب إلى العذر من القادر على زواجها، في أمور أخر.

فلذلك علق الشارع الفرق بالإحصان وعدمه؛ لأن الغالب أن يكون المحصن أضعف عذرا من غيره، على أنه قد يتفق خلاف ذلك، فقد يكون شاب فقير قوي البنية شديد الشهوة عاشقا لإمرأة عاجزا عن التزوج بها، وهو يحبس نفسه عن التعرض لها، والقرب من مكانها، ثم حاول أن يدافع داعيته فتزوج امرأة فقيرة فبات معها ليلة فهلكت، ثم لم يستطع الزواج بغيرها، ولم تزل نفسه متعلقة بمعشوقته، فبينا هو ليلة في خلوة لم يفجأه إلا دخولُ معشوقته عليه، ورميها نفسها بين ذراعيه، فلم يتمالك أن كان ما كان. وآخر غنيٌ ضعيف البنية، ضعيف الشهوة، لم يتزوج حتى شاخ وضعف، فتعرض مرة لامرأة لو شاء لتزوجها، ولكنه لم يلتفت إلى ذلك، بل تبعها ووقع عليها، فظاهرٌ أن ذنب هذا الشيخ الذي لم يحصن أغلظ من ذنب ذلك الشاب الذي قد أحصن بدرجات، ولكن مع ذلك حد الشاب المحصن الرجم، وحد الشيخ الذي لم يحصن الجلد.

إلا أننا نقول: إن الحكمة اقتضت في القانون الكلي أن يناط الفرق بالإحصان وعدمه، والله سبحانه وتعالى هو الرقيب على عباده يطبق العدل بقضائه وقدره، كأن يستر ذلك الشاب، ويفضح هذا الشيخ، أو غير ذلك، فإنه سبحانه بكل شيء خبير، وعلى كل شيء قدير.

ومن ذلك: القاتل إذا تعمد الضرب قد تكون عقوبته الدية، وقد تكون القتل قودا، والمعقول أن جرمه إنما يختلف بأن يكون قصد القتل أو لم يقصده، ولكن قصده القتل أمرٌ خفي لا يعلم كما ينبغي إلا بقوله، والقاتل غالبا يدفع عن نفسه القتل، فهو - وإن قصد القتل - حريٌ بأن يقول لم أقصده، ولا قرائن عامتها تشتبه فناط الشارع الفرق بأقوى القرائن، وهي الآلة، وموضع الضرب بها، فإن كان الضرب في ذلك المكان قبل تلك الآلة من شأنه أن يقتل حكم بالقود؛ إذ الغالب أن القاتل قصد القتل، وإلا فلا، وكأنه - والله أعلم - بناءً على هذا ذهب مالك رحمه الله إلى أن الوالد إذا قتل ولده قتلة شنيعة - كأن أضجعه فذبحه - وجب القصاص، وإلا فلا، كأنه بنى دفع القصاص عن الوالد بأن الغالب أنه لا يقصد القتل، فلم يوجب القصاص عليه إلا في الحال التي يمتنع فيها أن يكون لم يقصد القتل.

هذا وقد يتفق في من حقه - بحكم الشرع - أن يُقاد منه أن لا يكون قصد القتل، وفي من حقه أن لا يقاد منها أنه قصد القتل، فمثل هذا يُطبق الله سبحانه وتعالى العدل فيه بقضائه وقدره.

إذا تقرر هذا فمظنته أن لا يكذب المخبر في خبر عن الشرع مما لا ينضبط، فضبطه الشارع بالإسلام والعدالة، وقد يتفق في المسلم العدل أن يكذب خطا أو عمدا، وفي غيره أن يصدق، ولكن الله تبارك وتعالى يطبق العدل بقضائه وقدره، فيهدي أهل العلم إلى معرفة خطأ ذلك أو عمده، ويغنيهم عن خبر الكافر أو الفاسق بأن ييسر لهم علمه من غير طريقه.

فإن قيل: قد لا يهتدي بعضهم إلى الخطأ وقد لا يقف بعضهم على الطريق.

قلت: إن قصر فهو الموقع نفسه في ذلك، وإن لم يقصر فذلك داخل في تدبير الله عز وجل وتطبيقه العدل، والحكم بقضائه وقدره، والبحث طويل، وفي هذا كفاية.

الباب الثاني: في البلوغ

وأما البلوغ فهو حد التكليف، ولا يتحقق الخوف من الله عز وجل والخوف من الناس إلا بعده؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم فلا يخاف الله عز وجل، وكذلك لا يخاف الناس؛ لأنهم إن ظهروا على كذب منه قالوا: صبي، ولعله لو قد بلغ وتم عقله لتحرز، ومع هذا فلا تكاد تدعو الحاجة إلى رواية الصبي؛ لأنه إن روى فالغالب أن المروي عنه حي فيراجع، فإن كان قد مات فالغالب - إن كان الصبي صادقا - أن يكون غيره ممن هو أكبر قد سمع من ذلك المخبر أو غيره، فإن اتفق أن لا يوجد ذلك الخبر إلا عند ذلك الصبي فمثل هذا الخبر لا يوثق به.

هذا وعامة الأدلة على شرع العمل بخبر الواحد موردها في البالغين.

الباب الثالث: في العقل

وأما العقل فالأمر فيه أظهر إذ المراد هنا أن لا يكون مجنونا، فأما المغفل فيأتي الكلام فيه في الباب الخامس - إن شاء الله تعالى.


الباب الرابع: في العدالة

وأما العدالة فقد قال الله عز وجل: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الحجرات: 6.

وقال سبحانه: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } الطلاق: 2.

وقال تعالى: { يحكم به ذوا عدل منكم } المائدة: 95.

والشهادة والحكم كالإخبار، والأصل اتحاد الحكم فيهما وفي الرواية إلا ما قام الدليل على الإفتراق فيه.

وقد تقدم في الكلام على الشرط الأول ما يتعلق بهذا فلا حاجة إلى إعادته.

هذا والعدالة مصدر عدل الرجل صار عادلا، والعدل في الحكم: الإنصاف فيه: كأنه من عدل الغرارتين على البعير مثلا، أي التسوية بينهما حتى تكونا متعادلتين، فيبقى الحمل معتدلا مستقيما لا ميل فيه، فالعدل في الحكم إذا: أن ننظر ميل المائل عن الحق فيرده إليه، وحاصله أن يتحرى الحق فيقضي به.

فالعدالة إذا هي الاستقامة على حدود الشرع، والفسقُ هو الخروج عن هذه الصفة، قالوا: وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها.

هذا وقد تقرر في أقوال أهل العلم سلفا وخلفا أنّ المعصية الصغيرة لا تقتضي الخروج عن العدالة، وقد قال الله تبارك وتعالى: { ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } النجم: 31 - 32.

فها هنا احتمالان:

الأول: أن يقال: إن الفوسق يختص بالخرج الفاحش، فلا يُسمّى ارتكابُ الصغيرة فسوقا وإن كان عصيانا، وقد يُستدل على هذا بقول الله تبارك وتعالى - بعد آية { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق }: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } الحجرات: 7.

فكما أن الفسوق أعمُّ من الكفر؛ لأن من الفسوق ما هو دون الكفر، فكذلك يظهر أن العصيان أعمّ من الفسوق ما هو دون الكفر، فكذلك يظهر أن العصيان أعم من الف سوق وأن من العصيان ما هو دون الفسوق.

الإحتمال الثاني: أن يقال: الفسوق من الأشياء التي تتفاوت كالعلم مثلا، فكما لا يوصف من علم مسأله أو مسألتين بأنه عالم على الاطلاق، فكذلك لا يوصف من فسق بصغيرة أو صغيرتين بأنه فاسق على الإطلاق.

والآية الأولى وهي قوله تعالى: { إن جاءكم فاسقٌ } إنما بنيت على من هو فاسق لا على من وقع منه فسوق.

وقال الله عز وجل في سورة الحجرات في سياق الآيتين السابقتين وهي { إن جاءكم فاسق } { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } الحجرات: 11.

وقال الله تبارك وتعالى: { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } البقرة: 197.

وقال سبحانه { ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } البقرة: 283.

وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . النور: 4.

لما ذكر الكبيرة الموجبة للحد ورد الشهادة قال تعالى: { وأولئك هم الفاسقون } ولما ذكر ما قد يكون دونها - أي صغيرة - من السخرية بالمسلم ولمزه، ونبزه بلقب، ومضارة الكاتب أو الشاهد، وما قد يقع في الحج من ذلك وما يشبهه سماها فسوقا.

فصل 1

الصحابة

اسم الصحابي يعمُّ الجمهور كلّ من رأى النبي ﷺ مسلما ومات على ذلك.

والمراد رؤيته إياه بعد البعثة وقبل الوفاة.

والاسم يشمل من ارتد بعد وفاة النبي ﷺ ممن كان قد رآه مسلما إذا عاد إلى الإسلام ومات عليه كطليحة بن خويلد، وعيينة بن حصن، وأضرابهما.

لكن قضيته ما نقل عن الشافعي وغيره - من أن الردة تحبط العمل الصالح قبلها ولو عقبتها توبة - أن هؤلاء لاحظ لهم في فضل الصحبة.

وذهب الجمهور إلى أن الصحابة كلهم عدول، قال ابن الأنباري: " وليس المراد بعد التهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف للبحث عن أسباب العدالة والتزكية، إلا أن ثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله ﷺ حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أصحاب السير فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح " فتح المغيث ص378.

وقال الخطيب في الكفاية ص46: " باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤاله عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم.. " فذكر عدة آيات وأحاديث في الثناء عليهم، إلى أن قال: " فهم على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها - من: الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين - القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين ".

أقول أما الآيات فمنها:

1 - { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الحشر آية 8 - 10.

2 - { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة آية: 100.

3 - { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ( 117 ) سورة التوبة

4 - { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } ( 18 ) سورة الفتح

5 - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ( 29 ) سورة الفتح

6 - { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } ( 174 ) سورة آل عمران

7 - { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ( 10 ) سورة الحديد

8 - { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ( 122 ) سورة آل عمران

9 - { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } ( 110 ) سورة آل عمران

10 - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ( 143 ) سورة البقرة

ومن تدبر هذه الآيات وغيرها من القرآن وجد الثناء على المهاجرين عاما سالما من التخصيص، فإذا تتبع السنة أيضا لم يجد ما ينافي ذلك سوى فلتات ربما كانت تقع من بعضهم فلا تضرهم.

فمنا ما جرى منهم يوم بدر من ترجيح أخذ الفداء فأقرهم الله عز وجل عليه وأنزل { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } . الأنفال آية 68 - 69.

ومنها تولي بعضهم يوم أحد فأنزل الله عز وجل { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } آل عمران آية 155.

ومنها قصة مسطح بن أثاثة لما خاض مع أهل الإفك فكان ما كان، وأقسم أبو بكر أن لا ينفق عليه، فأنزل الله عز وجل { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } النور آية 22.

ومنها قصة حاطب بن أبي بلتعة.

وأشد ما وقع من ذلك قصة عبد الله بن أبي سرح مع أنه ليس من المهاجرين الأولين وإنما كان ممن أسلم قبيل الفتح، ثم ارتد، فأمر النبي ﷺ يوم الفتح بقتله فلم يقتل وأسلم.

قال ابن عبد البر: " فحسن إسلامه فلم يظهر منه شيء ينكر عليه بعد ذلك، هو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش " ثم ذكر ولايته مصر وفتحه إفريقية والنوبة، ثم قال " ودعا ربه فقال: اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى الصبح، فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم من يمينه، وذهب يسلم على يساره فقبض الله روحه، ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره ".

ومع ذلك فلم يرد عنه من الحديث شيء إلا حديث واحد قد رواه غيره من الصحابة، ومع ذلك لم يصح السند إليه.

وأما الأنصار فحالهم قريب من حال المهاجرين إلا أنه لم يعم الإيمان جميع الأوس والخزرج بل كان منهم أفراد منافقون.

وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه، لكن أولئك الأفراد كانوا قليلا كما يظهر من الآيات والأحاديث، وكما يعلم ذلك بدلالة المعقول؛ فإنهم لو كانوا هم الأكثر أو كثيرا لكانوا اظهروا كفرهم، ولم يحتاجوا إلى النفاق، ومع ذلك فقد كانوا معروفين عند النبي ﷺ، إن لم يكن علم اليقين فالظن، قال الله عز وجل: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } محمد: 29: 30.

وكانوا مع ذلك خائفين كما قال الله عز وجل فيهم: { يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون } المنافقون آية 4 وكانوا مع ذلك إلى نقص بالهلاك أو التوبة والإخلاص، والغالب على الظن أن من بقي منهم بعد وفاة النبي ﷺ لم يتعرض أحد منهم لأن يذكر عن النبي ﷺ شيئا لخوفهم من المؤمنين، وعلمهم أن أحدهم لو أخبر بشيء عن النبي ﷺ فكذب فيه لأنكره عليه المؤمنون وفضحوه بما كانوا يظنونه من نفاقه، أو لأعلمهم بنفاقه حذيفة أو غيره ممن كان قد أسرّ إليه النبي ﷺ بأسماء المنافقين.

وأما الأعراب فقد قال الله عز وجل: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم } الحجرات آية14.

والظاهر أن أهل هذه الآية آمنوا بعد ذلك أو غالبهم كما تقتضيه كلمة " لما ".

وقد ذكر الله عز وجل فرقهم في سورة التوبة 95: 105 فذكر أن منهم منافقين، ومنهم مؤمنون مخلصون، ومنهم مخلطون يرجى لهم الخير، وقال في آخر ذلك: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } .

ثم ابتلاهم الله عز وجل بعد غزوة العسرة بوفاة رسول الله ﷺ فارتد أقوام من الأعراب فعرفهم المؤمنون حق المعرفة.

وأما الطلقاء من أهل مكة فلم يرتد منهم أحد بعده ﷺ وقد شملتهم بعض الآيات المتقدمة كما يعلم بمراجعتها، وكذلك تشملهم بعض الأحاديث كالحديث المشهور " خير الناس قرني. "

وبالجملة فتعديل الله عز وجل ورسول ثابت للمهاجرين عامة، ولم يجئ ما يخصصه.

وأما الأنصار فالثناء عليهم عام، ولكن قد كان من الأوس والخزرج منافقون لكنهم قليل، ولم يحضر من المنافقين أحد بيعة العقبة، ولا شهد بدرا ولا أحدا فإن كبيرهم اعتزل بهم، والظاهر أنه لم يبايع تحت الشجرة أحد منهم، وقد قيل إنه كان هناك واحد منهم فلم يبايع وقد سمى.

وقول الله عز وجل في ذكر تخلفهم عن غزوة تبوك: { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين } التوبة آية 46: 47. يقتضي أنه لم يشهد تبوك أحد منهم، ولكن روى أن اثني عشر منهم اعترضوا النبي ﷺ مرجعه من تبوك وأرادوا ترديته من العقبة. وقد يقال - إن صح الخبر - لعل هؤلاء لم يشهدوا تبوك، وإنما ترصدوا قدومه ﷺ من تبوك فالتقوه ببعض الطريق لما هموا به، ومع ذلك ففي الخبر أن حذيفة عرف هؤلاء.

هذا وقد سبق أن الظاهر أن من بقي من المنافقين لم يرد عن أحد منهم شيء عن النبي ﷺ.

وأما الأعراب فقد تم امتحانهم بوفاته ﷺ، فمن ثبتت منهم الإسلام فقد ثبتت عدالته، ومن ارتد فقد زالت، فمن عاد بعد ذلك إلى الإسلام فيحتاج إلى عدالة جديدة.

وأما الطلقاء فقد شملتهم بعض الآيات كما عرفت، ولم تقع منهم ردة.

ولو اقتصر المخالف في المسألة على القول بأن من تأخر إسلامه وقلت صحبته يحتاج إلى البحث عنهم لكان لقوله وجه في الجملة، وأوجه من ذلك من كان من الأعراب، ويحتمل أنه ممن ارتد عقب وفاة النبي ﷺ، فأما من علم أنه ممن ارتد فالأمر فيه أظهر.

هذا وقد كان العرب يتحاشون من الكذب، وتأكد ذلك فيمن أسلم، وكان أحدهم - وإن رق دينه لا يبلغ به أن يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وكانوا يرون أن أصحاب رسول الله ﷺ متوافرون، وأنه إن اجترأ أحد على الكذب افتضح.

ولو قال قائل: إن الله تبارك وتعالى منع القوم من تعمد الكذب على نبيه ﷺ بمقتضى ضمانه بحفظ دينه ولا سيما مع إخباره بعدالتهم، لما أبعد.

ومن تدبر الأحاديث المروية عمن يمكن أن يتكلم فيه من الطلقاء ونحوهم ظهر له صدق القوم، فإن المروي عن هؤلاء قليل، ولا تكاد تجد حديثا يصح عن أحد منهم إلا وقد صح بلفظه أو معناه عن غيره من المهاجرين أو الأنصار، وقد كانت بين القوم إحن بعد النبي ﷺ فلو استساغ أحد منهم الكذب لاختلق أحاديث تقتضي ذم خصمه، ولم نجد من هذا شيئا صحيحا صريحا.

وفوق هذا كله فأهل السنة لم يدعوا عصمة القوم، بل غاية ما ادعوه أنه ثبت لهم أصل العدالة ثم لم يثبت ما يزيلها، والمخالف يزعم أنه قد ثبت عنده في حق بعضهم ما يزيل العدالة فانحصر الخلاف في تلك الأمور التي زعمها، فإذا أثبت أهل السنة أنها لم تصح وأن ما صح منها لا يقتضي زوال العدالة استتب الأمر.

فأما من ثبتت شهادة النبي ﷺ له بالمغفرة والجنة فقد تضمن ذلك تعديلهم أولا وآخرا. والله الموفق.

تنبيه: أما الخطأ فقد وقع من بعض الصحابة كقول ابن عمر إن النبي ﷺ اعتمر في رجب وغير ذلك مما يعرف بتتبع كتب السنة.

مسئلة: قال الخطيب في كفاية ص53: " ومن الطريق إلى معرفة كونه صحابيا تظاهر الأخبار بذلك، وقد يحكم بأنه صحابي إذا كان ثقة أمينا مقبول القول إذا قال صحبت النبي ﷺ وكثر لقائي له.. وإذا قال: أنا صحابي ولم نجد عن الصحابة رد قوله ولا ما يعارضه.. وجب إثباته صحابيا حكما بقوله لذلك، أو قول آحاد الصحابة " أقول: فعرف من هذا أن من لم تثبت صحبته إلا بقوله حكمه حكم التابعين في البحث عن عدالته، لأنها لا تثبت صحبته حتى تثبت عدالته.

فصل 2

التابعون

التابعي: من أدرك بعض الصحابة، ورأى بعضهم، وسمع منه سماعا يُعتد به، بأن يكون السامع مميزا، وقيل بل تكفي الرواية مع التمييز.

والذي يظهر في حديث " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم " أن الدخول في الذين يلونهم يشترط فيه زيادة على ما تقدم، قال ابن الأثير في النهاية عن أبي عبيد الهروي " فيه خيركم قرني ثم الذين يلونهم يعني الصحابة ثم التابعون، والقرن أهل كل زمان، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، مأخوذ من الاقتران، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم، وأحوالهم، وقيل القرن: أربعون سنة، وقيل: ثمانون: وقيل: مائة ".

أقول: والقول الثاني كأنه ضابط تقريبي للأول.

هذا والقرون تتداخل - أعني أن القرن الأول إذا أخذ في النقصان أخذ الذي يليه في الزيادة، وهكذا - فقد يقال: إن قرنه ﷺ بقي على الغلبة إلى تمام ثلاثين سنة من الهجرة، ثم أخذ في الضعف، وذلك حين بدأ الناس في الإنكار على أمراء عثمان، وأخذ القرنان يصطرعان، فكان بعد خمس سنين قبل عثمان، وذلك مصداق حديث البراء بن ناجية عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما، قال: فقلت مما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى ". وفي بعض الروايات " مما بقى ".

وروى شريك عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود مرفوعا " إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين، فإن اصطلحوا فيما بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من قبلهم ".

فكان لخمس وثلاثين حصر عثمان، ولم يقم الدين كما ينبغي، إذ لم يصطلحوا على غير قتال، بل كان هلاك بالقتل والفرقة والفتنة، فكان سبيلهم سبيل الأمم الماضية من الاختلاف، ثم تمت الغلبة للقرن الثاني بعد سنوات بقتل أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم بتسليم ابنه الحسن الخلافة لمعاوية، وذلك مصداق حديث سفينة مولى النبي ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك ".

أقول: فتمت الغلبة للقرن الثاني نحو أربعين سنة من الهجرة، فثلاثون سنة فيها كانت للقرن الأول، وعشر بينه وبين الثاني، ثم تمت للقرن الثاني ثلاثون سنة لستين من الهجرة، فكانت ولاية يزيد، ثم قتل الحسين بن علي عليه السلام، وقد صح عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ من عام الستين وإمارة الصبيان فمات قبلها.

ثم كانت وقعة الحرة، وإحراق الكعبة، ثم كان بعد السبعين رمي الكعبة بالمجانيق، وقتل ابن الزبير، واستتباب الأمر لعبد الملك.

وعلى هذا المنوال يكون انتهاء القرن الثاني سنة سبعين، وانتهاء الثالث على رأس المائة.

ومن أسباب الفضل للثاني أنه لم يزل فيهما بقايا من أصحاب النبي ﷺ، ومنتهى ذلك بعد انتهاء المائة بقليل مصداقا لقوله ﷺ قبيل موته: " أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة [ منها ] لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ".

هذا والظاهر أنه يدخل في القرن الأول من أسلم في حياة النبي ﷺ ولم يجتمع به، وكذلك من أسلم بعده بقليل، وكذا من ولد بعده بقليل، بحيث يكون منشؤه في عهد كثرة الصحابة وظهورهم، فإنه يقتدي بهم، ويقتبس من أخلاقهم وآدابهم حتى يستحكم خلقه على ذلك. ولا مانع من أن يكون هؤلاء في القرن الأول وإن لم يكونوا صحابة.

وعلى هذا فالدرجات تتفاوت: فمن ولد بعد وفاة النبي ﷺ أقرب إلى نيل خصائص القرن الأول ممن ولد بعده بخمس سنوات - مثلا - وهكذا، حتى إن من ولد بعده ﷺ بخمس عشرة سنة أقرب إلى القرن الثاني، وقد يكون بعض من يولد متأخرا أمكن في خصائص القرن الأول ممن ولد متقدما لأسباب أخرى، ككثرة مجالسة أفاضل الصحابة وقس على هذا.

ومن استحكمت قوته في عهد القرن الأول فهو منهم وإن بقي إلى القرن الثاني والثالث، وهكذا، وقد يكون هذا هو السر - والله أعلم - وفي الشك في أكثر روايات الحديث وكرر النبي ﷺ " ثم الذين يلونهم " مرتين أم ثلاثا، وذلك أنه بعد انتهاء قرنه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، تبقى جماعة من أهل الثالث يعيشون في الرابع.

هذا وقد احتج بهذا الحديث على أن الظاهر في التابعين وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.

وقد يوجه ذلك بأن الخير لم يرتفع من الأمة جملة بعد تلك القرون، فثناؤه ﷺ عليها، وذمه من بعدها إنما هو بناء على الأغلب، فكأنه يقول: إن غالب أهلها أخيار، وغالب من بعدهم أشرار، وإذا ثبت أن غالبهم أخيار فمن لم يعرف حاله منهم حمل على الغالب.

أقول: وفي هذا نظر من وجهين:

الأول: أنه قد يجوز أن يكون ﷺ راعى الكثرة، فيكون حاصل ذلك أن القرن الأول - وهم الصحابة ومن انضم إليهم - غالبهم عدول، والقرن الثاني نصفهم عدول، والقرن الثالث ثلثهم عدول، والثلث كثير، وأما بعد ذلك فإن العدالة تقل عن ذلك، وعلى تسليم الغلبة في القرن الثاني - ايضا - فقد يكون في الثالث التعادل واستحقوا الثناء لأن شرهم لم يكن أكثر من خيرهم، بخلاف من بعدهم.

الوجه الثاني: أن الغلبة تصدق بخمسة وخمسين في المائة - مثلا - ومثل هذا لا يحصل به الظن المعتبر في أن من لم يعرف حاله من المائة فهو من الخمسة والخمسين، ولو قال المحدث: أكثر مشايخي ثقات لما كان توثيقا لمن لا يعرف حاله منهم.

وتمام هذا البحث يأتي في الكلام على المجهول - إن شاء الله تعالى -

فصل 3

اختلف في حد الكبيرة اختلافا كثيرا، ومن أحب الاطلاع على ذلك فليراجع كتاب الزواجر لابن حجر المكي.

وقد وردت الأحاديث في النص على بعض الكبائر، وثبت بالأدلة أن من الذنوب الأخرى ما هو أشد من بعض المنصوص أو مثله، فالمدار على الاجتهاد.

فصل 4

اشتهر بين أهل العلم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وقال جماعة كالكبيرة في رد الشهادة والرواية، وقيده جماعة بالإصرار على كثير من الصغائر، بحيث تصير معاصي الرجل أغلب من طاعاته، فنص جماعة من الأئمة كالشافعي وغيره على أن من غلبت طاعاته معاصيه فهو عدل، وعبارة الشافعي: " لا أعلم أحدا أعطى طاعة الله حتى لم يخلطها بمعصية الله إلا يحيى بن زكريا عليه السلام، ولا عصى الله فلم يخلط بطاعته، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو العدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح " أسنده الخطيب في الكفاية ص79، وذكر هناك أقوالا أخرى في هذا المعنى، وبسط الخلاف فيه ابن حجر المكي في الزواجر ( 3/187 ).

أقول: قد يصعب الحكم على من يجتنب الكبائر كلها بأن الغالب عليه المعصية، والغالب على من يستكثر من الصغائر إلى ما يقرب هذا الحد أنه لا يسلم من بعض الكبائر، وفي الصحيحين عنه ﷺ " الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالصغائر حمى الكبائر، فمن وقع في الصغائر إلى الحد المتقدم ذكره فالغالب أنه يقع في الكبائر، والله أعلم.

فإن فرض أنه لم يوقف له على كبيرة فقد يقال: يجعل حكمه حكم مرتكب الكبيرة؛ لما تقدم أن الغالب أنه لا يسلم منها.

فصل 5

عدووا مما يسقط العدالة صغائر الخسة، ومثلوه بالتطفيف بحبة، وبسرقة باذنجانة، وكذلك قالوا في الرشوة، وأكل مال اليتيم، والغصب، وجزم كثير بأن هذه كلها كبائر سواء وقعت في كثير أو قليل، راجع الزواجر ( 1/331 ).

أقول: الظاهر أنها كبائر، وعلى فرض أنها صغائر فالغالب أن صاحبها لا يسلم من الكبائر، لأن من لم يمنعه دينه وإيمانه وتقواه من المعصية لتحصيل منفعة تافهة فلأن لا يمنعه ذلك من تحصيل ما هو أعظم منها أولى وأحرى، قال الله تبارك وتعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } آل عمران آية 75، أي أن منهم من هو عظيم الأمانة حتى لا يغلب هواه وشهوته أمانته ولو عظمت المنفعة التي تحصل له بالخيانة، والقنطار جاء عن الحسن البصري أنه ملء مسك ثور ذهبا، ومنهم من ليس عنده من الأمانة ما يغلب به هواه وشهوته في اليسير كالدينار، أي وإذا كان هواه وشهوته يغلبان أمانته في الدينار فأولى من ذلك أن يغلباها فيما هو أكثر منه.

ومما يلتحق بهذا النوع تقبيل الأجنبية، أو معانقتها على رؤس الأشهاد، ويظهر والله أعلم - أنه كبيرة من جهة المجاهرة بالفحش، وفي الصحيحين وغيرهما " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " الحديث وفي المجاهرة بالمعصية عدة مفاسد منها: حمل الناس على فعل مثلها.

وفي صحيح مسلم ".. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".

ومثل هذا الفعل ظاهر في إنتفاء الحياء أو ضعفه، وفي الصحيح " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " ومثل هذا الفعل ظاهر في انتفاء الحياء أو ضعفه.

ومعناه - والله أعلم - إذا فقد الإنسان الحياء صنع ما شاء، أي فالظن به أنه لا يحجم عن ارتكاب كل ما تدعوه إليه نفسه.

فصل 6

اشتهر بين أهل العلم أن مما يخرم العدالة تعاطي ما ينافى المروءة، وقيده جماعة بأن يكثر ذلك من الرجل حتى يصير إخلاله بما تقتضيه المروءة غالبا عليه، قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ليس من الناس أحد نعلمه - إلا أن يكون قليلا - يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئا من الطاعة والمروءة، فإذا كان الغالب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته " مختصر المزني بهامش الأم ( 5/256 ).

أقول: ذكروا أن المدار على العرف وانه يختلف باختلاف حال الرجل وزمانه ومكانه، فقد يعد الفعل خرما للمروءة إذا وقع من رجل من أهل العلم لا إذا كان من فاجر - مثلا - وقد يعد ذلك الفعل من مثل ذلك الرجل خرما للمروءة في الحجاز - مثلا - لا في الهند، وقد يعد خرما للمروءة إذا كان في الصيف لا إذا كان في الشتاء، أو يعد خرما في عصر ثم يأتي عصر آخر لا يعد فيها خرما.

ثم أقول: لا يخلو ذلك الفعل الذي يعده أهل العرف خرما للمروءة عن واحد من ثلاثة أوجه:

الأول: أن يكون - مع صرف النظر عن عرف الناس - مطلوبا فعله شرعا وجوبا أو استحبابا.

الثاني: أن يكون مطلوبا تركه بأن يكون حراما أو مكروها أو بخلاف الأولى.

الثالث: أن يكون مباحا.

فأما الأول فلا وجه للالتفات إلى العرف فيه، لأنه عرف مصادم للشرع، بل إذا ترك ذلك الفعل رجل حفظا لمروءته في زعمه كان أحق بالذم ممن يفعله لمجرد هواه وشهوته.

وأما الثاني فالعرف فيه معاضد للشرع فالاعتداد به في الجملة متجه، إذ يقال في فاعله: إنه لم يستح من الله عز وجل ولا من الناس، وضعف الحياء من الله عز وجل ومن الناس أبلغ في الذم من ضعف الحياء من الله عز وجل فقط، وتقدم حديث " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ".

وأما الثالث فقد يقال: يلتحق بالثاني، إذ ليس في فعل ذلك الفعل مصلحة شرعية، وفيه مفسدة شرعية، وهي تعريض النفس لاحتقار الناس وذمهم.

هذا وقد يقال: إذا ثبت صلاح الرجل في دينه بأن كان مجتنبا الكبائر والصغائر غالبا فقد ثبتت عدالته، ولا يلتفت إلى خوارم المروءة؛ لأن الظاهر في مثل هذا أنه لا يتصور فيه أن يكون إخلاله بالمروءة غالبا عليه، وعلى فرض إمكان ذلك فقد تبين من قوة إيمانه وتقواه وخوفه من الله عز وجل ما لا يحتاج معه إلى معاضدة خوفه من الناس، بل يظهر في هذا أن عدم مبالاته بالناس إنما هو من كمال إيمانه وتقواه.

وأما من كثر منه ارتكاب الصغائر ومع ذلك كثر منه مخالفة المروءة ولم يبلغ أن يقال معاصيه أغلب من طاعاته فهذا محل النظر، وفصل ذلك إلى المعدل: فإن كان يجد نفسه غير مطمئنه إلى صدقه فليس ممن يرضى وقد قال الله عز وجل: { ممن ترضون من الشهداء } .

فصل 7

التفسيق منوط بالإثم، فمن ارتكب مفسقا جاهلا أو ناسيا أو مخطئا فلم نؤثمه لعذره فكذلك لا نفسقه.

راجع كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الأم ( 6/310 ).

فصل 8

ما تقرر في الشرع أنه كبيرة إذا وقع من الإنسان فلتة، كمن أغضبه إنسان فترادا الكلام حتى قذفه على وجه الشتم ففي الحكم بفسقه نظر لأن مثل هذا لا يوجب سوء ظن الناس بالمشتوم، فإن سامع مثل هذا قد يفهم منه الشتم فقط، لا أن الشاتم يثبت نسبة الفاحشة إلى المشتوم.

والذي يدفع الإشكال من أصله أن يتوب ويستغفر، فعلى فرض أنها كبيرة فقد تاب منها، وقد تقرر في الشرع أن التوبة تجب ما قبلها، وأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي داود الطيالسي عن شعبة أنه ذكر أبا الزبير: محمد بن مسلم بن تدرس وسماعه منه قال: " فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فرد عليه، فافترى عليه فقلت له: يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟! قال: إنه أغضبني، قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟! لا رويت عنك شيئا " ذكر هذا في ترجمة أبي الزبير في التهذيب، لكن قال في ترجمة محمد بن الزبير التميمي: " وأسند ابن عدي من طريق أبي داود الطيالسي قلت لشعبة: ما لك لا تحدث عن محمد بن الزبير؟ فقال: مر به رجل فافترى عليه، فقلت له، فقال: إنه غاظني ".

واتفاق القصة لكل من الرجلين: محمد بن الزبير، ومحمد بن مسلم بن الزبير ليس بممتنع، لكن تقارب الاسمين يقرب احتمال الخطأ، والله أعلم.

وفي ترجمة أبي حصين: عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي في التهذيب: " وقال وكيع: كان أبو حصين يقول: أنا أقرأ من الأعمش، فقال الأعمش لرجل يقرأ عليه: اهمز الحوت، فهمزه، فلما كان من الغد قرأ أبو حصين قرأ في الفجر نون فهمز الحوت، فقال له الأعمش لما فرغ: أبا حصين كسرت ظهر الحوت فقذفه أبو حصين، فحلف الأعمش ليحدنه، فكلمه فيه بنو أسد فأبى، فقال خمسون منهم فغضب الأعمش وحلف أن لا يساكنهم وتحول عنهم ".

أقول: هذه الرواية منقطعة؛ لأن أبا حصين توفي قبل مولد وكيع أو بعده بقليل على اختلاف الروايات في ذلك.

فإن صحت فهمز الحوت معناه أن يقال: " حؤت " بهمزة بدل الواو، وهي لغة قد قرأ ابن كثير { بالسؤق والأعناق } قالوا: " وكان أبو حية العميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة " روح المعاني ( 7/354 ).

فكأن أبا حصين ظن أن مراد الأعمش بقراءة " الحؤت " مهموز إظهار أنه يعرف ما لا يعرف غيره فقرأ بها أبو حصين إعلاما بأنه يعرفها.

فأما القذف فلم يرد به أبو حصين الإثبات، وإنما هو شتم جرّ إليه الغضب، ولم يلتفت أحد من أئمة الحديث والفقه إلى هذه القصة، بل احتجوا بأبي حصين، وأطالوا الثناء عليه.

فصل 9

في المبتدع

البدعة التي جرت عادتهم بالبحث عن صاحبها عند الكلام في العدالة هي البدعة في الاعتقاديات وما بني عليها أو ألحق بها.

وأهل العلم مختلفون في هذا الضرب من البدعة أن يكون جرحا في عدالة صاحبه والذي يظهر لي أنه ينبغي أولا النظر في أدلة تلك المقالة، ثم في أحوال الرجل وأحوال عصره وعلاقته بها، فإن غلب على الظن بعد الإبلاغ في التثبت والتحري أنه لا يخلوا إظهاره تلك المقالة عن غرض دنيوي: من عصبيته، أو طمع في شهرة، أو حب دنيا، أو نحو ذلك فحقه أن يطرح، وكذلك إن احتمل ذلك احتمال ذلك احتمالا قويا بحيث لا يغلب على ظن العارف به تبرئته مما ذكر.

وإن ظهر أنما أدّاه إليها اجتهاده، وابتغاؤه الحق، وأنه حريص على إصابة الحق في اتباع الكتاب والسنة فلان ينبغي أن يجرح بمقالته، بل إن ثبتت عدالته فيما سوى ذلك، وضبطه، وتحريه، نظر في درجته من: العلم، والدين، والصلاح، والتحري، والتثبت فإن كان عالي الدرجة في ذلك احتج به مطلقا وإلا فقد قبل منه ما لا يوافق مقالته، ويتوقف عما يوافقها لموضع التهمة.

وليس هذا بشيء؛ لأنه إن كان حقيقا بأن يتهم في شيء من روايته مما ينافي العدالة فلم تثبت عدالته، وقد شرحت هذا في التنكيل.

فصل 10

في المعدل والجارح

أما المعدل فشرطه أن يكون في نفسه بالغا، عاقلا، عدلا، عارفا بما يثبت العدالة وما ينافيها، ذا خبرة بمن يعدله، ولابد أن يكون متيقظا، عارفا بطباع الناس وأعرافهم.

وهل يكفي الواحد؟ اختلف في ذلك:

فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لابد من ثلاثة، واحتج بما في صحيح مسلم من حديث قبيصة بن المخارق عن النبي ﷺ " إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة... ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ".

قال أبو عبيد: " وإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى " فتح المغيث ص123.

أقول: ومما يساعده أن العدالة تتعلق بما يخفى من حال الإنسان كالحاجة.

ولكن يرد عليه أمور منها:

أن هذا الحديث تفرد به عن قبيصة: كنانة بن نعيم، ولم يعدله ثلاثة.. وإنما قال ابن سعد: " فهو معروف ثقة إن شاء الله " فلم يجزم، ووثقه العجلي، وسيأتي في بحث المجهول أن في توثيقه نظرا، وأن مذهبه قريب من مذهب ابن حبان، ووثقه ابن حبان، ومذهبه معروف في التسامح، ويأتي بيانه - أيضا - فإذا عددنا إخراج مسلم لحديثه توثيقا فلم يسلم له إلا مسلم.

الأمر الثاني: أن هؤلاء كلهم لم يدركوا كنانة، وإنما وثقوه بناء على مذاهبهم: أن من روى عنه الثقات، ولم يجرح، ولم يأت بمنكر، فهو ثقة، وسيأتي الكلام في هذا - إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث: ظاهر الحديث أنه لا يحل للمحتاج المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فيخبرون أنه نزلت به فاقة، ولا يعرف أحد قال بهذا، بل مدار الحل عند أهل العلم على نفس الحاجة، فإن احتاج في نفسه إلى المسألة حلت له، ولا نعلم أحدا تكلف العمل بهذا، وليس هذا من رد السنة بعدم العمل بموافق لها، أو عامل بها، وإنما المقصود أن مثل هذا قد يستنكر فيصير الحديث منكرا، فيقدح في راويه - أعني كنانة بن نعيم - مع قلة ماله من الحديث، ومع أنه في حديثه هذا شيء من الاختلاف: فرواه حماد بن زيد عن هارون بن رئاب عن كنانة كما مر.

ورواه ابن عيينة عن هارون فقال في أوله: " إن المسألة لا تصلح " وقال مرة: " حرمت " أخرجه أحمد في المسند ( 3/475 ).

ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب عن هارون فلم يذكر محل الشاهد أصلا، بل قال: " إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة.. ورجل أصابته فاقة فيسأل حتى يصيب قواما من عيش " أخرجه أحمد في المسند ( 5/60 ).

الأمر الرابع: أن مقتضى حمل الشاهد والمخبر على المحتاج أن لا يحل أن يشهد أحد أو يخبر حتى يعدله ثلاثة، وهذا لا قائل به، ولا يعلم واحد فضلا عن ثلاثة عدل كنانة قبل أن يخبر.

الأمر الخامس: أن الأولوية التي ادعاها أبو عبيد غير ظاهرة، بل الصواب عكس ما قال، وبيان ذلك أن الحكمة في تحريم المسألة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قوم من يريد المسألة هي أولا: منع أهل الستر عن المسألة بدون حاجة، لأن أحدهم يرى أنه لو استشهد ثلاثة من قومه لا يشهدون له، وإن أقدم على المسألة بدون شهادة كان عند الناس أنه أقدم على محرم، وهو يكره ذلك محبة الستر.

وثانيا: شرع طريق يرجى أن يستغني بها المحتاج من أهل الصلاح أو الستر، فلا يحتاج إلى المسألة البتة، وإيضاحه أنه لا يقدم على المسألة بدون استشهاد فيضطر إلى أن يطالب ثلاثة من ذوي الحجا من قومه بأن يشهدوا له، ولا ريب أنهم إذا علموا حاجته وجب عليهم أحد أمرين: إما أن يقوموا فيشهدوا، وإما أن يواسوه من أموالهم بما يغنيه عن المسألة، ولعل هذا الثاني يكون أيسر عليهم، لأنهم يرون أن اقتصارهم على أن يقوموا فيشهدوا يحمل الناس على أن يرموهم باللؤم، ويقول الناس: أما كان في أموال هؤلاء الثلاثة متسع لأن يواسوا ابن عمهم بما يسد فاقته إلى أن يجد قواما من عيش؟! ولهذا - والله أعلم - شرط في الحديث أن يكونوا من قومه، وأن يكونوا من ذوي الحجا، وأن يكونوا ثلاثة؛ لأن الغالب أن الثلاثة لا يكونون كلهم فقراء أو لؤماء.

وعلى فرض أنهم قاموا فشهدوا فالغالب أن قومه عندما يسمعون شهادة الثلاثة من ذوي الحجا فيهم يجمعون له ما يكفيه بدون أن يحتاج إلى مسألة، وعلى هذا فقد أغنى الله عز وجل ذلك المحتاج بدون مسألة؛ لأن مطالبة الثلاثة بأن يشهدوا ليس مسألة لهم، وإظهاره الحاجة ليس بمسألة صريحة، وإظهاره العزم على المسألة ليس بمسألة فتدبر، وليس في الشهادة والإخبار أثر لهذا المعنى، على أن المحتاج مضطر إلى أن يستشهد الثلاثة، فلا يكون في اشتراط ذلك مفسدة، والشاهد والمخبر غير مضطرين إلى الشهادة والإخبار، بل إن شروط أن يتقدم تعديل الثلاثة على الشهادة والإخبار - ما هو مقتضى حملهما على المسألة كما مر - وجد الشاهد عذرا لعدم حضوره إلى الحاكم، وأما المخبر فيجد عذرا لكتمانه العلم.

وقال جماعة: لا بد من اثنين، قال السخاوي في فتح المغيث ص123: حكاه القاضي أبو بكر بن الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم؛ لأن التزكية صفة فيحتاج في ثبوتها إلى عدلين. كالرشد والكفاءة وغيرهما، وقياسا على الشاهد بالنسبة لما هو المرجح فيها عند الشافعية والمالكية بل هو قول محمد بن الحسن واختاره الطحاوي وعارض الخطيب في الكفاية ص47 هذا القياس بقياس آخر حاصله أنه لا يكفي في شهود الزنا إلا أربعة، ومع ذلك اكتفى في إثبات الإحصان الذي به ثبت الرجم باثنين، وقد اكتفى في الأخبار بواحد، والعدالة صفة كالإحصان، فيجب أن يكتفي في إثباتها بدون ما اكتفى به في الأخبار، إلا أنه غير ممكن وكأن الخطيب عدل عما هو أوضح في هذا خوف النقض؛ وذلك أن أوضح من هذا أن يقال: لم يكتف في عدد شهود الزنا بأقل من أربعة واكتفى في عدد مزكيهم باثنين وواحد عند " قوم " فقياس ذلك أن يكفي في عدد مزكى المخبر دون ما يكفي في عدد المخبر، ونقضه أن يقال: قد اكتفى قوم في الأموال بشاهد ويمين، ولم يكتفوا في تعديل هذا الشاهد إلا باثنين اتفاقا، وهذا كله حجاج، والصواب إنما هو النظر في النصوص، فإن وجد فيها دلالة بينه، فذاك، وإلا نظر في التعديل أشهاده هو أم خبر، أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر، فإن تعين واحد من هذه الثلاثة فذاك، وغلا نظر في الحكمة التي لأجلها فرق الشارع بين الشهادة والخبر، ثم ينظر في التعديل " أمثل " الشهادة في تلك الحكمة، أم كالخبر، فهذه ثلاثة مسالك.

فأما النصوص فهاكها فمنها حديث الصحيحين عن أنس في الثناء على الميت وفيه " مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي ﷺ: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنه وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض ".

" ولهما من طريق أبي الأسود عن عمر نحو هذه كقصته فقال أبو الاسود: فقلت: وماوجبت ياأمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي ﷺ: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا أو ثلاثة؟ قال: وثلاثة فقلنا أو اثنان؛ قال: واثنان ثم لم نسأله عن الواحد ".

فورد تفسير هذا بما رواه أحمد وابن حبان والحاكم في حديث أنس مرفوعا " ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون " ذكره الحافظ في الفتح وإيضاحه أن في الصحيحين. أيضا عنه ﷺ " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " وعقبه البخاري بحديث ابن عمر مرفوعا " يدنوا أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه ثم يقول: عملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول: عملت كذا وكذا فيقول: نعم فيقرره ثم يقول إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم ".

وفي معنى هذا أحاديث أخرى في أن من ستره الله عز وجل من المؤمنين في الدنيا لم يفضحه في الآخرة.

ومن السر في ذلك والله أعلم؛ أن الإنسان إذا أظهر المعصية كان ذلك مما يجرئ الناس عليها أولا: لأنه يكثر تحدثهم بها فتتنبه الدواعي إلى متعها، وقد قال الله تبارك وتعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } النور آية 19.

وثانيا: لأنه إذا لم يُعاجل بالعقوبة هانت على الناس.

ثالثا: لأن العاصي يتجرأ على المعاصي بعد ذلك؛ لأنه كان يخاف أولا على شرفه وسمعته وبعد الفضيحة لم يبق ما يخاف عليه، بل يقول كما تقول العامة: " يا آكل الثوم كل وأكثر ".

رابعا: أنه يحرص على أن يدعو الناس إلى مثل فعله، ليشاركوه في سوء السمعة فتخف الملامه عنه.

خامسا: نخرج بذلك عن قول الله عز وجل { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } آل عمران آية 110 لأنه إن أمر بمعروف أو نهى عن المنكر قيل له: ابدأ بنفسك ألم تفعل كذا وكذا؟!.

سادسا: يكون سببا لعدم إفادة أمر غيره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن من يؤمر أو ينهي يقول: لستُ وحيدا في هذا، قد فعل فلان كذا وفلان كذا، وأنا واحد من جملة الناس.

سابعا: أن ذلك يقلل خوف الناس من الله عز وجل، يقول أحدهم: أنا من جملة عباد الله العاصين هذا فلان وهذا فلان وذاك فلان، وقد تقدم في فصل ( 5 ) حديث " ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ".

وفي الصحيحين " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل ".

وقد قال الله عز وجل { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون } النحل آية 25.

وقوله " بغير علم " يصح أن يكون حالا من الفاعل والمفعول معا فيدخل فيه أن المتبوع يحمل من أوزار من تبعه وإن لم يعلم بأنهم يتبعونه كما أن ابن آدم الأول لم يكن يعلم بمن سيستن به في القتل، وليس ما تقدم بمخالف لقول الله عز وجل { ألا تزر وازرة وزر أخرى } النجم آية 38. وما في معناها لأن التحقيق أن المتبوع إنما عذب بوزره. وبيان ذلك أن أصل الإثم في المعصية منوط بتعمدها، وأما زيادة قدره فمنوط بما ينشأ عنها في المفاسد، ألا ترى لو أن ثلاثة صوبوا بنادقهم إلى ثلاثة قاصدين رميهم، ثم أطلقوا بنادقهم أن أصل الاجرام قد وقع من كل منهم، وأما زيادة مقداره فموقوف على ما ترتب على ذلك الفعل فلو أخطأ أحدهم واصاب آخر فجرح وأصاب الثالث فقتل، لكان جرم الثالث أغلظ من جرم الثاني وجرم الثاني أغلظ من جرم الأول.

وقد حرم الله عز وجل ما حرم ولم يفصل ما يترتب على المحرمات من المفاسد فمن علم بالتحريم ثم أقدم على الفعل فقد التزم ما يترتب عليه من المفاسد فدخلت كلها في وزره وإن لم يعلم بتفصيلها فتدبر.

هذا وقوله ﷺ إن الله عز وجل يقول: " وغفرت له ما لا يعلمون " ظاهر في أن شهادتهم إنما تنفع إذا كانت مطابقة لعلمهم لأنه إنما يغفر له ما لا يعلمون فإن كانوا علموا شرا فكتموه وقالوا: لم نعلم إلا خيرا أو نحو ذلك، لم ينفعه ذلك، بل يضرهم لأنهم شهدوا زورا، وبناء النبي ﷺ الحكم على ثناء الناس بقوله: " وجبت " صريح في أن الذين أثنوا كانوا عدولا عنده ﷺ. فبنى على أن شهادتهم مطابقة للواقع في أن الذي أثنوا عليه خيرا لم يظهر منه للناس إلا خيرا.

وإذا كان الإنسان بحيث لا يظهر منه لجيرانه الأدنين ونحوهم من أهل الخبرة إلا الخبرة الخير العدل، والمثنى عليه منهم بذلك معدل له، فالمثنون على الميت من جيرانه وأهل الخبرة به معدلون له، وقد نص في الحديث على أنه يكفي في ذلك الأربعة، ويكفي الثلاثة، ويكفي الاثنان، ففي هذا دليل واضح على كفاية الاثنين في التعديل.

ويبقى النظر في الواحد فقد يقال: قد ثبت في حديث جابر وغيره أنه كان للصحابة رضي الله عنهم أن يراجعوا النبي ﷺ مرتين، فإذا قال الثالثة، لم يكن لهم أن يراجعوه بعدها، وشواهد هذا في الأحاديث كثير، فابتداؤه ﷺ بذكر الأربعة يشعر بالني عن السؤال عن الواحد؛ وذلك أنه ﷺ لعله إنما ابتدأ بالأربعة مستشعرا أنهم سيراجعونه فيسألونه عن الثلاثة، ثم راجعونه ثانية فيسالونه عن الاثنين، ثم يقفون؛ لما تقرر عندهم من المنع عن المراجعة فوق اثنتين.

وفي هذا دلالة ما على أن ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر مما تقدم أنها تجب لمن لم يظهر منه إلا الخير وإن لم يثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما هي لحكم من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله ﷺ " وجبت ".

وقد يحتمل أن الشهادة تنفع، فمن لم يشهدوا له في الدنيا، وكان في نفسه لم يظهر للناس منه إلا الخير، فيحتاج في الآخرة إلى أن يسأله الله عز وجل، كما في حديث ابن عمر المتقدم ثم يقول له: " اني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم " ومن شهدوا له لم يحتج إلى هذا السؤال والعلم عند الله عز وجل.

وقد يقال: إن قول عمر " ثم لم نسأله عن الواحد " يشعر بأنه لم يفهم من الحديث أن الواحد لا يكفي، وأقول: إذا صح أن في الحديث إشارة إلى ذلك لم يضرها أن يتردد فيها الصحابي. لكن لقائل أن يقول: فسلمنا اشارة ما إلى أنه لا يكفي ثناء الواحد على الميت في الحكم له بالجنة، ولكن لا يلزم من هذا عدم الاكتفاء بتعديل الواحد للشاهد والمخبر، فإن الحكم للميت بالجنة لا ضرورة إليه ولا كبير حاجة. فإذا كان من أهل الجنة ولم يحكم له [ الناس بأنه من أهلها ] لم يترتب على ذلك مفسده بخلاف الشهادات والأخبار فإن الضرورة فيها قائمة وفي رد شهادة العدل وخبر الصادق ما لا يخفى من المفاسد. فتأمل.

ومن النصوص ما وقع في قضية الإفك من سؤال النبي ﷺ أسامة عن عائشة فأخبر أنه لا يعلم إلا خيرا وكذلك سأل بريرة وسأل أيضا زينب بنت جحش وكلتاهما أثنت خيرا وبنى النبي ﷺ على ذلك قوله على المنبر " من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ".

وفي الاحتجاج بهذا نظر؛ لأن النبي ﷺ كان هو نفسه خبيرا بعائشة وإنما ستظهر بسؤال غيره؛ لئلا يقول المنافقون: إن محبته إياها ( والعياذ بالله )..

وهذا والله أعلم من الحكمة في تأخير الله عز وجل إنزال برائتها.

وقال البخاري في الصحيح: " باب إذا زكى رجل رجلا كفاه وقال أبو جميلة: وجدت منبوذا فلما رآني عمر قال: عسى الغوير أبؤسا كأنه يتهمني. قال عريفي: إنه رجل صالح قال: كذلك، اذهب وعلينا نفقته ". وهذا الأثر أخرجه مالك في الموطأ وفيه بعد قوله " كذلك " قال نعم. فقال عمر: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته والحجة فيه أن عمر قبل تعديل العريف وحده وبنى على ذلك تصديق أبي جميلة في أن ذلك الطفل كان منبوذا، وأقره في يده، ولا يقر اللقيط إلا في يد عدل، وحكم له بولائه، وأنفق عليه من بيت المال، وقد أجيب على هذا بأنه مذهب لعمر مع أن أبا جميلة إما صحابي وإما من كبار التابعين، فلا يلزم من الاكتفاء في تعديله بواحد أن يكتفي بذلك فيمن بعد ذلك، وهذا الجواب ضعيف، والظاهر أن هذا مذهب عمر فإن لم يكن في النصوص ما يخالفه ولا نقل عن الصحابة ما يحالفه صح التمسك به.

ثم ذكر البخاري في الباب حديث أبي بكرة " أثنى رجل على رجل عند النبي ﷺ فقال ويلك قطعت عنق صاحبك مرارا " ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محاله فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه؛ ولا أزكى على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه ".

قال ابن حجر في الفتح: " ووجه احتجاجه بحديث أبي بكرة أنه ﷺ اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد؛ لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح، واعترضه ابن المنير بأن هذا القدر كاف في قبول تزكيته، وأما اعتبار النصاب فمسكوت عنه، وجوابه أن البخاري جرى على قاعدته بأن النصاب لو كان شرطا لذكر، إذ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة ".

أقول لا يخفى حال هذا الجواب فإنه ليس في الحديث أن الممدوح شهد أو أخبر ولا أن النبي ﷺ بنى على مدح المادح حكما يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل.

نعم الأشبه بدقة نظر البخاري رحمه الله تعالى، ولطف استنباطه، إذ فهم من قول النبي ﷺ للمادح " قطعت عنق صاحبك " ثناء على الممدوح؛ فإن قطع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي " إن الآفة على الممدوح أنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا، أو يتكل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأن الذي يستمر على العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا " ذكره في الفتح.

فكأن البخاري رحمه الله فهم أن المدح إنما يقطع عنق من له عنق والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله ﷺ " قطعت عنق صاحبك " دلالة على أنه ﷺ قضى بأن للممدوح عنقا يخشى أن يقطعها المادح بمدحه، والعنق هي العدالة فقد تضمن ذلك القضاء بأن الممدوح عدل، وهذا على لطفه لا يكفي للحجة وفيه بعد.

ذلك أنه ليس في الحديث أنه ﷺ لم يكن يعرف الممدوح، حتى يقال إنه إنما أثبت له سلامة العنق بثناء ذلك المادح.

وأما المسلك الثاني: فالأقرب أن تزكية الشاهد شهادة، وأما تزكية المخبر فإن كانت ممن جاوره أو صحبه مدة فالظاهر أنها خبر، وإن كانت ممن تأخر عليه كتعديل الإمام أحمد لبعض التابعين فقد يقال إنها حكم، لأن أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأمه لبيان أحوال الرواة ورواياتهم، وقد يقال إنها فتوى لأنها خبر عما أدى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكما شرعيا. فتبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى.

والأقرب أنها خبرا أيضا.

وأما المسلك الثالث: فقد شرحت في رسالة الإحتجاج بخبر الواحد بعض ما ظهر لي من الحكمة في أنه لا يكفي في الزنا أقل من أربعة شهود، وفي الدماء وغيرها بشاهدين، وفي الأموال بشاهدين، ويمين المدعى عند قوم، والإكتفاء في الخبر بواحد والذي يظهر من ذلك أن تعديل الشاهد كالشهادة بالدماء ونحوها في أنه لا يكفي إلا اثنان، وأن تعديل المخبر كالخبر.

وعلى كل حال فخبر من عدله اثنان أرجح من خبر من لم يعدله إلا واحد، وإن قامت الحجة بكل منهما، والله أعلم.

هذا كله حال المعدل، فأما الجارح. فشرطه أن يكون عدلا، عارفا بما يوجب الجرح إن جرح ولم يفسر وقلنا بقبوله. واشترط بعضهم أيضا أن لا يكون بينه وبين المجروح عداوة دنيوية شديدة، فإنها ربما أوقعت في التحامل ولا سيما إذا كان الجرح غير مفسر، وزاد غيرهم العداوة الدينية. كما يقع بين المختلفين في العقائد، وقد بسطت القول في ذلك في ( ) والكلام في عدد الجارح كما مر في المعدل.

فرع

تقدم أن من شرط المعدل أن يكون ذا خبرة بمن يعد له وذكروا أن الخبرة تحصل بالجوار أو الصحبة أو المعاملة ولا شك أنه لا يكفي جوار يوم أو يومين وكذلك الصحبة وكذا المعاملة لا يكفي فيها أن يكون قد اشترى منه سلعة وسلعتين بل لا بد من طول الجوار أو الصحبة أو المعاملة مدة يغلب على الظن حصول الخبرة فيها والمدار في ذلك على غلبة ظن المزكي الفطن العارف بطباع الناس وأغراضهم.

واشتراط الخبرة بهذا التفصيل في مزكي الشاهد لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في تزكية الرواة، فإن ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدمين غالبا من كلام من لم يدركهم بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلم في التابعين فيوثق ويضعف، قد يتوهم من لا خبرة له أن كلام المحدث فيمن لم يدركه إنما يعتمد النقل عمن أدركه فالمتأخر ناقل فقط أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل، وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل فإن المتأخر يذكره، فإن لم يذكره مرة ذكره أخرى أو ذكره غيره والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم " ثقة " أو " ضعيف " أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقل يوافق ذاك الحكم أم لا وكثيرا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم، واعتمادهم في اجتهادهم على طرق:

الطريقة الأولى: النظر فيمن روى عن الرجل فإن لم يرو عنه إلا بعض المتهمين كابن الكلبي والهيثم بن عدي طرحوه ولم يشتغلوا به، وإن كان قد روى عنه بعض أهل الصدق نظروا في حال هذا الصدوق فيكون له واحدة من أحوال:

الأولى: أن يكون يروي عن كل أحد حتى من عرف بالجرح المسقط.

الثانية: كالأولى إلا أنه لم يرو عمن عرف بالجرح المسقط.

الثالثة: كالأولى إلا أنه لم يعرف بالرواية عمن عرف بالجرح وإنما شيوخه بين عدول ومجاهيل، والمجاهيل في شيوخه كثير.

الرابعة: كالثالثة إلا أن المجاهيل من شيوخه قليل.

الخامسة: أن يكون قد قال " شيوخي كلهم عدول " أو " أنا لا أحدث إلا عن عدل ".

فصاحب الحال الأولى لا تفيد روايته عن الرجل شيئا، وأما الأربع الباقية فإنها تفيد فائدة ما، تضعف هذه الفائدة في الثانية ثم تقوى فيما بعدها على الترتيب فأقوى ما تكون في الخامسة.

الطريقة الثانية: النظر في القرائن كأن يوصف التابعي بأنه كان من أهل العلم أو من سادات الأنصار أو إماما في مسجد النبي ﷺ، أو مؤذنا لعمر أو قاضيا لعمر بن عبد العزيز أو ذكر الراوي عنه أنه أخبره في مجلس بعض الأئمة وهو يسمع كما قال الزهري.

وعكس هذا أن يوصف الرجل بأنه كان جنديا أو شرطيا أو نحو ذلك من الحرف التي يكثر في أهلها عدم العدالة.

الطريقة الثالثة: وهي أعم الطرق، اختبار صدقة وكذبه بالنظر في أسانيد رواياته، ومتونها مع النظر في الأمور التي قد يستفاد منها تصديق تلك الروايات أو ضعفها.

فأما النظر في الأسانيد، فمنه أن ينظر تاريخ ولادته. وتاريخ وفاة شيخه الذي صرح بالسماع منه. فإن ظهر أن ذلك الشيخ مات قبل مولد الراوي، أو بعد ولادته بقليل بحيث لا يمكن عادة أن يكون سمع منه ووعى كذبوه ومنه أن يسأل عن تاريخ سماعه من الشيخ، فإذا بينه وتبين أن الشيخ قد كان مات قبل ذلك، كذبوه.

ومنه أن يسأل عن موضع سماعه من الشيخ، فإذا ذكر مكانا يعرف أن الشيخ لم يأته قط، كذبوه، وقريب من ذلك أن يكون الراوي مكيا لم يخرج من مكة وصرح بالسماع من شيخ قد ثبت عنه أنه لم يأت مكة بعد بلوغ الأول سن التمييز وإن كان قد أتاها قبل ذلك.

ومنه أن يحدث عن شيخ حي فيسأل الشيخ عن ذلك فيكذبه.

فإذا لم يوجد في النظر في حاله وحال سنده ما يدل على كذبه، نظر في حال شيوخه المعروفين بالصدق، مع الشيوخ الذين زعم أنهم سمعوا منهم على ما تقدم. فإذا كان قد قال حدثني فلان أنه سمع فلانا فتبين بالنظر أن فلانا الأول لم يلق شيخه كذبوا هذا الراوي، وهكذا في بقية السند.

لكن إذا وقع شيء من هذا، ممن عرفت عدالته وصدقه وكان هناك مظنة للخطأ حملوه على الخطأ وقد يختلفون، فيكذبه بعضهم، ويقول غيره إنما أخطأ هو أو شيخه أو سقط في الإسناد رجل، أو نحو ذلك.