قلت المدون قابلني هذا المقال فأستحسنت عرضه عليكم من موقع الالوكة
ملامح كلية من منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح
والتعديل
قال صاحب البحث ملخص البحث:
يتناول هذا البحث موضوعاً من موضوعات علم الحديث درايةً؛ إذ هو بمنزلة محاولة لدراسة منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل، وذلك عن طريق ذكر كليَّاتٍ مؤصَّلة - أو ملامح كليَّة - يمكن الولوج عبرها إلى جزئيات هذا المنهج ودقائقه.
وقد ذكرت فيه ثلاثة عشرة لمحة من هذه الملامح الكلِّية، مع ذكر بعض الجزئيَّات المؤيَّدة بتطبيقات كافية من كلام الحافظ أبي حاتم في الرواة، كما ذكرتُ بعض المصطلحات النادرة التي استعملها أبو حاتم، ومصطلحات أخرى قد يخفى مراده بها؛ لاتساع معناها عنده، وذلك بقصد معرفة عرفه فيها ودلالتها عنده، وقد تقدَّم هذا كله التعريف بهذا الإمام، وذلك بذكر اسمه ونسبه، ونشأته وطلبه للعلم، وأشهر شيوخه وتلاميذه، ورحلاته، وأقوال العلماء فيه، وآثاره، بما يبرز مكانته وإمامته في النقد وغيره، ويفيه بعض حقِّه من الدراسة.
المقدمة:
أحمد الله تعالى حمداً يليق بجلاله، وأشكره سبحانه شكراً يكافئ إنعامه وامتنانه، وأصلِّي وأسلِّم على أفضل خلقه، وخاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وبعد:
فإنه لم يكن في أمة من الأمم - منذ خلق الله آدم - أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة؛ بما حباها الله وخصَّها من علم الإسناد والرواية، وجعل هذا سلَّماً إلى الفهم والدِّراية.
ونظراً لأهمية علم الإسانيد ومعرفة رواة الأخبار وناقلي الآثار في حفظ الشريعة، ومعرفة المقبول من المردود من السنَّة؛ فقد هيأ الباري عزَّ وجلَّ في كل عصر وفي كل مِصْر منذ القرن الأول جهابذةً من الأئمة النقَّاد الأتقياء الأمناء، ينتظمون في طبقات متلاحقة، أو هم أشبه ما يكونون بحلقات السلسلة المتداخلة، أو الدرر المنتظمة في العِقْد الواحد، يسلك لاحقُهم مسلكَ سابقهم في جمع السنن، وانتقاء الرجال، وانتقادهم، ومعرفة ما لهم وما عليهم من التعديل أو التجريح.
وقد كان الإمام أبو حاتم الرازي أحد الأركان المبرَّزين، ضمن طبقة هي من أشهر تلك الطبقات المتتابعة المنتظمة في هذه المسيرة النقديَّة المباركة، وذلك في مطلع المئة الثالثة، وكان بروز هذا الإمام واشتهاره بين أقرانه كامناً في ما يلي:
1- نباهته، وقوة حافظته، مع صدق النية، وسلامة المعتقد، وحسن الطويَّة.
2- كثرة تجواله؛ فقد طوَّف البلاد، والتقى الكبار، غير مبالٍ بالمخاطر والصعاب.
3- حرصه الشديد على جمع الحديث، ومعرفة التصحيح والتعليل، والجرح والتعديل، مما جعله بارعاً في كل هذا، مشاراً إليه من بين أقرانه، ملقَّباً ب-(أمير المؤمنين في الحديث) كما في ترجمة الحافظ ابن ديزيل عند الذهبي [1، ج-13، ص189].
4- كلامه في أكثر الرواة تعديلاً وتجريحاً، قال الذهبي: "إن الذين قَبِلَ الناسُ قولَهم في الجرح والتعديل على ثلاثة أقسام: فقسمٌ تكلموا في أكثر الرواة؛ كابن معين، وأبي حاتم الرازي..." [2، ص171].
كثرة أقواله في الجرح والتعديل، مع تنوع الألفاظ والمصطلحات التي استعملها، وانفراده بالكلام على كثير من الرواة، وبكثير من المصطلحات النقدية، وفي بعض ذلك ما هو نادر الاستعمال، غامض المدلول، هذا مع ما امتاز به من شدة التحرِّي؛ بل التشدُّد مع العَنَت أحياناً.
فهو في شخصه وسيرته مثالٌ يُحتذَى، وأثرٌ يُقتفَى، وأما أقواله في الجرح والتعديل؛ فكان عليها المعوَّل عند المتقدِّمين والمتأخِّرين؛ فهو بحقٍّ يعدُّ مدرسةً قائمةً بذاتها، وهو وحده أمَّة!
ومع هذا كله؛ فإنه لم يُعْطَ حقَّه من البحث والدراسة؛ فلم يدرَّس منهجه في الجرح والتعديل بصورة عامة، كما أنه لم تُدْرَس ألفاظه ومصطلحاته لمعرفة مراده منها، ومدلولات تلك المصطلحات عنده بصورة خاصة، فيما عدا إشارات جزئية، مبثوثة في ثنايا بعض كتب الرجال والمصطلح، وفيما عدا ما قام به الباحث (محمد الأزوري) من دراسة عامة له، وذلك في رسالته للماجستير في جامعة أم القرى، سنة 1404هـ، بعنوان: " أبو حاتم الرازي وآثاره العلمية".
ولهذا كله؛ فقد كان لي منذ سنوات عناية خاصة بأقوال هذا الإمام في النقد، فقد قمتُ بجمعها وتصنيفها، مع محاولة موازنة بعضها بأقوال بعض معاصريه من النقاد الآخرين، وذلك بقصد دراسة منهجه في الجرح والتعديل عامةً، ودراسة ألفاظه ومدلولاتها عنده خاصةً، مع قناعتي التامة بأن هذا العمل شاق، وأن الطريق طويل، وأن العجز والفتور وكثرة المشاغل قد يسبق إلى النفس، أو يعكِّر صفوَ هذه الرغبة الأكيدة لديَّ.
لذا؛ فقد بدا لي - منذ زمن يسير - أن أؤصِّل أولاً لمنهج أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذلك بوضع أُطُرٍ عامة، أو أصول كلِّية؛ لتكون هذه الأطر أو الكلِّيات العامة - التي هي أغلبيةٌ في أكثر أحوالها - بدورها أُسُساً يُصعد منها، ومداخل يُولج من خلالها إلى الفرعيَّات أو الجزئيات المندرجة تحتها، مما يسهل دراستها، ومعرفة ضوابطها.
وقد ناسب طبيعة البحث تسمية هذه الأطر أو الكلِّيات المؤصِّلة لمنهج الإمام في الجرح والتعديل، ب- "ملامح"، واحدتها لمحةٌ، واللمحة: النظرة بالعَجَلَة، وملامح الإنسان: ما بدا من محاسن وجهه ومساويه، ويقولون: لمحة البرق، ولمحاً باصراً: أي أمراً واضحاً، كما جاء عند ابن منظور، مادة "لمح". [3، ج-2، ص 584].
وقد جعلتُ هذا البحث على مقدمة، وقسمين، وخاتمة:
بيَّنتُ في المقدمة أهمية هذا العمل وضرورته، والقصد منه.
وجعلتُ القسم الأول خاصّاً بالتعريف بأبي حاتم الرازي، وأما القسم الثاني: فقد ذكرتُ فيه ملامح كلِّية من منهج أبي حاتم في الجرح والتعديل.
وأما الخاتمة فقد تضمَّنت أهمَّ النتائج.
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، نافعاً لخلقه، متقبَّلاً لديه - سبحانه - وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القسم الأول:
الإمام أبو حاتم الرازي:
اسمه ونسبه:
هو الإمام أبو حاتم، محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، الحنظلي، الغَطَفاني، الرازي، من تميم بن حنظلة بن يربوع، عُرف بالحنظلي؛ لأنه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الرّي [1، ج-13، ص 247]، وقد أشار الذهبي - هنا - لوجود اختلاف في نسبته إلى حنظلة.
وقال السمعاني: "وبالرّي دربٌ مشهور، يقال له درب حنظلة، منها أبو حاتم محمد بن إدريس. ثم قال: قال محمد بن طاهر المقدسي: أبو حاتم الرازي الحنظلي، منسوبٌ إلى درب حنظلة بالرّي، وداره ومسجده في الدرب، رأيتُه ودخلتُه... قال أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، قال أبي: نحن من موالي تميم بن حنظلة، من غَطَفَان. قال المقدسي - يعني: محمد بن طاهر -: والاعتماد على هذا أولى،، والله أعلم" [4، ج-2، ص ص 279 - 290].
وتعقَّب ياقوت الحموي هذا قائلاً: "وهذا وهمٌ، ولعله أراد حنظلة بن تميم، وأما غَطَفَان؛ فإنه لا شك في أنه غلط؛ لأن حنظلة هو: حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وليس في ولده من اسمه تميم، ولا في ولد غَطَفَان بن سعد بن قيس بن عيلان مَنْ اسمه تميم بن حنظلة البتة - على ما أجمع عليه النسَّابون - إلا حنظلة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عنس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفَان، وليس له ولد غير غَطَفَان، وليس في ولد غَطَفَان مَنْ اسمه تميم" [5، ج-2، ص311].
قال المعلِّمي اليماني: "فإن صحَّ السند إلى ابن أبي حاتم؛ فهم من موالي بني حنظلة من تميم، والتخليط ممن بعده" [6، ج-1، ص و د].
ويرى الإصطخري أن موالي بني حنظلة بن تميم قد عبروا البحرين إلى فارس، في أيام بني أمية، فسكنوا إصطخر أصبهان ونواحيها، وملكوا الأموال الكثيرة، ثم نزح بعض من أسرة أبي حاتم إلى الرّي، واتخذوها وطناً جديداً [7، ص85]. يقول أبو حاتم: "نحن من أهل أصبهان، من قرية جروكان، وأهلنا كانوا يقدمون علينا في حياة أبي، ثم انقطعوا عنا" [1، ج-13، ص250].
مولده وموطنه:
اتفقت المصادر على أن ولادته كانت سنة خمس وتسعين ومئة (195هـ)، ويؤيد هذا ما قاله ابنه عبدالرحمن؛ إذ قال: "سمعت أبي يقول: كتبتُ الحديث سنة تسع ومئتين، وأنا ابن أربع عشرة سنة" [6، ج-1، ص 366].
وأما موطنه فهو الري، كما جاء في مصادر الترجمة.
طلبه العلم، ورحلاته، ومقاساته في ذلك:
لم تذكر المصادر شيئاً عن نشأة هذا الإمام في صغره، كما أهملت الكلام عن أسرته، فأول ما ذكرته عن طلبه العلم هو أنه كتب الحديث سنة تسع ومئتين، وكان عمره آنذاك أربع عشرة سنة تقريباً [6، ج-1، ص366]، ومن غير المعقول أن يعيش هذا الإمام تلك السنين السابقة لهذه السن دون طلب، والغالب على الظن أنه هيِّئ في سن التمييز للكتابة والقراءة، وحفظ القرآن، وتعلَّم بعضَ اللغة والآداب - كما هي عادة الناس في أبنائهم في تلك الأزمنة. فلما جاء سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة لهذا الإمام أخذ ينتقل في بلده الرّي، ويختلف إلى جماعة من المحدِّثين؛ يسمعُ منهم، ويكتبُ الحديثَ عنهم.
وأما رحلاته في طلب الحديث، وما قاساه في أثناء الطلب من صعاب:
فمما لا شك فيه أن هذا الإمام كان رحلةً، قد جاب البلاد شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، مستقرِباً البعيدَ، ومستعذِباً المرَّ، ومستسهِلاً الصعابَ، وكأنه قد وجد حلاوة العيش ولذة الحياة كامناً في سير المسافات الطويلة، والتطواف بين البلدان؛ للوصول إلى أكابر المحدِّثين، والإفادة منهم، والكتابة عنهم.
قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجتُ في طلب الحديث أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيتُ على قدميَّ زيادةً على ألف فرسخ!! لم أزل أحصي، حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته! ما كنتُ سرتُ أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصي كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحرين - من قرب مدينة صلا - إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيءٌ من حديث أبي اليمان فسمعتُ، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرَّقة، ومن الرَّقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجتُ قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة، كلُّ ذلك ماشياً! كل هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة، أجول سبع سنين!! خرجتُ من الرّي سنة ثلاث عشرة ومئتين، قدمنا الكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة.. ورجعت سنة إحدى وعشرين ومئتين.
وخرجتُ المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعتُ سنة خمس وأربعين، أقمتُ ثلاث سنين..".
هذا وقد حجَّ أبو حاتم مرات، فقد قال: "حججتُ سنة الأول سنة خمس عشرة ومئتين، والحجة الثانية سنة خمس وثلاثين، والثالثة سنة اثنتين وأربعين، والرابعة سنة خمس وخمسين، وفيها حج عبدالرحمن ابني" [6، ج-1، ص ص362 - 363].
وهكذا يظهرُ أن أبا حاتم كان يسير في كثير من الأحيان على قدميه، ويتحمل الصعاب، وهو أمر يبعثُ في النفوس العزمَ، ويدعو طلاب العلم إلى الصبر وبذل الجهد، كيف لا وقد عدَّ مشيه في السفر الأول حتى زاد على ألف فرسخ! ثم توقف في العدِّ؛ وذلك لطول المسافات وكثرة الأرقام، مما يصعب معه الاستمرار في العدِّ؟!.
ويقول الذهبي معلِّقاً على الألف فرسخ: "قلتُ: مسافة ذلك نحو أربعة أشهر، سير الجادَّة"!! [1، ج-13، ص255].
ويرى الباحث أن هذه المسافة تقدر بحوالي (5544) كيلو متراً أو تزيد، وذلك بالمقاييس المتعارف عليها الآن [3، ج-3، ص44؛ ج-11، ص639؛ 8، ص77].
وأما عن الصعاب والمقاساة التي عاناها أثناء الطلب؛ فحدِّث ولا حرج، ويكفي أن أذكر هنا قصتين تصوِّران تلك الصعوبات، كما تصوِّران العزمَ القوي، والدأب المتواصل، وشدَّة التحمُّل عند هذا الإمام الجِهْبِذ.
يقول أبو حاتم - فيما يرويه عنه ابنه أبو محمد عبدالرحمن -: "بقيتُ بالبصرة في سنة أربع عشرة ومئتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنةً، فانقطع نفقتي، فجعلت أبيعُ ثياب بدني شيئاً بعد شيء، حتى بقيتُ بلا نفقة، ومضيتُ أطوف مع صديق إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء"؛ وهكذا يحكي أنه بقي يغدو ويروح لمدة يومين، لا يطعم طعاماً! وفي اليوم الثالث جاءه صديقه ليخرجا باكراً إلى المشايخ، فقال له أبو حاتم: "أنا ضعيفٌ، لا يمكنني". قال له صديقه: ما ضعفُك؟ فقال له الخبر. وكان مع صديقه دينار، فاقتسماه وخرجا [6، ج-1، ص ص 363 - 364].
والقصة الأخرى هي أغرب وأعجب، وهي: أنهم خرجوا ثلاثةً؛ هو، وشيخٌ مروزيٌّ، وآخرُ نيسابوريٌّ، فركبوا البحر، وكانت الريح في وجوههم، فبقوا في البحر ثلاثة أشهر، وفني ما كان معهم من الزاد إلا يسير، وضاقت صدورهم؛ فخرجوا إلى البر يمشون أياماً، حتى فني ما بقي معهم من الزاد والماء، فمشوا ثلاثة أيام من الصباح إلى المساء، بلا ماء ولا زاد، وقد ضعفت أبدانهم، فأخذوا يمشون على قدر طاقتهم، فسقط الشيخ مغشيّاً عليه، فحرَّكوه - وهو لا يعقل - فتركوه فمشى أبو حاتم وصاحبه النيسابوري، فضعف أبو حاتم، وسقط مغشيّاً عليه؛ فتركه صاحبه ومشى، وبصر بعد مدة قوماً قد قرَّبوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى عليه السلام فأخذ يلِّوح بثوبه إليهم، فجاؤوا ومعهم الماء، فسقوه؛ فقال لهم: الحقوا رفيقَيْن لي، قد ألقوا بأنفسهم مغشيّاً عليهم.
قال أبو حاتم: "فما شعرتُ إلاَّ برجل يصبُّ الماء على وجهي؛ ففتحت عيني، فقلتُ: اسقني؛ فسقاني شيئاً يسيراً، ورجعتْ إليَّ نفسي، ولم أروَ، فقلتُ: اسقني؛ فسقاني شيئاً يسيراً، فأخذ بيدي، وأنا أمشي أجرُّ رِجْلي، ويسقيني شيئاً بعد شيءٍ".
وكان أبو حاتم قد أخبر مَنْ جاءه برفيقهم الثالث قائلاً: ورائيَ شيخٌ ملقى. فقال له: قد ذهب إلى ذاك جماعة.
وهكذا نجا أبو حاتم، ونجا صاحباه، وبقوا عند أصحاب السفينة أياماً، حتى رجعت إليهم أنفسهم، ثم زوَّدهم أصحاب السفينة الكعكَ والسَوِيقَ والماء، وكتبوا لهم كتاباً إلى والي بلده راية، ومشوا، فنفذ ما معهم من ماء وأزواد، وتعرضوا للخطر ثانية، فقاسوا مرارة الجوع والعطش، حتى وصلوا إلى مدينة راية، فأكرمهم واليها، وبقوا عنده زمناً، ثم زوَّدهم إلى أن بلغوا مصر. [6، ج-1، ص ص 364-366] بتصرُّف.
شيوخه وتلاميذه:
لقد التقى أبو حاتم الرازي بالكثيرين من الجهابذة الكبار، وفي مختلِف البلاد التي زارها أثناء طلبه العلم ورحلاته المتكرِّرة.
قال الخليليُّ: قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ: "قد جمعتُ مَنْ روى عنه أبو حاتم الرازي، فبلغو قريباً من ثلاثة آلاف [9، ج-2، ص682].
ويقول الذهبيُّ بعد أن ذكر بعضاً من شيوخه: "وسمع خلقاً كثيراً.. ويتعذَّر استقصاء سائر مشايخه"؛ يعني: لكثرتهم [1، ج-13، ص 248].
وممن سمعهم: عبيدالله بن موسى، وأبو نُعَيْم، وطبقتهما بالكوفة، ومحمد بن عبدالله الأنصاري، والأصمعي عبدالملك بن قُرَيْب، وطبقتهما بالبصرة، وعفَّان بن مسلم، وهَوْذَة بن خليفة، وطبقتهما ببغداد، وأبو مُسْهِر، وأبو الجَمَاهِر محمد بن عثمان، وطبقتهما بدمشق، وأبو اليَمَان، ويحيى بن صالح الوُحَاظِي، وطبقتهما بحمص. وسعيد بن أبي مريم، ويونس بن عبد الأعلى، وعبدالله بن صالح المصري كاتب الليث بمصر، وخلقٌ بالنواحي والثغور [10، ج-2، ص73؛ 1، ج-13، ص ص 247-248؛ 11، ج-2، ص183].
ونظراً لسَعَة علم أبي حاتم، وشهرته، وكثرة البلاد التي زارها؛ فإنه أصبح مهوى أفئدة التلاميذ من جميع أنحاء الأرض، وقد قال غيرُ واحد من العلماء: روى عنه عالمٌ لا يحصون كثرةً [4، ج-2، ص279؛ 1، ج-13، ص248؛ 1، ج-2، ص208]، ومن هؤلاء الراوين عنه: يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان - المصريان - وهما أكبر منه سنّاً، وأقدم سماعاً [10، ج-2، ص73؛ 4، ج-2، ص279]، وهما من شيوخه أيضاً.
ومن أقرانه: أبو زُرْعَة الرَّازي، وأبو زُرْعَة الدمشقي، ومحمد بن عَوْن الحِمْصِي، ومن أصحاب السنن: أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه في "التفسير"، والبخاري في "الصحيح" - في باب المُحْصِر - وابنه عبدالرحمن أبو محمد.
وقال الخطيب: "حدَّث عنه يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن إسماعيل بن موسى الرَّازي، وبين وفاتَيْهما أكثر من ست وثمانين سنة"، وقال الذهبي: "آخر من حدَّث عنه هو محمد بن إسماعيل بن موسى الرَّازي" [10، ج-2، ص73، 4، ج-2، ص279؛ 1، ج13، ص248؛ 13، ص323؛ 14، ج-9، ص ص 28 - 29].
مؤلفاته:
لا شك في أن الإمام أبا حاتم قد خلَّف علماً غزيراً مرويّاً عنه، ومدوَّناً في بطون الكتب، يظهر هذا جليّاً في الأقوال المنسوبة إليه، وبخاصة في كتابَي "الجرح والتعديل" و"العلل"، كلاهما لابنه وراويته عبدالرحمن، بَيْدَ أنَّ المراجع لم تحفل بذكر مؤلفات تُذكر لهذا الإمام، ومما ذكرته له ونسبته إليه المراجع من المؤلفات:
1- كتاب في الاعتقاد [15، ج-1، ق1، ص 298] [1].
2- كتاب الزهد [16، ج-1، ص186؛ 15، ج-1، ق1، ص298].
3- طبقات التابعين [17، ص139؛ 18، ج-6، ص27؛ 19، ج-9، ص35].
تفسير القرآن العظيم [20، ج-2، ص19؛ 19، ج-9، ص35؛ 18، ج-6، ص27][2].
4- إجابته عن أسئلة أبي عثمان سعيد بن عمرو بن عمار حول الضعفاء والكذَّابين [15، ج-1، ق1، ص298].
هذا وقد ذكر ابن النديم أبا حاتم الرازي، وبيَّض اسمه، فلم يعيِّنه، ثم قال: "وله من الكتب؛ كتاب الزينة: كبيرٌ، نحو أربعمئة ورقة، وكتاب الجامع: فيه فقهٌ غير ذلك" [21، ص268].
ونسب إسماعيل باشا البغدادي هذين الكتابَيْن لأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي - موضوع البحث - جازماً بذلك [20، ج-2، ص19]، وتابعه في هذا أيضاً عمر رضا كحالة [19، ج-9، ص35]، وزاد الزِّرِكْلِيُّ؛ فنسب إلى أبي حاتم الرازي محمد بن إدريس كتاباً ثالثاً، وهو "أعلام النبوة" [18، ج-6، ص 37] [3].
والذي يظهر للباحث: أنه لا يمكن الجزم بنسبة هذه الكتب الثلاثة الأخيرة إلى أبي
حاتم محمد بن إدريس الرازي، ولعل نسبتها إلى أبي حاتم الرازي أحمد بن حمدان
الورسامي الليثي، المتوفَّى سنة 332هـ هو الأوْلى والأقرب؛ للأدلَّة الآتية:
1 - لم تُشر المصادر المعتمدة التي ذكرت حياة أبي حاتم الرازي - موضوع البحث - إلى شيء من هذه الكتب، لا من قريب ولا من بعيد.
2- لعل ابن النديم قصد أبا حاتم الرازي - هذا الأخير - وأهمل اسمه، أو تردَّد فيه؛ فلم يعيِّنه.
3- ذُكرتْ هذه الكتب في ترجمة أبي حاتم الرازي أحمد بن حمدان الورسامي الليثي، عدا كتاب "الجامع" في الفقه [15، ج-1، ق3، ص356] وقد نسبه ابن النديم إلى أبي حاتم الرازي مطلقاً غير مقيَّد، فلعل الوهم والخطأ نشأ من أن كل من جاء بعد ابن النديم نقل عنه وظن أن أبو حاتم هذا هو الإمام موضوع البحث،، والله أعلم.
مكانته، وسعة علمه، وثناء العلماء عليه:
لقد اتسع علم هذا الإمام، وقويت معرفته بشتى العلوم بصورة عامة، وبالحديث وعلومه بصورة خاصة، وأصبح يشار إليه بالبنان من بين علماء عصره، والأدلة على هذا غزيرة ومتنوعة، وسأقتصر على ذكر بعضها للاختصار:
جاءه رجلٌ من جلَّه العلماء، ومعه دفترٌ، فعرضه عليه؛ فقال أبو حاتم: "في بعضها خطأٌ؛ دخل لصاحبه حديثٌ في حديثٍ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ باطلٌ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ منكرٌ"، وقال في بعضه: "هذا حديثٌ كذبٌ، وسائر ذلك أحاديث صحاح"! فقال الرجل: من أين علمت هذا؟ أخبرك راوي هذا الكتاب؟ فقال أبو حاتم: "لا، ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطلٌ، وأن هذا الحديث كذبٌ". فقال الرجل: تدَّعي الغيبَ؟ فأرشده أبو حاتم أن يعرض ما عنده على أبي زُرْعَة، وقال له: "إن قال أبو زرعة مثل ما قلت؛ فاعلم: أنَّا لم نجازف، ولم نَقُلْه إلا بفهم".
فذهب الرجل إلى أبي زُرْعَة، فقال بنحو قولَي أبي حاتم؛ فقال الرجلُ: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟! فقال أبو حاتم: "ذلك أنَّا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا"!! ثم أخذ يضرب له الأمثلة على صحة ما يقول، ويقول: "نحن رزقنا معرفة ذلك".
ثم ذكر أبو حاتم كلاماً يُعدُّ قاعدةً في التصحيح والتعليل؛ فقال: يُقاس صحة الحديث بعدالة ناقلية، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوَّة، ويُعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته [6، ج-1، ص ص349 - 351] بتصرف.
وقال أبو حاتم فيما رواه ابنه عبدالرحمن عنه: قلتُ على باب أبي الوليد الطيالسي: مَنْ أَغْرَبَ عليَّ حديثاً غريباً مسنَداً صحيحاً لم أسمع به؛ فله عليَّ درهمٌ يتصدَّق به؟ وقد حضر على باب أبي الوليد خلقٌ من الخلق، أبو زرعة فمَنْ دونه، وإنما كان مرادي أن يُلقى عليَّ ما لم أسمع به، فيقولون: هو عند فلان؛ فأذهب فأسمع، وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي، فما تهيّأ لأحدٍ منهم أن يُغْرِبَ عليَّ حديثاً [6، ج-1، ص355] بتصرف.
وهذا يدل - بكل وضوح - على سَعَة علمه، وكثرة حفظه وجمعه؛ بحيث عجز الحاضرون - مع إتقانهم، وحفظهم، وجلالتهم - عن أن يدلُّوه على حديثٍ واحدٍ ممَّا طلبَ.
قال عبدالرحمن: وسمعت أبي يقول: "جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديثَ ويذكر عِلَلَهَا، وكذلك كنتُ أذكر أحاديثَ خطأً وعِلَلَهَا وخطأَ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم، قلَّ مَنْ يفهم هذا، ما أعزّ هذا؟ إذا رفعت هذا من واحد واثنين، فما أقل من تجد مَنْ يُحْسِنُ هذا! وربما أشكُّ في شيء، أو يخالجني شيءٌ في حديثٍ، فإلى أن ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه، قال أبي: وكذلك كان أمري [6، ج-1، ص ص355 - 356].
وقال أبو حاتم: "كان محمد بن يزيد الأصفاطي يحفظ التفسير، فقال لنا يوماً: ما تحفظون في قوله عز وجل: ﴿ فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ﴾ [سورة ق: 36]؟ قال أبو حاتم: فبقي أصحاب الحديث ينظر بعضهم إلى بعض، فقلت: أنا - وساق أبو حاتم بالإسناد إلى ابن عباس قال -: ضربوا في البلاد. فاستحسن محمد بن يزيد" [6، ج-1، ص ص355 - 356].
وقال ولده عبدالرحمن: سمعت أبي يقول: "قدم محمد بن يحيى النيسابوري الرّي، فألقيتُ عليه ثلاثة عشر حديثاً من حديث الزهري؛ فلم يعرف منها إلا ثلاثة أحاديث، وسائر ذلك لم يكن عنده، ولم يعرفها" [6، ج-1، ص358].
قال السبكي: قال شيخنا الذهبي: "إنما ألقى عليه من حديث الزهري؛ لأن محمداً كان إليه المنتهى في معرفة حديث الزهري، قد جمعه وصنَّفه وتتبَّعه، حتى كان يقال له: الزهري" [12، ج-2، ص209؛ 22، ص386][4].
قال الحافظ ابن حجر: "وهذا يدلُّ على حفظٍ عظيم؛ فإن الذهلي شهد له مشايخه وأهل عصره بالتبحُّر في معرفة حديث الزهري، ومع ذلك؛ فأغرب عليه أبو حاتم" [14، ج-9، ص30].
وقال أبو حاتم: قال لي هشام بن عمار: "أيُّ شيءٍ تحفظ عن الأذواء؟ قلت له: ذو الأصابع، وذو الجَوْشَن، وذو الزوائد، وذو اليدين، وذو اللحية الكلبي.. وعددت له ستةً؛ فضحك، وقال: حفظنا نحن ثلاثة، وزدتنا أنت ثلاثة" [6، ج-1، ص359].
قال الخليلي: "الإمام المتَّفق عليه بالحجاز، والشام، ومصر، والعراق والجبل وخراسان، بلا مدافعةٍ.. كان عالماً باختلاف الصحابة، وفقه التابعين ومن بعدهم من الفقهاء، سمعتُ جدِّي، وأبي، ومحمد بن إسحاق الكسائي، وغيرهم، قالوا: سمعنا علياً أبا الحسن القطان يقول: ما رأيتُ مثل أبي حاتم الرازي، لا بالعراق، ولا باليمن، ولا بالحجاز؛ فقلنا له: قد رأيتَ إسماعيلَ القاضي، وإبراهيم الحربي، وغيرهما من علماء العراق؟! فقال: ما رأيتُ أجمع من أبي حاتم، ولا أفضل منه" [9، ج-2، ص682].
وقال حجَّاج بن الشاعر: ما بالمشرق مثل - وفي السير للذهبي: أنبل - أبي زرعة، وأبي حاتم، وابن وارة، وأبي جعفر الدرامي [9، ج-2، ص682؛ 1، ج-13، ص 252].
وقال الربيع بن سليمان - صاحب الشافعي -: "لم نلقَ مثلَ أبي زرعة وأبي حاتم ممَّن ورد علينا من العلماء" [9، ج-2، ص 682].
وقال أبو بكر الخطيب: "كان أحد الأئمة الحفَّاظ الأثبات، مشهوراً بالعلم، مذكوراً بالفضل". وقال الخطيب أيضاً: قال الحافظ أحمد بن سلمة: ما رأيتُ بعد إسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى أحفَظَ للحديث، ولا أعلم بمعانيه، من أبي حاتم محمد بن إدريس. [10، ج-2، ص 75].
وقال عثمان بن خُرَّزَاذ: "أحفظُ مَنْ رأيتُ أربعةً..."؛ وذكر منهم أبا حاتم الرازي. [10، ج-2، ص75].
وقال يونس بن عبد الأعلى - الإمام الشهير -: "أبو زُرْعَة وأبو حاتم إماما خُرَاسَان"، ودعا لهما، وقال: "بقاؤهما صلاحٌ للمسلمين" [10، ج-2، ص76].
وقال النسائي: "ثقةٌ" [10، ج-2، ص77].
وقال عبدالرحمن بن يوسف بن خِرَاش: "كان من أهل الأمانة والمعرفة" [10، ج-2، ص77].
وقال هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي: "كان أبو حاتم الرازي إماماً عالماً بالحديث، حافظاً له، متقناً، متثبِّتاً" [10، ج-2، ص77].
وقال ابن الجَوْزي: "كان أحد الأئمة الحفَّاظ، والأثبات العارفين بعلل الحديث، والجرح والتعديل" [23، ج-12، ص284].
وقال الذهبي: "الإمام الحافظ الناقد.. كان من بحور العلم، طوَّف البلاد، وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنَّف، وجرح وعدَّل، وصحح وعلَّل..." [1، ج-13، ص247].
وقال أبو بكر الخلاَّل: "أبو حاتم إمامٌ في الحديث، روى عن أحمد مسائلَ كثيرة، وقعت إلينا متفرقةً، كلها غرائب" [14، ج-9، ص29].
وقال ابن ناصر الدين: "كان في مضمار البخاري وأبي زرعة جارياً، وبمعاني الحديث عالماً، وفي الحفظ غالباً، وأثنى عليه خلقٌ من المحدِّثين" [24، ج-2، ص171].
وقال ابن العماد الحنبلي: "حافظ المشرق... كان بارع الحفظ، واسع الرحلة، من أوعية العلم" [24، ج-2، ص171].
حرصه الشديد على تحصيل علم الحديث ومعرفة الرواة:
فقد قال أبو حاتم - فيما ذكر عنه ابنه - في ترجمة معدان بن عبدالجبار الأزدي: "هو صدوقٌ، اختلفت إليه أكثر من عشرين مرة في سبب حديثٍ واحد - ولم يكن عنده إلا حديثٌ واحدٌ - حتى سمعته" [6، ج-8، ص404].
وقال أبو حاتم: قال لي أبو زُرْعَة: "ما رأيتُ أحرص على طلب الحديث منكَ؛ فقلتُ له: إن عبدالرحمن ابني لحريص؛ فقال: من أشبه أباه فما ظلم" [1، ج-13، ص250].
ومما يدلُّ على حرص أبي حاتم على الحديث، ومعرفة علومه ودقائقه، أنه بقي - وحتى آخر لحظة من عمره - يُسأل ويجيب، وكان ابنه عبدالرحمن قد استفاد من والده طوال حياته، فهذا عبدالرحمن بن علي الرقَّام يقول: سألتُ عبدالرحمن - يعني: ابن أبي حاتم - عن اتفاق كثرة السماع له، وسؤالاته لأبيه؛ فقال: "ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيءٍ وأقرأ عليه" [1، ج-13، ص251].
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: "كان أبي في النزع، وأنا لا أعلم، فسألته عن عقبة بن عبدالغافر، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم له صحبة؟ فقال برأسه: لا. فلم أقنع منه؛ فقلتُ: فهمت عني، له صحبة؟ قال: هو تابعيٌّ". قال عبدالرحمن: "فكان سيد عمله معرفة الحديث وناقلة الآثار، فكان في عمره يقتبس منه ذلك، فأراد الله أن يظهر عند وفاته ما كان عليه في حياته" [6، ج-1، ص ص367-368].
عقيدته:
يعد أبو حاتم الرازي من أهل السنة والجماعة المتمسكين بمذهب أهل الأثر في اتِّباع الكتاب والسنَّة، والذبِّ عن الأئمة المتَّبعة من سلف الأمة، المبتعدين عن الضلال والبدعة، والقامعين لأهل الضلال والإلحاد، مع كشف حالهم، وبيان عوارهم.
وقد ذكر هذا الإمام كلاماً نفيساً، يعدُّ من الأصول المحرَّرة، والمبادئ المؤصَّلة، التي عليها المعوَّل في أصول الاعتقاد، وبيان ما يناقضها، ومع نفاسة هذا الكلام وشموله؛ إلا أنه يتعذَّر ذكره بتمامه هنا، وسأقتصر منه على ذكر بعض العبارات الدالَّة على باقية، والمعبِّرة عن رأي قائلها ومعتقده.
قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي: وجدتُ في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس... مما سمع منه، يقول: "مذهبنا واختيارنا اتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعين، ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر، مثل: أبي عبدالله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم... ولزوم الكتاب والسنَّة، والذبُّ عن الأئمة المتِّبعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار.. وترك رأي الملبِّسين المموِّهين المزخرفين، المخرِّفين الكذَّابين، وترك النظر في كتب الكرابيسي[5]، ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه.
والقرآن كلام الله وعلمه، وأسماؤه وصفاته، وأمره ونهيه، ليس بمخلوق بجهة من الجهات، ومن زعم أنه مخلوق مجهول؛ فهو كافر بالله، كفراً ينقل عن الملة.
واختيارنا: أن الإيمان قولٌ وعملٌ، إقرارٌ باللسان، وتصديقٌ بالقلب، وعملٌ بالأركان.
والإيمان يزيد وينقص، ونؤمن بعذاب القبر، وبالحوض المكرَّم به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونؤمن بالمساءلة في القبر، وبالكرام الكاتبين، وبالشفاعة المخصوص بها النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والصواب:
نعتقد ونزعم أن الله على عرشه بائنٌ من خلقه؛ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا نقاتل في الفتنة، ونسمع ونطيع لمَنْ وَلَّى اللهُ - عزَّ وجلَّ - أمرَنا.
وفَّقنا الله - وكلَّ مؤمن - لما يحب ويرضى من القول والعمل". [25، ج-1، ق1، ص ص 198 - 204].
وفاته:
أغلب المصادر تذكر أنه مات رحمه الله في شعبان سنة سبع وسبعين ومئتين بالرّي، [6، ج-1، ص ص 367 - 368]. وقد عاش ثنتين وثمانين، وقيل ثلاث وثمانين سنة [10، ج-2، ص 77؛ 23، ج-12، ص 285؛ 26، ج-2، ص 569؛ 1، ج-13، ص262؛ 12، ج-2، ص211؛ 11، ج-2، ص 183؛ 27، ج-2، ص 371؛ 14، ج-9، ص30].
وقال ابن يونس: "مات بالرّي سنة خمس، وقيل سنة سبع وسبعين ومئتين" [28، ص 259]، لكن الذي في "تهذيب التهذيب" بعد أن أرَّخ وفاته في سنة (277هـ) - قال ابن حجر: "وقال ابن يونس في تاريخه: مات بالرّي سنة (279هـ)". قال ابن حجر: "والأول أصحُّ" [14، ج-9، ص30].
وقال ابن الجَزَري أيضاً: توفي سنة خمس وسبعين ومئتين [29، ج-2، ص97].
ويبدو أن الراجح - والله أعلم - في وفاته هو ما قاله الأكثرون، وهو القول الأول، وهو الذي رجَّحه ابن حجر، ومما يرجِّحه أيضاً أن الخطيب البغدادي روى ذلك بالإسناد إلى قائله، وهو ابن المنادي وأحمد بن محمد بن صبيح [10، ج-2، ص77].
القسم الثاني: ملامح كلية من منهج الحافظ أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل
أولاً: تشدُّده في الجرح والتعديل
يعدُّ أبو حاتم من الأئمة المتشدِّدين في الجرح والتعديل؛ فقد قال الذهبي: "وقد جُعل النُّقادُ على ثلاثة أقسام:
قسم منهم متعنِّتٌ في الجرح، متثبِّت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلِّين بذلك حديثه... وابن معين، وأبو حاتم والجَوْزَجَاني متعنِّتون" [2، ص ص 71-72].
وقال الذهبي أيضاً: "ومنهم مَنْ نَفَسه حادٌّ في الجرح... فالحادُّ فيهم: يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خِرَاش، وغيرهم" [30، ص 83].
وقال السَّخاوي في ترجمة عبدالرحمن بن خراش بأنه قوي النفس في الجرح [31، ص108].
وقال السخاوي أيضاً: "إن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدِّد ومتوسِّط.. ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري، وأبو حاتم أشدهما" [31، ص144].
وقد أطلق أبو حاتم على كثير من الرواة لفظ: "يُكتب حديثُه، ولا يُحْتَجُّ به"، أو: "لا يُحْتَجُّ به"، وقد قال له ابنه عبدالرحمن: ما معنى "لا يحتج به"؟ فقال: "كانوا قوماً لا يحفظون، فيحدِّثون بما لا يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطراباً ما شئت" [6، ج-2، ص 133].
وقد فسَّر ابن تيمية هذا اللفظ: " يُكتب حديثُه، ولا يُحْتَجُّ به" عند أبي حاتم، فقال: "يعني أنه يصلح حديثه للاعتبار والاستشهاد به، فإذا عضَّده آخرٌ مثله جاز أن يُحتجَّ به، ولا يُحتجُّ به على انفراده" [32، ص577].
ولو أن أبا حاتم اقتصر في استعمال هذا اللفظ على مَنْ كان بهذه المرتبة - مرتبة الاعتبار أو الضعف اليسير - لكان وجيهاً، لكنه أطلق هذا اللفظ على بعض الرواة الثقات، وقد يكونون من رواة "الصحيحين" أو أحدهما، مما جعل بعض العلماء يتعقَّبونه ويسمُّونه بالتشدُّد.
فهذا الذهبي يقول عنه: "إذا ليَّن رجلاً، أو قال فيه: لا يُحتجُّ به؛ فتوقف حتى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثَّقه أحدٌ، فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم؛ فإنه متعنِّتٌ في الرجال، قد قال في طائفة من رجال "الصحاح": ليس بحجَّة، ليس بقويٍّ، أو نحو ذلك" [1، ج-13، ص260].
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة محمد بن عجلان: "وثَّقه أبو حاتم الرازي مع تعنُّته في نقد الرجال" [1، ج-6، ص 320].
وقال ابن تيمية: "وأما قول أبي حاتم في أبي صالح باذام: "يُكتب حديثه ولا يُحتجُّ به"؛ فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال "الصحيحين"، وذلك أنَّ شرطه في التعديل صعبٌ و"الحجة" في اصطلاحه ليس هو "الحجة" في اصطلاح جمهور أهل العلم" [33، ج-24، ص350].
وقال ابن عبدالهادي - فيما نقله عنه الزَّيْلَعِيُّ -: "قول أبي حاتم: "لا يحتجُّ به" غير قادح؛ فإنه لم يذكر السبب، وقد تكررت هذه اللفظة منه في رجال كثيرين من أصحاب "الصحيح" الثقات الأثبات، من غير بيان السبب؛ كخالد الحذَّاء وغيره" [34، ج-2، ص 439].
وقال الذهبي: "يعجبني كثيراً كلام أبي زُرْعَة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم؛ فإنَّه جرَّاح" [1، ج-13، ص7].
ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن وصف الحافظ أبي حاتم بالتشدُّد والعَنَت إنما هو أغلبي، وإلا فقد يكون حكمه موافقاً لحكم غيره من المعتدلين؛ بل قد يعدِّل رجلاً ويجرحه غيره، وقد يتوقف في الرواي أحياناً، وما هذا إلا دليلٌ على ورعه وتقواه - والله أعلم - وسيأتي أمثلةٌ على هذا في ثنايا البحث - إن شاء الله تعالى.
ثانيا: كثيرة أقواله في الرواة مع تنوعها وندرتها
فقد خلف ثروة من المصطلحات النقدية، وفي بعض ذلك ما هو من المصطلحات النادرة الاستعمال، والتي تحتاج إلى بيان معانيها ومعرفة دلالتها عنده، وسأقتصر هنا على ذكر بعض النماذج من ألفاظه، مع التمثيل لكلٍّ منها - ما أمكن - فمن ألفاظه - مثلاً -:
1- (مضطرب الحديث): وهي من ألفاظ الجرح القريب المحتمل عنده، في مرتبة الاعتبار،
ومن أمثلته عنده:
قال ابنه عبدالرحمن: سألت أبي عن بكَّار بن محمد السيريني، فدفعه وقال: لا يسكن القلب عليه، مضطرب [6، ج-2، ص410].
وسأله عن بشار بن قيراط النيسابوري، فقال: مضطرب الحديث، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به [6، ج-2، ص ص 417 - 418].
وقال في خارجة بن مصعب الخراساني: مضطرب الحديث، ليس بقوي، يُكتب حديثه ولا يحتج به، مثل مسلم بن خالد الزنجي، لم يكن محله محل الكذب [6، ج-3، ص ص 375 - 376].
2 - (حلو)، أو (أحلى): ومن أمثلة استعمالاته عنده:
زيد بن عوف أبو ربيعة القطعي قال فيه: ما رأيت بالبصرة أَكْيَس ولا أَحْلَى من أبي ربيعة. سُئل عنه أيضاً فقال: تعرف وتُنْكِر!!.. وحرَّك يده. [6، ج-3، ص 570].
سليمان بن أحمد الدمشقي قال: كتبت عنه قديماً وكان حلواً... [6، ج-4، ص101].
شعيب بن الليث بن سعد قال: شعيب أحلى حديثاً - يعني من عبدالله بن الحكم [6، ج-4، ص 351].
وانظر أيضاً: قيس بن الربيع الكوفي [6، ج-7، ص 98].
وقيس بن عقبة السُّوائي [6، ج-7، ص 126].
وقطبة بن عبدالعزيز الحمَّاني [6، ج-7، ص141].
قلتُ: وواضحٌ أن هذا اللفظ يستخدمه عند الموازنة بين شخصين للمفاضلة، أو يُسأل عن رجل مقروناً بآخر، فيقول: هو أحلى، ويعني به: أفضل أو أحسن،، والله أعلم.
3- لفظُ (في حديثه صنعة)، واستعمله في بعض التراجم منها:
درَّاج بن سمعان أبو السَّمْح [6، ج-3، 441].
رَوْح بن عبدالواحد الحرَّاني [6، ج-3، ص499].
سعد بن طالب أبو غَيْلان الشَّيباني [6، ج-4، ص 88].
عائذ بن شُرَيْح الحضرمي [6، ج-7، ص16].
يزيد بن أبان الرقَّاشي [6، ج-9، ص ص 251 - 252].
ويعني بهذا اللفظ: أنه يتصرَّف في الأحاديث، ولا يأتي بها على الوجه، كما فسره المعلِّمي اليماني في تعليقه على ترجمة رَوْح بن عبد الواحد الحرَّاني المتقدِّم ذكره[6].
4- (على يَدَي عدل)، واستعمله في بعض التراجم، منها:
جُبَارة بن المغلِّس [6، ج-2، ص 550].
عمر بن حفص، أبو حفص العبدي [6، ج-6، ص 103].
محمد بن خالد بن عبدالله الواسطي [6، ج-7، ص 243].
يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري [6، ج-9، ص 215].
وهو يعني بهذا اللفظ: "هالكٌ"، شديد الضعف.
5- (يؤدِّي)، أو (كان مؤدِّياً):
فسرها أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم قال: يعني أنه كان لا يحفظ، ولكن يؤدي ما سمع، ومن خلال التطبيقات تعني أنه صدوق، أو دون ثقة، ومن أمثلته عنده:
سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري [6، ج-4، ص84].
محمد بن جعفر غندر البصري [6، ج-7، ص ص 221-223]، فال أبو حاتم: كان صدوقاً، وكان مؤدِّياً، وفي حديث شعبة ثقة.
6- يفتعل الحديث: يعني به يكذب في الحديث، واستعمله في رواه عديدين منهم:
سهل بن عامر البجلي [6، ج-4، ص202].
عبدالله بن عمر الرافعي [6، ج-5، ص 110].
النَّضْر بن سلمة شَاذَان المروزي [6، ج-8، ص 480].
7- ليس بمشهور: يريد أنه لم يعرف بكبير رواية، ولم يرو عنه جماعة؛ بحيث تحصل له
الشهرة، ولذا فهو غالباً يذكر في ترجمة مَنْ يقول فيه هذا اللفظ: له حديث أو
حديثان. ونحوه. ومن أمثلة هؤلاء:
جلاس بن عمرو [6، ج-2، ص546].
حاجب، روى عن أبي الشعثاء [6، ج-3، ص 284].
عبدالسلام بن صالح بن كثير [6، ج-6، ص 48].
سعيد بن محمد الزهري [6، ج-4، ص 58].
8- مقارَب أو مقارِب الحديث: بفتح الراء أو بكسرها، وهما بمعنى واحد تقريباً، وهو
لفظ تعديل، وهو وسط، يعني أنه يقارب أحاديث الثقات، أو أحاديث الثقات تقارب
أحاديثه، واستعمله في عدد من الرواة منهم:
عثمان بن أبي العاتكة أبو حفص الدمشقي [6، ج-2، ص 163].
سليمان بن بلال أبو أيوب [6، ج-4، ص 103].
عثمان بن أبي العاتكة [6، ج-6، ص 163].
9 - تَعرف وتُنكر: وهو جرحٌ قريبٌ محتملٌ، يعني: تعرف بعض حديثه وتنكر بعضاً، وقد
استعمله في بعض الرواة منهم:
الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [6، ج-3، ص53].
عبدالله بن سلمة الهمداني [6، ج-5، ص ص 73-74].
عبدالله بن نافع الصائغ [6، ج-5، ص 184].
وجاء في عبارته عند هذا الأخير ما يساعد على تفسير هذا اللفظ، فقال أبو حاتم: "ليس بالحافظ، هو ليِّنٌ، تعرف حفظه وتُنكر، وكتابه أصحُّ".
10- مستقيم الحديث: وهو عنده بمنزلةٍ (لا بأس به)، وقد قرنه - أحياناً - به،
وأحياناً ب-(ثقة)، وقد استعمله في رواة منهم:
زهرة بن معبد أبو عقيل [6، ج-3، ص 615].
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة أبو سعيد [6، ج-9، ص ص144 - 145].
ومثله أو أقوى منه لفظ.
مستقيم الأمر: واستعمله في رواة منهم:
عبدالله بن نُمَيْر الهَمْداني [6، ج-5، ص 186].
عثمان بن عبيد الرَّاسبي [6، ج-6، ص 158].
11- مستوي الحديث: وهو قريبٌ من مستقيم الحديث عنده، ومن أمثلته:
سليمان بن عامر المروزي [6، ج-4، ص 133].
عبدالعزيز بن المختار [6، ج-5، ص ص393- 394].
عمران بن وهب الطائي [6، ج-6، ص 306].
12 - مستور أو محله الستر ونحوهما: ومن قال فيه مثل هذا لا يكون بمنزلة من يُحتج
بحديثه عنده؛ فهو لا ينفكُّ عن ضعفٍ، ولكن يُكتب حديثه، وممن قال فيهم مثل هذا:
عبدالحكم بن ذاكون السدوسي [6، ج-6، ص 36].
مُحِلّ بن مُحْرز الكوفي الضبِّي [6، ج-8، ص ص 413-414].
يزيد بن كيسان اليشكري [6، ج-9، ص 285].
13 - يذاكر بحديثه: يعني به - والله أعلم - أنه يشتغل به، ويتدارس به، ولا يبعد أن
يكون حديثه مما يحتجُّ به عنده؛ ولذا قال أبو حاتم: "اكتبْ أحسن ما يُسمع،
واحفظْ أحسن ما يُكتب، وذاكِرْ بأحسن ما يُحفظ" [27، ج-2، ص 371]. ومن أمثلة
هذا اللفظ عنده:
طارق بن عبدالعزيز بن طارق [6، ج-4، ص 488].
عمرو بن شعيب بن محمد [6، ج-6، ص ص 238-239].
يوسف بن مهران [6، ج-9، ص 229].
14 - سكتوا عنه: وهو يعني به الترك، أو الجرح الشديد، ولعله أخذ هذا اللفظ، ولفظ
(فيه نظرٌ) عن البخاري، وهو يعني بهما ما يعني بهما البخاري[7]،
ومن أمثلته عنده:
إبراهيم بن عثمان بن عبدالله أبو شيبة العبْسي [6، ج-2، ص 115].
محمد بن شجاع بن نبهان [6، ج-7، ص 286].
15- فيه نظر: وهو أيضاً يطلقه ويريد به الجرح الشديد، وكأنه يتَّهم الراوي، أو
يرميه بعدم الصدق، ومن أمثلته عنده:
سعيد بن سليمان بن خالد [6، ج-4، ص 26].
سعيد بن عَنْبَسَة أبو عثمان الخزَّاز [6، ج-4، ص 52].
يحيى بن أَكْثَم التميمي. قال عبدالرحمن لأبيه: ما تقول فيه؟ قال: "فيه نظرٌ"، ثم قال له: فما ترى فيه؟ قال أبو حاتم: "نسأل الله السلامة" [6، ج-9، ص 129].
16- شيخ: وهذا اللفظ وإن كان من ألفاظ التعديل عند علماء النقد، إلا أنه من
أدناها، وهو مُشْعرٌ إجمالاً بالضعف، ولكنه أيضاً من الألفاظ العامة، متسع المعنى،
فقد يُطلق على حالات متعددة، ولم يطَّرد في معنى واحد معيَّن، وقد استعمله أبو
حاتم كثيراً جدّاً، في مئات التراجم، سواء أكان مفرداً أو مقروناً بألفاظ أخرى،
وقد حاول بعض العلماء تفسير معنى هذا اللفظ عند أبي حاتم؛ فقال الذهبي - في ترجمة
العباس بن الفضل العدني -: "سمع منه أبو حاتم، وقال: شيخٌ".
فقوله: "هو شيخٌ" ليس هو عبارة جرح؛ ولهذا لم أذكر في كتابنا أحداً ممن قال فيه ذلك، ولكنها أيضاً ليست عبارة توثيق، وبالاستقراء؛ يلوح لك أنه ليس بحجَّة، ومن ذلك قوله: "يُكتب حديثه"؛ أي: ليس بحجَّة [35، ج-2، ص 385].
وقد فسَّر ابن القطان لفظ (شيخ) عند أبي حاتم؛ إذ قال: "وسئل عنه الرازيَّان - يعني: طالب بن حُجَيْر - فقالا: شيخٌ". قال ابن القطان: "يعنيان بذلك أنه ليس من طلبة العلم ومقتنيه، وإنما هو رجلٌ اتَّفقت له رواية الحديث، أو أحاديث أُخذت عنه" [36، ج-3، ص 482].
وقال ابن رجب: "إن الشيوخ - في اصطلاح أهل العلم - عبارة عمَّن دون الأئمة الحفَّاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره "[37، ج-1، ص 461؛ 38، ص139].
وإليك بعض تراجم الذين حكم عليهم أبو حاتم بهذا اللفظ، ومنها يظهر اتساع معنى هذا
اللفظ إلى حدٍّ ما عنده، والله أعلم:
شبيب بن بشر البَجَلي، قال: "هو ليِّن الحديث، حديثه حديث الشيوخ" [6، ج-4، ص357].
صالح بن حيَّان القرشي: "ليس بالقوي، هو شيخ" [6، ج-4، ص398].
عبدالعزيز بن محمد الدراوردي، سئل أبو حاتم عنه وعن يوسف بن الماجشون؛ فقال: "عبدالعزيز محدِّث، ويوسف شيخٌ" [6، ج-5، ص 396].
فقد فرَّق أبو حاتم هنا بين شيخ ومحدِّث.
عمر بن رديح، سئل عنه فقال: "شيخٌ"، فقيل له: قال يحيى بن معين هو صالح الحديث؟ فقال أبو حاتم: "بل هو ضعيف الحديث" [6، ج-6، ص ص108 - 109].
محمد بن عمرو بن علقمة، قال: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، وهو شيخٌ" [6، ج-8، ص ص30-31].
يحيى بن مسلم البكَّاء. قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألتُ أبي، قلت: يحيى البكاء أحبُّ إليك أو أبو جناب؟ قال: "لا هذا ولا هذا"! قلتُ: إذا لم يكن في الباب غيرهما، أيهما أكتب؟ قال: "لا تكتبْ منه شيئاً". قلت: ما قولك فيه؟ قال: "هو شيخٌ" [6، ج-9، ص ص186 - 187].
ومن الجدير بالذكر أنه قال في ترجمة أبي جناب يحيى بن أبي حية فيما ذكره عنه ابنه: ليس بالقوى [6، ج-9، ص ص 138 - 139].
وظاهر كلام أبي حاتم في أبي جناب، ويحيى البكَّاء هنا أنه لا يكتب حديثهما، وهذا جرحٌ شديدٌ عنده، في حين أنه يقول: "يُكتب حديث من هو دونهما بكثير"، ولعل المراد هنا: الكتابة مع قصد الاحتجاج، أو: في موطن الاحتجاج، والله أعلم.
سليمان بن زياد الحضرمي، سأله ابنه عبدالرحمن عنه؛ فقال: "صحيح الحديث"، فقال له: ما حاله؟ قال: "شيخٌ" [6، ج-4، ص ص 117- 118].
وقال أبو حاتم في ترجمة ناجية بن كعب العنزي: "شيخٌ" [6، ج-8، ص 486].
وسأله ابنه عن ناجية بن المغيرة؛ فقال: "ثقةٌ"، ثم قال له ابنه: أيهما أوثق: ناجية بن كعب، أو ناجية بن المغيرة؟ فقال: "جميعاً ثقات" [6، ج-8، ص 487].
فهو هنا حكم على الراوي مرَّة بأنه (شيخٌ)، وفي أخرى بأنه (ثقةٌ).
17 - المجهول: لقد وصف أبو حاتم آلاف التراجم بالجهالة، وعبَّر عن الجهالة بألفاظ
عديدة مترادفة، منها: (مجهول)، وهو أكثرها شيوعاً عنده، ومنها:
لا أعرفه.
كما في ترجمة كلٍّ من:
رافد، روى عن عكرمة [6، ج-3، ص 523].
نصر بن نجيح الأشعري [6، ج-8، ص 465].
محمد بن ثابت بن عمرو [6، ج-7، ص 216].
لا أفهمه، أو: لا نفهمه:
كما في ترجمة كلٍّ من:
سليمان بن داود بن قيس الفرَّاء [6، ج-4، ص 111].
محمد بن ثابت، روى عن أبي هريرة [6، ج-7، ص216].
محمد بن عروة بن رويم [6، ج-8، ص 47].
لا أخبره، أو: لا أخبر أمره:
ومثاله كما في ترجمة عبدالله بن عمرو بن أبي أمية [6، ج-5، ص120].
لا معنى له:
وقد استعمله مع لفظ (مجهول)، ومثاله في ترجمة كلٍّ من:
سعيد بن عَنْبَسَة [6، ج-4، ص52].
حُمَيْد الأوزاعي [6، ج-3، ص 232].
لا يُعرف:
ومن أمثلته - عنده - ما جاء في ترجمة كلٍّ من:
أوفى بن دَلْهَم؛ إذ قال أبو حاتم فيه: "لا يُعرف، ولا أدري مَنْ هو" [6، ج-2، ص 349].
نوح بن المختار [6، ج-8، ص483] [8].
18- صالح الحديث: وقد استعمله أبو حاتم كثيراً، وهذا اللفظ - وإن كان من أدنى
ألفاظ التعديل عنده - إلا أنه استعمله استعمالات متباينة، وهو من الألفاظ المتسعة
عنده أيضاً، يظهر ذلك من خلال وصفه رواة متفاوتي المراتب بهذا الوصف.
فهو عنده - أحياناً - تعديل قوي:
فقد قال في جَبَلَة بن سُحَيْم التميمي: صالح الحديث، وقال مرة: هو ثقة [6، ج-2، ص ص 508 - 509].
وقال في ذكوان أبي صالح السمَّان - المتَّفق على توثيقه -: "صالح الحديث، يُحتجُّ بحديثه" [6، ج-3، ص ص 450-451].
ويطلق هذا اللفظ على الرواي المتوسِّط:
فقد قال في عبيدالله بن أبي زياد القدَّاح: "ليس بالقوى ولا بالمتين، وهو صالح الحديث، يُكتب حديثه" [6، ج-5، ص ص315 - 316].
وقد سأله ابنه عبدالرحمن عن هُشَيْم بن أبي ساسان؛ فقال: "صالح الحديث". قال عبدالرحمن: قلتُ: لا بأس به؟ قال: "لا أقول هذا، ولكن هو صالح الحديث" [6، ج-9، ص116].
وهذا واضح في أن (صالح) هنا - عنده - أدنى من (لا بأس به).
وقد يُستعمل هذا اللفظ فيمن لا يحتج بحديثه؛ فيقول: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، ولا يحتج به"، وممَّن وصفهم به:
باذام أبو صالح [6، ج-2، ص ص 431 - 432].
علي بن حفص المدائني [6، ج-6، ص 182].
وقد أشار الذهبي إلى ما يفيده هذا اللفظ - (صالح الحديث) - عند أبي حاتم، فقال: "قال أبو حاتم: صالح الحديث". قال الذهبي: "وهذه العبارة تدلُّ على أن غيره من رفقائه أثبت منه" [39، ص39].
وقال الذهبي في ترجمة ثابت بن عجلان: "وأما من وثق [و] مثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبي حاتم يقول: صالح الحديث، فلا نرقِّيه إلى رتبة الثقة، فتفرُّد هذا يعدُّ منكراً" [35، ج-1، ص ص364-365].
قلتُ: وهذا الذي أشار إليه الذهبي من معنى (صالح الحديث) عند أبي حاتم، لعله يكون غالباً، والله أعلم.
19- لا يكتب حديثه إلا زحفاً، أو: يكتب حديثه زحفاً، ونحوه: وهذا اللفظ من ألفاظ
التجريح، وقد فسِّر المعلِّمي اليماني مرادَ أبي حاتم بهذا اللفظ؛ فقال:
"يعني مَنْ أراد أن يتكلَّف الكتابة عنه فلا بأس، كالذي يمشي زحفاً"!
[6، ج-3، ص 216].
واستعمل أبو حاتم هذا اللفظ في عدد من الرواة، منهم:
عبدالحكم بن عبدالله القَسْمَلِيّ. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "منكر الحديث، ضعيف الحديث". قلتُ: يُكتب حديثه؟ قال: "زحفاً" [6، ج-6، ص ص35-36].
عبدالخالق بن زيد بن واقد. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: "ليس بقوي، منكر الحديث"، قلتُ: "يُكتب حديثه؟" قال: "زحفاً" [6، ج-6، ص 37].
داود بن عطاء المُزَنِيّ. قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، ضعيف الحديث، منكر الحديث". فسأله ابنه عبدالرحمن: يُكتب حديثه؟ فقال: "مَنْ شاء كتب حديثه زحفاً" [6،ج-3، ص 421].
20- لم يكن من أحلاس الحديث: أي لم يكن من المشتغلين بالحديث، الملازمين لأهله؛
فقد قال ابن حجر: "هم أحلاس الخيل: أي الذين يلزمون ركوبها، وحلس بكذا، أي:
لزمه" [40، ص 95].
وممَّن قال فيهم أبو حاتم هذا اللفظ:
محمد بن يزيد بن سنان الرَّهاوي. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "ليس بالمتين، هو أشدُّ غفلةً من أبيه، مع أنه كان رجلاً صالحاً، لم يكن من أحلاس الحديث، صدوقٌ، وكان يرجع إلى ستر وصلاح، وكان النُّفَيْلِيُّ يرضاه" [6، ج-8، ص ص 127-128؛ 41، ج-2، ص 54].
21- ليس بالمتين: وهو عنده أقل ضعفاً من (ليس بقوي)، والله أعلم، ومن الرواة الذين
أطلق عليهم هذا اللفظ:
بُرَيْد بن عبدالله بن أبي بُرْدَة، قال عندما سئل عنه: "مَنْ دونه يُكتب حديثه، وليس عندي بالمتين" [6، ج-2، ص 426].
عبدالله بن عيَّاش بن عبدالله القَتَبَاني، قال أبو حاتم: "ليس بالمتين، صدوقٌ، يُكتب حديثه، وهو قريبٌ من ابن لهيعة" [6، ج-5، ص126].
22- ليس بشيء: وهو يريد به الضعف الشديد، فهو بمعنى لفظ (متروك)، أو (متَّهم)،
وذلك من خلال استقراء التراجم التي قال في أصحابها هذا اللفظ، والوقوف على أقوال
الآخرين فيهم، وممَّن قال فيهم هذا اللفظ:
سليمان بن داود الشاذكوني، قال أبو حاتم: "ليس بشيء، متروك الحديث"، وترك حديثه، ولم يحدث عنه - يعني: أبا حاتم - [6، ج-4، ص115].
نوح بن ذكوان. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ، مجهول" [6، ج-8، ص485].
النَّهَّاس بن قَهْم أبو الخطاب. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ" [6، ج-8، ص 511].
يعلى بن الأشدق العقيلي. قال أبو حاتم: "ليس بشيءٍ، ضعيف الحديث" [6، ج-9، ص303][9].
ثالثا: استعمال الحركات في الحكم على الرواة:
لا يقتصر أبو حاتم على إصدار الحكم على الراوي بالنطق صراحةً؛ بل ربما استعمل بعض الحركات للدلالة على الحكم على الراوي، ومن هذه الحركات: تحريك اليد، أو تحريك الرأس، أو تقطيب الوجه، ومن أمثلة تحريك اليد:
الحسين بن زيد بن علي بن الحسين، قال ابنه عبدالرحمن: قلتُ لأبي: ما تقولُ فيه؟ فحرَّك يده وقلبها - يعني: تَعرف وتُنكر. [6، ج-3، ص 53].
زيد بن عوف، ولقبه: فهد بن عوف أبو ربيعة. قيل لأبي حاتم: ما تقولُ فيه؟ فقال: "تَعرف وتُنكر"، وحرَّك يده [6، ج-3، ص 570].
فاتَّضح من هذا: أن تحريك اليد وتقليبها عنده يعني: (تَعرف وتُنكر).
ومن أمثلة تحريك الرأس:
ناصح بن العلاء أبو العلاء، مولى بني هاشم، سئل عنه أبو حاتم، فقال: "شيخٌ بصريٌّ"، وحرَّك رأسه، وهو منكر الحديث [6، ج-8، ص 503].
ومثال تقطيب الوجه:
مصعب بن سعيد أبو خيثمة الضرير. سئل عنه أبو حاتم، فقطَّب وجهه، وقال: "عبدالله بن جعفر الرَّقِّي أحبُّ إليَّ منه، وكان صدوقاً" [6، ج-8، ص309].
رابعاً: اعتداده براوية الإمام عن الراوي غير المشهور
لقد اعتبر أبو حاتم رواية الإمام عن الراوي غير المشهور، مما يقوي حديث هذا الراوي عنده، فقد سأله ابنه عبدالرحمن عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة؛ مما يقويه؟ فقال: "إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوِّه روايته عنه، وإن كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه".
وسأل عبدالرحمن صديق أبيه أبا زرعة الرازي عن رواية الثقات عن الرجل، مما يقوي حديثه؛ فقال: "إي لعمري" [37، ج-1، ص 381].
ومن أمثلة هذا عند أبي حاتم:
الحارث بن حصيرة الأزدي. قال أبو حاتم: "لولا أن الثوري روى عن الحارث بن حصيرة؛ لتُركَ حديثه" [6، ج-3، ص ص72-73].
داود بن الحصين مولى عمرو بن عثمان بن عفان. قال أبو حاتم: "ليس بقوي، ولولا أن مالكاً روى عنه؛ لتُركَ حديثه"؛ وفي نسخة من "الجرح": "لتركتُ حديثه". [6، ج-3، ص ص408-409].
محمد بن أبي رَزِين. سئل عنه أبو حاتم فقال: "شيخٌ بصريٌّ، لا أعرفه، لا أعلم روى عنه غير سليمان بن حرب، وكان سليمان قلَّ مَنْ يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ، فاعلم: أنه ثقةٌ" [6، ج-7، ص255].
مُشَاش أبو ساسان الخُرَاسَاني. ذكر أبو حاتم أن شعبة روى عنه، قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "إذا رأيتَ شعبةُ يحدِّث عن رجل، فاعلم: أنه ثقة، إلا نفراً بأعيانهم". قلتُ: فما تقولُ أنت فيه؟ قال: "صدوقٌ، صالح الحديث" [6، ج-8، ص424].
نجيح أبو مَعْشَر السندي. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عن أبي مَعْشَر؛ فقال: "ليس بقويٍّ في الحديث.. كنت أهابُ حديث أبي مَعْشَر، حتى رأيتُ أحمدَ بن حنبل يحدِّثُ عن رجلٍ، عنه، أحاديثَ، فتوسعت بعدُ في كتابة حديثه" [6، ج-8، ص ص493 - 495].
خامساً: التنبيه على البدعة
غالباً ما يذكر أبو حاتم الرواة الذين لهم رأي معين أو بدعة ما، وقد يذكر ما إذا كانت هذه البدعة مؤثِّرة أو غير مؤثِّرة، فيقول رأيه في ذلك صراحةً، وأحياناً يكتفي بالإشارة إلى البدعة مجرد الإشارة، ومن أمثلة ذلك:
إسماعيل بن إبراهيم بن هود، قال أبو حاتم: "كان جهميّاً؛ فلا أحدِّث عنه". وقال أيضاً: "كان يقفُ في القرآن؛ فلا أحدِّث عنه" [6، ج-2، ص ص 157 - 158].
إبراهيم بن خالد، أبو ثور الكلبي. قال أبو حاتم: "رجلٌ يتكلَّم بالرأي، يخطئ ويصيب، وليس محله محل المتَّسعين في الحديث، قد كتبتُ عنه" [6، ج-2، ص ص 97-98].
علي بن أبي هاشم الليثي. قال ابن أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: "ما عَلِمْته إلا صدوقاً، وقف في القرآن، فترك الناس حديثه"، ولم يقرأ عليَّ أبي حديثه. فقال: "وقف في القرآن، فوقفنا عن الرواية عنه، فاضربوا على حديثه" [6، ج-2، ص ص194-195].
مَعْبَد الجُهَنِيّ البصري. قال أبو حاتم: "كان صدوقاً في الحديث، وكان رأساً في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناساً" [6، ج-8، ص 280].
سادساً: الحكم على الراوي من خلال سبر أحاديثه واستقرائها:
كثيراً ما يحكم أبو حاتم الرازي على الرواة بعد تتبُّع أحاديثهم واستقرائها، ثم الحكم عليهم من خلال هذه الأحاديث، وقد لا يكتفي بقول الآخرين حتى يجرِّب بنفسه.
فقد قال أبو حاتم في يوسف بن خالد السمتي - وقد قال فيه يحيى بن معين: "كذَّاب، زنديقٌ، لا يُكتب حديثه " - قال أبو حاتم: "أنكرتُ قول يحيى بن معين إنه زنديق، حتى حمل إليَّ كتابٌ قد وضعه في التجهم بابا باباً، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفَهْم" [6، ج-9، ص ص 221-222].
ومن أمثلة ذلك أيضاً:
أيوب بن سليمان بن أبي حجر، قال أبو حاتم: "لا أعرفه، هذه الأحاديث التي رواها صحاح" [6، ج-2، ص249].
عيسى بن أبي عمران أبو عمرو البزَّار. قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه بالرملة، فنظر أبي في حديثه؛ فقال: "يدل حديثه أنه غير صدوق فتركت الرواية عنه [6، ج-6، ص384].
محمد بن عبدالله المقرئ المعروف بداهر، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عن أحاديث رواها داهراً وعرضت عليه تلك الأحاديث، فقال: ليس تدل هذه الأحاديث على صدقه [6، ج-7، ص ص 310-311].
سابعاً: الموازنة بين الرواة والحكم على الراوي من خلال المفاضلة بينه وبين غيره
يحكم أبو حاتم على الراوي - أحياناً - باستعمال الموازنة والمفاضلة بينه وبين بعض أقرانه، كأن يقول مثلاً: هو أحبُّ إليَّ من فلان، أو: هو أحلى من فلان، أو: أَسْتَر من فلان، أو: ما أقربه من فلان، أو: قريبٌ من فلان، أو: أحسن من فلان، أو: أوثق من فلان، أو: أضعف من فلان، أو: شبه فلان، أو: نحو فلان، أو: مثل فلان، أو: نظير فلان، أو: بابة فلان، أو: محلُّه محلُّ فلان... ونحوها.
وقد استخدم هذا الأسلوب في رواة كثيرين، من غير أن يُسأل عن الراوي مقروناً بغيره؛ بل هو الذي يبدأ الموازنة والمفاضلة من غير أن يكون السؤال مقتضياً لذلك.
ومن أمثلة هذا:
رشْدِين بن سعد أبو الحجَّاج. قال أبو حاتم: "رِشْدِين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدِّث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث، ما أقربه من داود بن المحبِّر، وابن لهيعة أَسْتَر، ورِشْدِين أَضْعَف" [6، ج-3، ص 513].
عبَّاد بن كثير الرَّملي الفلسطيني. قال أبو حاتم: "ظننتُ أنَّه أحسن حالاً من عبَّاد بن كثير البصري؛ فإذا هو قريبٌ منه، ضعيف الحديث" [6، ج-6، ص85].
صقر بن عبدالرحمن بن مالك بن مِغْوَل. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه، فقلتُ: ما حاله؟ فقال: "هو أحسن حالاً من أبيه" [6، ج-4، ص 452].
سفيان بن حسين السلمي المعلم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث، يُكتب حديثه، ولا يحتجُّ به، هو نحو محمد بن إسحاق، وهو أحب إليَّ من سليمان بن كثير" [6، ج-4، ص ص 227-228].
أحمد بن عبدالملك بن واقد الحرَّاني. قال أبو حاتم: "كان نظير النُّفَيْلِي - يعني: في الصدق والإتقان". [6، ج-2، ص ص 61-62].
محمد بن جُحَادة الأَوْدي. قال أبو حاتم: "ثقةٌ صدوقٌ، محلُّه محلُّ عمرو بن قيس المُلائي وأبي خالد الدَّالاني، وزيد بن أبي أُنَيْسَة" [6، ج-7، ص222].
سعد بن عمران بن هند بن سعد. قال أبو حاتم: "هو شيخٌ مثل الواقدي في لين الحديث وكثرة عجائبه" [6، ج-4، ص ص 91-92].
عمرو بن عمرو بن عبد الأحموسي. قال أبو حاتم: "لا بأس به، صالح الحديث، هو من ثقات الحِمْصِيِّين، بابة عتبة بن أبي حكيم وهشام بن الغاز" [6، ج-6، ص ص127-128].
محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي. قال أبو حاتم: "شيخٌ صالح الحديث، لا بأس به، بابة جعفر الأحمر، وهُرَيْم" [6، ج-7، ص 188].
يحيى بن السَّكَن البصري. قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، بابة محمد بن مصعب القُرْقُسَاني" [6، ج-9، ص155].
"أبو فاطمة: روى عن أبي مَعْشَر، شيخٌ، بابة الوصافي" [6، ج-9، ص 424].
قلتُ: وأما قوله في ترجمة محمد بن زياد الكلبي [6، ج-7، ص 258]: "كان شيخاً شاعراً، وقعدنا في دهليزه ننتظره، فلما نَظَرْنَا إلى قدِّه، علمنا أنه ليس من البابة؛ فذهبنا ولم نرجع إليه". فيريد بالبابة هنا - والله أعلم -: ليس من أهل الحديث المشتغلين به، الملازمين له.
ثامناً: ورعه، وعدم الكلام في الراوي إلا عن علم وبمستند
فهو لا يطلق فيه لسانه وإن جرحه الآخرون، ويظهر هذا من خلال سبر تراجم كثيرة، منها:
سعيد بن واصل الحَرَشي. قال ابنه عبدالرحمن: سمعت أبي يقولُ: "تكلم علي بن المديني فيه، قال: ذهب حديثه". فقلتُ لأبي: ما قولك فيه؟ قال: "لا أتقنُ أمرَه، لا يمكنني فيه الكلام، البصريون يروون عنه، وليس بالقوي عندي... ليِّن الحديث" [6، ج-4، ص70].
سلمة بن الفضل الرازي الأَبْرَش الأزرق. قال أبو حاتم: "صالحٌ، محلُّه الصدق، في حديثه إنكار، ليس بالقوي، لا يمكن أن أطلق لساني فيه بأكثر من هذا، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به" [6، ج-4، ص ص168-169].
سهل بن زياد القطَّان، قال أبو حاتم: "تكلَّموا فيه، وما رأيتُ فيه إلا خيراً" [6، ج-4، ص ص197-198].
قُطْبَة بن العلاء بن المنهال. قال عبدالرحمن: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "كتبنا عنه، ما بلغنا إلا خيراً". قلتُ له: إن البخاري أدخله في كتاب الضعفاء! قال: "ذلك ممَّا انفرد به". قلتُ: ما حاله؟ قال: "شيخٌ، يُكتبُ حديثُه، ولا يُحتجُّ به" [6، ج-7، ص ص 141-142].
تاسعاً: عدم استعمال الألفاظ المبالغ فيها جرحاً أو تعديلاً
فهو لا يطري كثيرا في التعديل، ولا يخسف أو يبالغ في استعمال ألفاظ الجرح الشديدة؛ بل يقتصر على المطلوب، وهذا لا يتنافى مع استعماله - أحياناً - ألفاظاًَ عالية - نوعاً ما - في التعديل، أو شديدة في التجريح، فهذا ليس كثيراً، والغالب عنده هو التوسُّط والاعتدال في ذكر الألفاظ.
فمن أعلى ألفاظ التوثيق - إن لم يكن أعلاها مطلقاً - عنده لفظ (ثقة، إمامٌ صدوقٌ)، قاله في كلٍّ من:
موسى بن جعفر بن محمد بن علي [6، ج-8، ص 139].
ويزيد بن هارون الواسطي [6، ج-9، ص 295].
وأطلق لفظ (إمام) فقط على بعض الرواة، منهم:
إسحاق بن إبراهيم بن راهويه [6، ج-2، ص ص 209-210].
وعبيد الله بن عبدالكريم أبو زُرْعة الرَّازي [6، ج-5، ص ص 324-326].
وعبد الأعلى بن مُسْهِر الدمشقي [6، ج-6، ص 29].
ويحيى بن معين [6، ج-5، ص 192].
وهؤلاء أئمةٌ في الحديث والنقد على حدٍّ سواء.
ومن أعلى ألفاظ التعديل عنده أيضاً قوله: (فلانٌ لا يُسأل عنه)، أو: (لا يُسأل عنه
مثله)، فقد ذكره في رواة منهم:
بُسْر بن سعيد مولى ابن الحضرمي [6، ج-2، ص423].
سُلَيْم بن أسْوَد أبو الشَّعْثَاء [6، ج-4، ص 211].
محمد بن عبدالرحمن بن ثَوْبان القرشي [6، ج-7، ص 321].
وقد يستعمل لفظ (ثقة)، وكثيراً ما يكتفي بلفظ (صدوق)، أو: (لا بأس به)، ويريد توثيقاً عالياً، والرفع من شأن من يقول فيه ذلك:
فهذا زهير بن حرب أبو خيثمة - المتَّفَق على توثيقه - يقول فيه ابن معين: "يكفي قبيلة"! ولا يزيد أبو حاتم في القول فيه عن لفظ: "صدوق" [6، ج-3، ص 591].
وقال ابنه عبدالرحمن: سمعتُ أبي يُجْمل القول في أبي زيد النحوي - هو سعيد بن أوس - ويرفع شأنه، ويقول: "هو صدوقٌ" [6، ج-4، ص ص4-5].
وقد قال أبو حاتم - في ترجمة محمد بن عمران بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى -: "أملى علينا كتاب الفرائض عن أبيه، عن ابن أبي ليلى، عن الشَّعبي، من حفظه، الكتاب كله! لا يقدِّم مسألةً على مسألة". ولما سُئل عنه أبو حاتم قال: "صدوقٌ" [6، ج-6، ص 41].
وقد قال أبو حاتم في الإمام الشافعي - وهو مَنْ هو - لفظ: (صدوق) فقط! [14، ج-9، ص30].
وأما بالنسبة للجرح:
فقد استعمل لفظ (كذَّاب)، و(يفتعل الحديث) ونحوهما، كما سبق في (ص498):
وقال أيضاً في ترجمة سليمان بن عمرو النخعي: "كان في النَّخْع شيخان ضعيفان، يضعان الحديث ويفتعلان؛ أحدهما: سليمان بن عمرو النَّخْعي، وهو ذاهبُ الحديث، متروكُ الحديث، كان كذَّاباً، وامتنع - أي: أبو حاتم - عن قراءة حديثه" [6، ج-4، ص132]. قلت: لم يصرِّح أبو حاتم هنا باسم الوضَّاع الآخر.
وكثيراً ما يستعمل لفظ (منكر)، أو (ضعيف)، أو (ليس بقوي)، كما أنه كثيراً ما يجمع بين هذه الألفاظ، وهذا كثيرٌ جدّاً، مما لا يحتاج إلى تمثيل، على أنه سيأتي عليه بعض الأمثلة بعد قليل - إن شاء الله تعالى.
عاشراً: تفصيله أحوال الراوي حيث لا يكون حاله على وتيرة واحدة
كثيراً ما يكون الراوي في حاله تفصيل، مما يصعب الحكم عليه بحكم واحد مطَّرد، كأن يكون ثقةً أو قوياً في وقت - أو في حالات - ضعيفاً في وقت آخر - أو في حالات أُخَر - فهو لا يصفه - والحالة هذه - بوصف واحد مطَّرد، لكن يفصل في حاله، وهذا من الأمور الهامة في الجرح والتعديل، ومن أمثلة ذلك:
زهير بن محمد المروروذي. قال أبو حاتم: "محلُّه الصدق، وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وكان من أهل خُرَاسَان، سكن المدينة، وقديماً الشام، فما حدَّث من كتبه فهو صالح، وما حدَّث من حفظه ففيه أغاليطٌ" [6، ج-3، ص ص 589-590].
محمد بن جابر الحنفي اليمامي. قال أبو حاتم: "ذهب كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقَّن، وكان عبدالرحمن بن مهدي يحدِّث عنه، ثم تركه بعدُ، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروفٌ بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لَحْقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب، روى عنه عشرةٌ من الثقات".
وسُئل أبو حاتم أيضاً عن محمد بن جابر وابن لهيعة؛ فقال: "محلُّهما الصدق، ومحمد بن جابر أحبُّ إليَّ من ابن لهيعة"، وقال أبو حاتم - وأبو زُرْعة أيضاً -: "محمد بن جابر، يمامي الأصل، ومَنْ كتب عنه كتب عنه باليمامة وبمكة، وهو صدوقٌ، إلا أنَّ في حديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح" [6، ج-7، ص ص 219-220].
محمد بن الفضل أبو النعمان، المعروف بعارم. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "إذا حدَّثك عارم فاختم عليه، وعارم لا يتأخَّر عن عفان، وكان سليمان بن حرب يقدِّم عارماً على نفسه، إذا خالفه عارم في شيء رجع إلى ما يقول عارم، وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد عبدالرحمن بن مهدي.
وسئل أبو حاتم - أيضاً عن عارم وأبي سلمة؛ فقال: "عارم أحبُّ إليَّ، عارم ثقة". وقال أبو حاتم أيضاً: "اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله؛ فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتبتُ عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة، ولم أسمع منه بعدما اختلط، فمَنْ كتب عنه قبل سنة عشرين ومئتين فسماعه جيد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين" [6، ج-8، ص ص58-59].
حادي عشر: استدراكاته وتعقُّباته على النقاد الآخرين
ومن أمثلة هذا:
عبدالرحمن بن ثابت بن الصامت. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عنه؛ فقال: "ليس عندي بمنكر الحديث".
قلتُ: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، قال: "يُكتب حديثه، ليس بحديثه بأس، ويحوَّل من هناك" [6، ج-5، ص 219].
عمر بن راشد، أبو حفص المديني. قال أبو حاتم: "كتبتُ من حديثه ورقتين، ولم أسمع منه لما وجدته كذباً وزوراً، والعجب من يعقوب بن سفيان؛ كيف كتب عنه؟! وكيف روى عنه؟! لأني في ذلك الوقت - وأنا شابٌّ - علمت أن تلك الأحاديث موضوعة؛ فلم تطب نفسي أن أسمعها؛ فكيف خفي على يعقوب بن سفيان ذلك؟!!" [6، ج-6، ص 108].
عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي. قال أبو حاتم - وقد ذكر هو أن ابن معين قال: عثمان ثقة -: "صدوقٌ"، وأنكر على البخاري إدخال اسمه في كتاب الضعفاء، وقال: "يحوَّل منه"، وقال: "يروي عن الضعفاء، يشبه ببقية في روايته عن الضعفاء" [6، ج-7، ص ص 157-158].
محمود بن لبيد الأشهلي. قال البخاري: "له صحبة"، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: فخطَّ أبي عليه، وقال: "لا يُعرف له صحبة" [6، ج-8، ص ص289-290]، وانظر أيضاً: ترجمة كلٍّ من علي بن علي الرفاعي [6، ج-6، ص 196]، وعمرو بن عبدالله [6، ج-6، ص 242]، ومحمد بن مصعب القُرقُساني [6، ج-8، ص ص102-103]، ومسلم النحَّات، وهو ابن صاعد [6، ج-8، ص ص 186-187].
ثاني عشر: تعدد موارده في الجرح والتعديل
لقد تعدَّدت موارده في الجرح والتعديل، وكذلك اعتماده أقوال بعض من سبقه ومن عاصره من مشاهير النقاد، وذلك إما بالرواية المباشرة عنهم، أو بالوسائط إليهم، مع التصريح بأسمائهم.
وقد يحيل إلى النقاد على الإبهام، دون تحديد الأسماء؛ كأن يقول: "تكلموا فيه"، أو "تكلم الناس فيه"، ونحوه.
كما أنه قد يذكر القول من تلقاء نفسه، لا ينسبه لأحد غيره، مع أنه مسبوقٌ إليه، وهو معروف من قول غيره، وكثيراً ما لاحظته يفعل هذا مع البخاري - رحمه الله.
ومن الأمثلة على كلِّ ما تقدم، ما يلي:
روى أقوالاً مباشرة عن كلٍّ من:
دُحَيْم، كما في ترجمة سويد بن عبدالعزيز الدمشقي [6، ج-4، ص238].
وسليمان بن حرب، كما في ترجمة محمد بن فضالة الأنصاري [6، ج-8، ص56].
وأبي الوليد الطيالسي، ويحيى بن معين. كما في ترجمة موسى بن إسماعيل أبي سلمة التبوذكي [6، ج-8، ص 136].
وعلي بن المديني، كما في ترجمة معلى بن هلال الجعفي الطحان [6، ج-1، ص 331].
كما أنه ذكر رأي الحُمَيْدي في الرواة؛ فكان يقول: "كان الحُمَيْدي يتكلم فيه، أو كان الحُمَيْدي يحمل عليه، ومن أمثلته على التوالي:
محمد بن سليمان بن مسمول [6، ج-7، ص 267].
ويسع بن طلحة بن أبزوذ المكي [6، ج-9، ص 309].
كما أنه كثيراً ما يقول في الراوي: "يتكلمون فيه"، أو: "تكلم الناس فيه"، ومن أمثلته ما جاء عنه في ترجمة كلٍّ من:
أحمد بن عبدالله بن ميسرة الحرَّاني [6، ج-2، ص 58].
أحمد بن عيسى المصري [6، ج-2، ص 64].
أُسَيْد بن زيد بن نَجِيح الجمَّال [6، ج-2، ص 318].
حاتم بن سالم القزَّاز [6، ج-3، ص 261].
الحسين بن عبدالأوَّل النَّخْعي [6، ج-3، ص59].
وأما نقلة عن الأئمة بالوسائط، وذكر الإسناد إليهم، فهو كثير جداً، مما لا يكاد يخلو منه صفحة من صفحات "الجرح والتعديل"، ومن أمثلته:
إبراهيم بن أبي حرَّة. قال عبدالرحمن ابنه: ذكره أبي، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: "إبراهيم بن أبي حرَّة ثقة" [6، ج-2، ص96].
وانظر - أيضا - على التوالي ترجمةَ كلٍّ من: محمد بن عقبة الرفاعي، ومحمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، ومحمد بن عجلان المديني [6، ج-8، ص ص 35- 44،49].
أما كونه يكون مسبوقاً باللفظ، ويأخذه عن غيره، ولا يشير إلى هذا - وهذا ما فعله مع البخاري - فمن أمثلته:
قال في إبراهيم بن عثمان بن عبدالله، أبي شيبة العبسي: "سكتوا عنه" [6، ج-2، ص115]، وهذا ما قاله البخاري في هذا الراوي [42، ص 13؛ 35، ج-1، ص 48].
وقال في محمد بن شجاع بن نبهان: "سكتوا عنه" [6، ج-7، ص 286]، وهذا ما قاله البخاري في هذا الرواي [43، ج-1، ص115].
وقال في حصين - مولى عمرو بن عثمان القرشي، والد داود بن الحصين -: "ليس حديثه بالقائم [6، ج-3، ص199]، وهو نفس قول البخاري في حصين هذا [42، ص34].
وقال في سويد بن عبدالعزيز الدمشقي: "في حديثه نظر" [6، ج-4، ص ص238-239]، وهو ما قاله البخاري في هذا الراوي [42، ص 55].
وقال في النضر بن كثير أبي سهل السعدي: "فيه نظر" [6، ج-8، ص ص478-479]، وهو نفس قول البخاري فيه [43، ج-8، ص 91].
ثالث عشر: اتِّسام أقواله في بعض الأحيان بطابع العموم، أو اتساع المصطلحات عنده:
بحيث يطلق اللفظَ، ويريد به عدَّة معانٍ، أو يطلقه ويصدق على مراتب متعددة من مراتب التعديل أو التجريح، دون أن يعرِّف المراد أو يحدِّده بالقرائن والملابسات، وهذا معروفٌ عند المتقدِّمين بصورة عامة، فالأمر عندهم في هذا يختلف عمَّا هو عند المتأخرين؛ حيث كان تفريع المسائل، وتأصيل المصطلحات وتحديدها، وهذا لا ينافي بحال من الأحوال ما كان عليه المتقدِّمون من الدقَّة والأصالة.
وقد تقدم عند لفظ (شيخ) أنه يطلقه على حالات عديدة، وكذا عند لفظ (صالح الحديث) [ص500، 503] على التوالي.
ولأهمية هذا الموضوع ودقته؛ فسأذكر هنا - زيادة على ما ذُكر - بعض الأمثلة:
لفظ (صدوق):
قد سبق في [ص39] أن أبا حاتم وصف بعض الأئمة والحفَّاظ بهذا اللفظ، وقال أيضاً في الوليد بن الوليد العنسي القلانسي: "هو صدوقٌ، ما بحديثه بأسٌ، حديثه صحيحٌ" [6، ج-9، ص19].
في حين وصف آخرين بهذا الوصف "صدوق"، وقال عنهم "حسن الحديث"،
منهم:
عبيد الله بن موسى العبسي [6، ج-5، ص ص334- 335].
وإبراهيم بن طهمان الهروي [6، ج-2، ص 107].
محمد بن راشد المكحولي [6، ج-7، ص 454].
في حين وصف آخرين بلفظ: "صدوقٌ، يُكتب حديثه ولا يحتجُّ به"، منهم:
أحمد بن هاشم [6، ج-2، ص 80].
شبابة بن سوَّار الفزاري [6، ج-4، ص 392].
لفظ (لا بأس به)، أو (ليس به بأس):
وهو يشبه لفظ (صدوق) عنده؛ فقد استعمله فيمن يحتجُّ بهم من الثقات، منهم:
صخر بن جَنْدَل، أبو المعلَّى الشامي. قال فيه: "ليس به بأس، هو من ثقات أهل الشام" [6، ج-4، ص427].
عطاء بن أبي مسلم الخُرَاسَاني. قال فيه: "لا بأس به، صدوقٌ". وسأله ابنه قائلاً: يحتجُّ بحديثه؟ فقال: "نعم" [6، ج-6، ص ص334-335].
وقد فسر ابن حجر قول أبي حاتم في الراوي "لا بأس به" بأنه توثيق؛ إذ قال ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن أبي حرة النصيبي: وثَّقة أبو حاتم؛ فقال: "لا بأس به" [44، ص15].
وأبو حاتم استعمل لفظ (لا بأس به) فيمن ليس بحجَّة عنده؛ فقال في ترجمة داود بن بكر بن أبي الفرات: "شيخٌ، لا بأس به، ليس بالمتين" [6، ج-3، ص ص 407-408].
وقال في عبدالحميد بن بهرام الفزاري، وقد قال له ابنه: ما تقول فيه؟ فقال: "ليس به بأسٌ، أحاديثه عن شَهْر بن حَوْشَب صحاح، لا أعلم روى عن شهر بن حوشب أحاديث أحسن منها ولا أكثر منها". ثم سأله ابنه: يحتجُّ به؟ قال: "لا، ولا بحديث شَهْر بن حَوْشب، ولكن يُكتب حديثه" [6، ج-6، ص ص 8-9].
لفظ (منكر الحديث)، و(ضعيف الحديث):
يُطلِق كلاًّ من هذين اللفظين ويريد بهما مرتبة الاعتبار، ويطلقهما في كثير من الأحيان ويريد بهما مرتبة التَرْك والاطِّراح، ويعرف ذلك بالقرائن، وكثيراً ما يجمع بينهما في الراوي الواحد؛ فيقول - مثلاً -: "منكرٌ ضعيف الحديث"، أو: "ضعيفٌ منكر الحديث".
ومن أمثلة استعماله للفظ (المنكر) في مرتبة الاعتبار:
سئل عن زياد بن أبي حسان النَّبطي؛ فقال: "شيخٌ منكر الحديث، يُكتب حديثُه، ولا يحتجُّ به" [6، ج-3، ص 530].
وقال في سليمان بن عطاء القرشي: "منكر الحديث، يُكتب حديثُه" [6، ج-4، ص133].
وقد استعمل هذا اللفظ في مرتبة الترك والرَّد؛ فقال في ترجمة محمد بن عُثَيْم: "هو منكر الحديث، لا يُكتب حديثه" [6، ج-8، ص23].
ووصف عُفَيْر بن مَعْدَان بأنه "منكر الحديث"، وقال: "حدَّث عن سُلَيْم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها ما لا أصل لها، ومنها ما يرويه الثقات عن سُلَيْم" [41، ج-2، ص 172].
وأحياناً يجمع بين المنكر والضعيف في راوٍ واحد، ويصفه بالجرح الشديد؛ بحيث يردُّ حديثه؛ فقال في ترجمة ثابت بن زهير أبي زهير: "هو منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُشتغَل به" [6، ج-4، ص ص 479-752].
وقال في ترجمة طلحة بن زيد الرَّقي: "منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُكتب حديثُه" [6، ج-4، ص ص 479-480].
في حين أنه يصف الراوي بهذَيْن الوصفَيْن وأشد، ومع هذا يقول: "لا يُترك؛ بل يُكتب حديثُه"؛ فقال في عبدالله بن عبدالعزيز الليثي: "منكر الحديث، ضعيف الحديث، لا يُشتغَل بحديثه، ليس في وزن مَنْ يُشتغل بخطئه، عامَّة حديثه خطأ، لا أعلم له حديثاً مستقيماً، يُكتب حديثُه" [6، ج-5، ص103].
وقال في ترجمة مروان بن سالم الغفاري، عندما سأله عنه ابنه عبدالرحمن: "منكر الحديث جدّاً، ضعيف الحديث، ليس له حديثٌ قائمٌ". فقال عبدالرحمن أيضاً: قلتُ: يُترك حديثُه؟ قال: "لا؛ بل يُكتب حديثُه" [6، ج-8، ص ص 274-275؛ 41، ج-1، ص221].
وأمَّا لفظ (ضعيف الحديث)؛ فكذلك يطلقه ويريد به - أحياناً - الاعتبار - وأحياناً - التَّرْك والاطِّراح.
فمن أمثلته في مرتبة الاعتبار عنده:
الحارث بن وجيه الراسبي، وصفة بأنه: "ضعيف الحديث، في حديثه بعض المناكير". [6، ج-3، ص92].
ووصف محمد بن عبدالله بن عبيد بأنه: "ليس بذاك الثقة، ضعيف الحديث" [6، ج-7، ص300].
ومعروفٌ أن ما وصف به هذين الراويَيْن ليس من الجرح الشديد؛ بل هو من الجرح القريب المحتمل، ويُعتبر بمن قيل فيه ذلك.
وقال في يحيى بن بُرَيْد بن عبدالله: "ضعيف الحديث، ليس بالمتروك، يُكتب حديثُه" [6، ج-9، ص132].
وقال في يحيى بن المتوكل، أبي عقيل المكفوف: "ضعيف الحديث، يُكتب حديثُه" [6، ج-9، ص ص189-190].
ومن أمثلة الضعيف في مرتبة الترك والاطِّراح عنده:
هو قوله في إسحاق بن يحيى بن طلحة: "ضعيف الحديث، ليس بقوي، ولا يمكننا أن نعتبر بحديثه" [6، ج-2، ص ص236-237].
وقوله في رَوْح بن مُسَافِر، أبي بشر: "ضعيف الحديث، لا يُكتب حديثُه" [6، ج-3، ص 496].
ومما يدل على اتِّساع مصطلح (ضعيف) عند أبي حاتم أيضاً: أنه حكم على أحاديث كثيرة بالبطلان أو الوضع، وأعلها براوٍ "ضعيف"، مما يدل على أنه قد يطلق لفظ (ضعيف) على الراوي المتروك، أو المتَّهم، أو الكذَّاب.
فقد قال فيما ذكره عنه ابنه: "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث" [41، ج-1، ص390]، حديث رقم (1168). وذكر هذا الراوي (بهلول) في موضع آخر فقال: "هذا حديث موضوع، وبهلول ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص 321]، حديث رقم (2480)، فدل هنا على أن (ضعيف الحديث) عنده بمعنى (ذاهب).
وقال أيضاً: "هذا حديثٌ باطلٌ، وزرعة وعمران جميعاً ضعيفان". ثم ذكر طريقاً آخر للحديث، وقال: "هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ، وكان ذلك من عمران" [41، ج-1، ص383]، حديث رقم (1144).
وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ باطلٌ". ولما سئل عن أحد رواته - وهو سالم بن عبد الأعلى - قال: "ضعيف الحديث، وهذا من سالم" [41، ج-2، ص252]، حديث رقم (2347).
وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ باطلٌ موضوعٌ"؛ فسأله ابنه عبدالرحمن: ممَّن هو؟ قال: "مسلمة بن علي ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص315]، حديث رقم (2460).
وقال في حديث آخر: "هذا حديثٌ موضوعٌ بهذا الإسناد، ونوفل بن سليمان هذا - أحد رواته - ضعيف الحديث" [41، ج-2، ص120]، حديث رقم (1852).
(المجهول):
تقدم في (ص 502 وما بعدها)، من اللمحة الثانية - كثرة أقواله في الرواة - أن أبا حاتم وصف آلاف الرواة بالجهالة، وأنه استعمل ألفاظاً عددية للتعبير عن الجهالة، ومما لا شك فيه أن الجهالة عند هذا الإمام هي أعمُّ مما هي عند الآخرين، ومصطلح الجهالة عنده يتَّسع لأكثر من معنى، ويمكن إبراز هذا بما يلي:
1- قد يطلق الجهالة ويريد بها ما يريد بها باقي النقاد، وهو جهالة العين، أي أن الراوي لم يرو عنه سوى راوٍ واحد، ولم يعدَّل ولم يجرَّح.
2- قد يطلق الجهالة ويريد بها جهالة الحال، أو ما يسميه بعض العلماء ب- (المستور)، وهو من يروي عنه اثنان فأكثر، ولم يعدَّل ولم يجرَّح. وهذا خلافٌ لما عليه باقي النقاد؛ فإنهم إذا ما أرادوا مجهول الحال يُقيِّدون ولا يُطلِقون.
3- قد يطلق الجهالة على بعض الصحابة المعروفين عنده بالصحبة؛ فهو ينص على صحبة الواحد منهم، ويذكر أنه من أهل بدر أو أحد أو نحوه، ومع هذا يصفه بلفظ (مجهول) أو نحوه من الألفاظ المرادفة، وقد انفرد بهذا الصنيع، ولم يسبقه إليه أحد.
وهذه الأمور - وإن كانت كثيرة مبثوثة في تراجم كثيرة من كتاب "الجرح والتعديل" لابنه - إلا أنني سوف أدعمها بذكر بعض الأمثلة.
1- جهالة العين:
فقد وصف رواة كثيرين بالجهالة، وبعد النظر يتبين أنه لم يرو عن كل منهم إلا راوٍ واحدٍ؛ فيعلم بهذا أنه يريد جهالة العين، ومن أمثلة ذلك:
زهير بن منقذ [6، ج-3، ص 586].
زامل بن زياد الطائي [6، ج-3، ص617].
قُرَّة العِجْلي [6، ج-7، ص 130].
يحيى بن سليمان [6، ج-9، ص 154].
أبو الأعين العَبْدي [6، ج-9، ص 335].
2- جهالة الحال،
ومن أمثلته عنده:
الحكم بن عبدالله البصري. قال أبو حاتم: "مجهول" [6، ج-3، ص122]، وقد تعقَّبه ابن حجر [45، ص398] - بعد أن أشار إلى أن هذا الرجل روى له البخاري، ومسلم، والترمذي، والنَّسائي، وذكر كلام أبي حاتم السابق - فقال - أي ابن حجر -: "ليس بمجهول مَنْ روى عنه أربعة ثقات، ووثَّقه الذهلي". أ هـ.
عباس بن الحسين أبو الفضل القَنْطري. قال أبو حاتم: "مجهولٌ" [6، ج-6، ص 215]، وتعقبه ابن حجر قائلاً: "إن أراد العين - يعني جهالة العين - فقد روى عنه البخاري، وموسى بن هارون الجمَّال، والحسن بن علي المعمري، وغيرهم، وإن أراد الحال - يعني جهالة الحال - فقد وثَّقه عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: سألتُ أبي عنه؛ فذكره بخير، وله في الصحيح حديثان..." [45، ص ص412-413].
بيان بن عمرو أبو محمد المحاربي. قال أبو حاتم: "شيخٌ مجهولٌ" [6، ج-2، ص425]، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر؛ فقال: روى عنه البخاري - يعني في "صحيحه" - وأبو زُرْعَة، وعبيدالله بن واصل، وغيرهم. وجهالة بيان قد ارتفعت برواية هؤلاء عنه، وعدالته ثبتت أيضاً"[14، ج-1، ص ص506-507].
3- تجهيله الصحابة:
وقد أطلق أبو حاتم الجهالة على حوالي أربعين[10] صحابياً، بعضهم من مشاهير الصحابة، من أهل بدر وأحد، وبعضهم له رواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضهم قد لا يكون لهم رواية، وقد تعقَّبه بعض العلماء؛ لإطلاقه لفظ (الجهالة) على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ومن أمثلة هذا النوع:
حاطب بن عمرو بن عبد شمس، من المهاجرين الأولين. قال أبو حاتم: "هو مجهولٌ" [6، ج-3، ص303].
خُلَيْدة بن قيس بن عثمان. قال أبو حاتم: "شهد بدراً"، وسئل عنه؛ فقال: "هو مجهولٌ" [6، ج-3، ص ص 400-401].
مدلاج بن عمرو السلمي، حليف بني عبد شمس. قال أبو حاتم: "هو مجهولٌ" [6، ج-8، ص428].
وقد بيَّن ابن حجر [46، ج-6، ص ص12-13] في ترجمة مدلاج هذا مرادَ أبي حاتم في وصف الصحابي بالجهالة؛ فقال: "وكذا يصنع أبو حاتم في جماعة من الصحابة، يطلق عليهم اسم الجهالة، لا يريد جهالة العدالة، وإنما يريد أنه من الأعراب الذين لم يروِ عنهم أئمة التابعين.. وهذا رجلٌ من أهل بدر، ولم يتخلَّف عن ذكره أحد ممن صنف في الصحابة".
الخاتـمة:
أختم هذا البحث بذكر أهم النتائج التي توصلت إليها؛ وهي:
1- اهتمام الحافظ أبي حاتم الرازي بعلم الحديث روايةً ودرايةً، وحرصه الشديد على تتبُّع دقائق هذا العلم، مما جعله إماماً مجتهداً مبرزاً، على الرغم من قسوة الظروف وكثرة الصعاب، فهو بحقٍّ يعدُّ - بسيرته وعلمه - مدرسةً، ومثالاً يُحتذى، وأثراً يُقتفى.
2- الإمام أبو حاتم الرازي، وإن كان معدوداً في النقاد المتشدِّدين، إلا أنه يبدو على كلامه - أحياناً - الورع؛ فهو لا يطلق لسانه في الراوي بغير مُسْتَنَد، وإن كان الراوي مجرَّحاً عند غيره، كما أنه كثيراً ما يقتصر على ما يؤدِّي الغرض من الألفاظ - تعديلاً أو تجريحاً - دون مبالغة في الإطراء أو الطعن.
3- لقد تكلم هذا الإمام في كثير من الرواة، فخلَّف ثروةً كبيرةً من الألفاظ النقديَّة النادرة الاستعمال، التي تحتاج إلى شرح وتوضيح، إضافةً إلى بعض المصطلحات النقدية، التي تحتاج إلى بيان مدلولاتها عنده.
4- إن معرفة منهج مثل أبي حاتم الرازي في الجرح والتعديل - مع كثرة ألفاظه النقدية، وتنوُّعها، وتباينها - ليس بالأمر السهل؛ مما يجعل الباحث يحار، ويقع في شيء من الارتباك، من أين يبدأ، وإلام ينتهي؟
5- إن التخطيط لوضع أصول كليَّة، أو أُطُرٍ عامة، يُولَج من خلالها إلى جزئياتٍ تندرج تحتها، أو تنبثق عنها، أمرٌ ضروريٌّ لدراسة مثل هذه الموضوعات الدقيقة المتشعبة، وذلك للوصول إلى الهدف المنشود.
وإن من أبرز هذه الكليات لمنهج هذا الإمام في الجرح والتعديل مثلاً؛ اعتداده برواية الإمام عن الراوي غير المشهور، وسبر أحاديث الراوي واستقرائها بنفسه لمعرفة حالة، والموازنة بين الرواة عند الحكم عليهم، واتِّسام أقواله - أحياناً - بطابع العموم، أو اتساع المصطلحات عنده.
6- إن هذه الملامح الكليَّة ليست هي للاستقصاء، ولا هي نهاية المطاف في الدراسة؛ بل يمكن أن يزاد كليَّات أخرى، كما أن كل لمحة من هذه الملامح جديرة بأن تكون موضوع دراسة معمَّقة وحدها.
7- إن معرفة منهج إمام من أئمة النقد - باستقراء ألفاظه ودراستها، ووضع الأصول الكليَّة والضوابط النقديَّة عنده - مما يوسِّع مدارك الباحثين، ويولِّد لديهم ملكةً لتفسير صنيعه وتطبيقاته، التي قد تبدو متعارضة - أحياناً - ولولا هذه المعرفة لظهر الباحث حائراً، قاصر الفهم عن إدراك كُنْه هذه المسائل، ولذا فإني أوصي نفسي أولاً، ثم إخواني المهتمين بهذا الجانب ثانياً، بتكثيف هذه الدراسات وتفعيلها، لما لذلك من أهمية كبرى في خدمة التراث النبوي الشريف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع:
[1] الذهبي، محمد بن أحمد. سير أعلام النبلاء. ط2. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ/ 1985م.
[2] الذهبي، محمد بن أحمد. ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل. تحقيق: عبدالفتاح أبو غُدَّة. ط5. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1410هـ/ 1990م.
[3] ابن منظور، محمد بن مكي. لسان العرب. بيروت: دار صادر، د.ت.
[4] السمعاني، أبو سعيد عبدالكريم بن محمد. الأنساب. ط1. بيروت: دار الجنان، 1408هـ/ 1988م.
[5] الحموي، ياقوت بن عبدالله. معجم البلدان. بيروت: دار الكتاب العربي. د. ت.
[6] الرازي، عبدالرحمن بن أبي حاتم. الجرح والتعديل. تحقيق: المعلِّمي اليماني. ط1. حيدر آباد: دائرة المعارف العثمانية، 1371هـ/ 1952م.
[7] الإصطخري، إبراهيم بن محمد. المسالك والممالك. تحقيق: محمد الحيني. بيروت: دار القلم، 1381هـ/ 1961م.
[8] ابن الرفعة، أبو العباس نجم الدين. الإيضاح والتبيان، في معرفة المكيال والميزان. تحقيق: محمد الخاروف. ط1. دمشق دار الفكر، 1400هـ/ 1980م.
[9] الخليلي، الخيل بن عبدالله. الإرشاد في معرفة علماء الحديث. تحقيق: محمد سعيد. الرياض: مكتبة الرشد، 1409هـ/ 1989م.
[10] الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي. تاريخ بغداد. المدينة المنورة: المكتبة السلفية، د.ت.
[11] الصَّفَدي، صلاح الدين خليل بن أيبك. الوافي بالوفيات. اعتناء: س. دبدرينغ. استانبول: مطبعة وزارة المعارف، 1949م.
[12] السبكي، عبدالوهاب بن علي. طبقات الشافعية الكبرى. تحقيق: عبدالفتاح الحلو ومحمود الطناحي. القاهرة: دار إحياء الكتاب العربي، 1396هـ/ 1976م.
[13] الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي. السابق واللاحق، في تباعد ما بين وفاة راويَيْن عن شيخ واحد. تحقيق: محمد بن مطر الزهراني. ط1. الرياض: دار طيبة، 1402هـ/ 1982م.
[14] ابن حجر، أحمد بن علي. تهذيب التهذيب. ط1. حيدر آباد: دائرة المعارف العثمانية، 1325هـ.
[15] سزكين، فؤاد. تاريخ التراث. الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403هـ/ 1983م.
[16] ابن أبي يعلى، أبو الحسين محمد. طبقات الحنابلة. تصحيح: محمد الفقي. القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1371هـ/ 1952م.
[17] الكتاني، م. ج. الرسالة المستطرفة. ط3. دمشق: دار الفكر، 1383هـ.
[18] الزِّرِكْلِي، خير الدين. الأعلام. ط6. بيروت: دار العلم للملايين، 1984م.
[19] كحالة، عمر رضا. معجم المؤلفين. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1376هـ/ 1957م.
[20] البغدادي، إسماعيل باشا. هدية العارفين. بيروت دار الفكر، 1402هـ/ 1982م.
[21] ابن النديم، محمد بن إسحاق. الفهرست. بيروت: دار المعرفة، 1398هـ/ 1978م.
[22] الأعظمي، محمد ضياء الرحمن. دراسات في الجرح والتعديل. ط1. الهند: بنارس، المطبعة السلفية، 1403هـ/ 1983م.
[23] ابن الجوزي، أبو الفرج عبدالرحمن بن علي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. تحقيق: محمد ومصطفى عبدالقادر عطا. ط1. بيروت: دار الكتب العلمية، 1412هـ/ 1992م.
[24] الحنبلي ابن العماد، عبدالمحسن. شذرات الذهب. بيروت: المكتب التجاري، د. ت.
[25] اللالكائي، هبة الله بن الحسن. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. تحقيق: أحمد الغامدي. ط5. الرياض: دار طيبة، 1418هـ.
[26] الذهبي، محمد بن أحمد. تذكرة الحفاظ. ط2. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1385هـ.
[27] ابن مفلح، إبراهيم بن محمد. المقصد الأرشد، في ذكر أصحاب الإمام أحمد. تحقيق: عبدالرحمن بن عثيمين. ط1. الرياض: مكتبة الرشد، 1410هـ/ 1990م.
[28] السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن. طبقات الحفاظ. ط1. القاهرة: مكتبة وهبة، 1393هـ/ 1973م.
[29] ابن الجزري، محمد بن محمد. غاية النهاية في طبقات القراء. نشر: ج برجستراسر. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية، 1400هـ/ 1990م.
[30] الذهبي، محمد بن أحمد. الموقِظَة في علم مصطلح الحديث. تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة. ط1. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1405هـ.
[31] السخاوي، محمد بن عبدالرحمن. المتكلمون في الرجال. تحقيق: عبدالفتاح أبو غُدَّة. ط5. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1410هـ/ 1990م.
[32] ابن تيمية، أبو العباس أحمد. الصارم المسلول، على شاتم الرسول. تحقيق: محمد محيي الدين. بيروت. دار الكتب العلمية. 1398هـ /1978م.
[33] ابن تيمية، أبو العباس أحمد. مجموعة الفتاوى. جمع وترتيب: عبدالرحمن النجدي. ط1. 1398هـ.
[34] الزيلعي، عبدالله بن يوسف. نصب الراية لأحاديث الهداية. ط2. حيدر آباد. المكتبة الإسلامية، 1393هـ/ 1973م.
[35] الذهبي، محمد بن أحمد. ميزان الاعتدال. ط1. بيروت: دار المعرفة، 1382هـ/ 1963م.
[36] ابن القطان الفاسي، علي بن محمد. بيان الوهم والإيهام، الواقعَيْن في كتاب الأحكام. تحقيق: الحسن آيت سعيد. ط1. الرياض: مكتبة طيبة، 1418هـ/ 1997م.
[37] ابن رجب الحنبلي، عبدالرحمن بن أحمد. شرح علل الترمذي. تحقيق: نور الدين عتر. ط1. دار الملاح للطباعة والنشر، 1398هـ/ 1978م.
[39] أبو الحسن مصطفى إسماعيل. شفاء العليل، بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل. ط1. القاهرة، مكتبة ابن تيمية، 1411هـ/ 1991م.
[39] الذهبي، محمد بن أحمد. الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم. تحقيق: محمد الموصلي. ط1. بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1412هـ/ 1992م.
[40] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. غراس الأساس. تحقيق: توفيق شاهين. ط1. مصر: مكتبة وهبة 1411هـ/ 1990م.
[41] الرازي، عبدالرحمن بن أبي حاتم. علل الحديث. القاهرة، 1343هـ.
[42] البخاري، محمد بن إسماعيل. الضعفاء الصغير. تحقيق: محمود إبراهيم. ط1. حلب: دار الوعي، 1396هـ.
[43] البخاري، محمد بن إسماعيل. التاريخ الكبير. تعليق: المعلِّمي اليماني. ط1. حيدر آبار، 1361هـ.
[44] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. تعجيل المنفعة، بزوائد رجال الأئمة الأربعة. تحقيق: السيد عبدالله هاشم. ط1. المدينة المنورة 1386هـ/ 1966م.
[45] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. هدي الساري، مقدمة فتح الباري. تصحيح: محب الدين الخطيب. ط1. القاهرة: المطبعة السلفية، 1380هـ.
[46] ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. لسان الميزان. ط3. بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1406هـ.
[1] ذكر أنه يوجد منه مختارات في الظاهرية مجموع 28/10 (138أ - 146ب) وقد حققه الدكتور عبدالرحمن الفريوائي مؤخراً.
[2] ذكر الزركلي أنه يوجد المجلد الثالث منه مخطوطات بالمكتبة المحمودية بالمدينة (الرقم 49 تفسير) كتب سنة 872هـ.
[3] وأفاد بأنه مخطوطٌ في مكتبة محسن الهمداني في ناربورة بالهند.
[4] لم أقف عليه فيما تيسر لي من كتب الذهبي.
[5] هو الحسين بن علي من تلاميذ الشافعي مات سنة 248هـ، وله تصانيف كثيرة في الفقه والأصول، تكلم فيه الإمام أحمد بسبب اللفظ، أو مسألة خلق القرآن، وقال: أظهر رأي جهم. ورماه بالبدعة، وتكلم هو في الإمام أحمد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب [10، جـ8، ص ص 64 - 67].
[6] وقد تصحَّف هذا اللفظ - (في حديثه صنعة) - في بعض الكتب التي ذكرته عن أبي حاتم، إلى لفظ (ضعيف)، مما يستدعي الانتباه؛ لأن هذا يغيِّر المعنى كثيراً.
[7] وسيأتي لهذا اللفظ "سكتوا عنه" ولفظ "فيه نظر" الذي بعده مزيد من الأمثلة في صفحة 515، إن شاء الله.
[8] وسيأتي في (ص519 وما بعدها) من هذا البحث الكلام على اتساع هذا المصطلح عنده؛ بحيث إنه يطلق الجهالة ويريد بها أكثر من معنى، كما سيأتي هناك مزيد من الأمثلة على الجهالة عنده.
[9] وسيأتي في ص 518 وما بعدها أن أبا حاتم يستعمل لفظ ضعيف الحديث ـ أيضاً ـ بمعنى متروك، وبمعنى متهم، أو أشد.
[10] أفردهم الدكتور ذيب فياض ببحث مستقل، نُشر في مجلة "الدراسات" في الجامعة الأردنية، 22/ أ، ع6، الملحق (1995م).
- الحافظ ابن حجر العسقلاني: عصره وترجمته
- ترجمة موجزة لابن أبي حاتم
- ترجمة موجزة للإمام ابن أبي حاتم
- ملامح قصصية في شعر خالد البيطار
- كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي
- حدثني الحافظ (1)
- من أخبار الشباب (9) ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى
- استخلاص أهم ملامح منهج الإمام أبي داود في سننه من رسالته إلى أهل مكة(مقالة - آفاق الشريعة)
- أبرز ملامح المنهج العلمي في الإسلام(مقالة - ثقافة ومعرفة)
- من ملامح المنهج المحمدي: استغلال الوقائع والأحداث للتوجيه والإرشاد(مقالة - ملفات خاصة)
- من ملامح المنهج المحمدي : القدوة العملية(مقالة - ملفات خاصة)
- ملامح في "الرسالة" للإمام الشافعي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
- ملامح بعض أهوال يوم القيامة(مقالة - آفاق الشريعة)
- ملامح شخصية وشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
- قراءات اقتصادية (27) ملامح المستقبل(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
- ملامح شخصية وشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
- ملامح في خصائص المصطلح الفقهي(مقالة - آفاق الشريعة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق