تعارض الوقف و الرفع
الوقف: مَصْدَر للفعل وقف وَهُوَ مَصْدَر بمعنى المفعول ، أي مَوْقُوْف ([1]) .
والمَوْقُوْف : هُوَ مَا يروى عن الصَّحَابَة y من أقوالهم ، أو أفعالهم ونحوها فيوقف عَلَيْهِمْ وَلاَ يتجاوز بِهِ إلى رَسُوْل الله r.([2])
والرَّفْع : مَصْدَر للفعل رَفَعَ ، وَهُوَ مَصْدَر بمعنى المفعول ، أي : مَرْفُوْع([3]) ، والمَرْفُوْع : هُوَ مَا أضيف إلى رَسُوْل الله r خَاصَّة ([4]).
والاختلاف
في بَعْض الأحاديث رفعاً ووقفاً أمرٌ طبيعي ، وجد في كثيرٍ من الأحاديث ، و
الحَدِيْث الواحد الَّذِي يختلف بِهِ هكذا محل نظر عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ ،
وَهُوَ أن المُحَدِّثِيْنَ إذا وجدوا حديثاً روي مرفوعاً إلى النَّبيّ r ، ثُمَّ نجد
الحَدِيْث عينه قَدْ روي عن الصَّحَابيّ نفسه موقوفاً عَلَيْهِ ، فهنا يقف النقاد
أزاء ذَلِكَ؛ لاحتمال كون المَرْفُوْع خطأً
من بَعْض الرواة و الصَّوَاب الوقف ، أو لاحتمال كون الوقف خطأ و الصَّوَاب الرفع
؛ إذ إن الرفع علة للموقوف و الوقف علة للمرفوع . فإذا حصل مِثْل هَذَا في حَدِيث
ما ، فإنه يَكُون محل نظر وخلاف عِنْدَ العُلَمَاء وخلاصة أقوالهم فِيْمَا يأتي:
إذا كَانَ السَّنَد نظيفاً خالياً من بقية العلل ؛ فإنّ للعلماء فِيهِ الأقوال الآتية :
القَوْل الأول : يحكم للحديث بالرفع
لأن راويه مثبت وغيره ساكت، وَلَوْ كَانَ نافياً فالمثبت مقدم عَلَى النافي ؛ لأَنَّهُ علم ما خفي ، وَقَدْ عدوا ذَلِكَ أيضاً من قبيل زيادة الثِّقَة، وَهُوَ قَوْل كَثِيْر من المُحَدِّثِيْنَ ، وَهُوَ قَوْل أكثر أهل الفقه و الأصول([5])، قَالَ العراقي: (( الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أن الرَّاوِي إذا رَوَى الحَدِيْث مرفوعاً وموقوفاً فالحكم للرفع ، لأن مَعَهُ في حالة الرفع زيادة ، هَذَا هُوَ المرجح عِنْدَ أهل الحَدِيْث )) ([6]) .
القَوْل الثَّانِي: الحكم للوقف([7]) .
القَوْل الثَّالِث : التفصيل
فالرفع زيادة ، و الزيادة من الثِّقَة مقبولة ، إلا أن يوقفه الأكثر ويرفعه واحد ، لظاهر غلطه ([8]) .
والترجيح برواية الأكثر هُوَ الذي عَلَيْهِ العَمَل عِنْدَ المُحَدِّثِيْنَ؛ لأن رِوَايَة الجمع إذا كانوا ثقات أتقن وأحسن و أصح و أقرب للصواب ؛ لذا قَالَ ابن المبارك : (( الحفاظ عن ابن شهاب ثلاثةٌ : مَالِك ومعمر و ابن عيينة ، فإذا اجتمع اثنان عَلَى قولٍ أخذنا بِهِ ، وتركنا قَوْل الآخر )) ([9]) .
قَالَ العلائي : (( إن الجماعة إذا اختلفوا في إسناد حَدِيث كَانَ القَوْل فِيْهِمْ للأكثر عدداً أو للأحفظ و الأتقن... ويترجح هَذَا أيضاً من جهة المَعْنَى ، بأن مدار قبول خبر الواحد عَلَى غلبة الظن ، وعند الاختلاف فِيْمَا هُوَ مقتضى لصحة الحَدِيْث أو لتعليله ، يرجع إلى قَوْل الأكثر عدداً لبعدهم عن الغلط و السهو ، وَذَلِكَ عِنْدَ التساوي في الحفظ والإتقان . فإن تفارقوا واستوى العدد فإلى قَوْل الأحفظ و الأكثر إتقاناً ، وهذه قاعدة متفق عَلَى العَمَل بِهَا عِنْدَ أهل الحَدِيْث )) ([10]) .
القَوْل الرابع : يحمل المَوْقُوْف عَلَى مَذْهَب الرَّاوِي ، و المُسْنَد عَلَى أَنَّهُ روايته فَلاَ تعارض([11]). وَقَدْ رجح الإمام النَّوَوِيّ من هذِهِ الأقوال القَوْل الأول([12]) ، ومشى عَلَيْهِ في تصانيفه ، و أكثر من القَوْل بِهِ .
والذي ظهر لي – من صنيع جهابذة المُحَدِّثِيْنَ ونقادهم – : أنهم لا يحكمون عَلَى الحَدِيْث الَّذِي اختلف فِيهِ عَلَى هَذَا النحو أول وهلة ، بَلْ يوازنون ويقارنون ثُمَّ يحكمون عَلَى الحَدِيْث بما يليق بِهِ ، فَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة المرفوعة ، وَقَدْ يرجحون الرِّوَايَة الموقوفة ، عَلَى حسب المرجحات والقرائن المحيطة بالروايات ؛ فعلى هَذَا فإن حكم المُحَدِّثِيْنَ في مِثْل هَذَا لا يندرج تَحْتَ قاعدة كلية مطردة تقع تحتها جَمِيْع الأحاديث ؛ لِذلِكَ فإن مَا أطلق الإمام النَّوَوِيّ ترجيحه يمكن أن يَكُون مقيداً عَلَى النحو الآتي :
الحكم للرفع - لأن راويه مثبت وغيره ساكت ، وَلَوْ كَانَ نافياً فالمثبت مقدم عَلَى النافي ؛ لأَنَّهُ علم مَا خفي - ، إلا إذَا قام لدى الناقد دليل أو ظهرت قرائن يترجح معها الوقف .
وسأسوق أمثلة لأحاديث اختلف في رفعها ووقفها متفرعة عَلَى حسب ترجيحات المُحَدِّثِيْنَ .
فمثال مَا اختلف في رفعه ووقفه وكانت كلتا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيْحَة :
حَدِيث
عَلِيٍّ t : (( ينضح من بول
الغلام ، ويغسل بول الجارية )). قَالَ الإمام
التِّرْمِذِي : (( رفع هشام الدستوائي هَذَا الحَدِيْث عن قتادة وأوقفه سعيد بن
أبي عروبة ، عن قتادة ، وَلَمْ يرفعه )) ([13]) .
وَقَالَ الحافظ ابن حجر : (( إسناده صَحِيْح إلا أَنَّهُ اختلف في رفعه ووقفه ، وَفِي وصله وإرساله ، وَقَدْ رجح البُخَارِيّ صحته وكذا الدَّارَقُطْنِيّ )) ([14]) .
والرواية
المرفوعة : رواها معاذ بن هشام ([15])،
قَالَ: حَدَّثَني أبي([16])،
عن
قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ([17]) ، عن أبيه ([18])
، عن عَلِيّ بن أبي طالب ،
مرفوعاً ([19])
.
قَالَ البزار : (( هَذَا الحَدِيْث لا نعلمه يروى عن النَّبيّ r ، إلا من هَذَا الوجه بهذا الإسناد ، وإنما أسنده معاذ بن هشام ، عن أبيه ، وَقَدْ رَواهُ غَيْر معاذ بن هشام ، عن قتادة، عن أبي حرب ، عن أبيه ، عن عَلِيّ ، موقوفاً )) ([20]) .
أقول
: إطلاق البزار في حكمه عَلَى تفرد معاذ بن هشام بالرفع غَيْر صَحِيْح إِذْ إن
معاذاً قَدْ توبع عَلَى ذَلِكَ تابعه عَبْد الصمد بن عَبْد الوارث ([21])
عِنْدَ أحمد ([22])
،
والدارقطني ([23])
، لذا فإن قَوْل الدَّارَقُطْنِيّ كَانَ أدق حِيْنَ قَالَ : (( يرويه قتادة ، عن
أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، رفعه هشام بن أبي عَبْد الله من رِوَايَة ابنه
معاذ وعبدالصمد بن عَبْد الوارث ، عن هشام ، ووقفه غيرهما عن هشام )) ([24])
.
والرواية الموقوفة : رواها يَحْيَى بن سعيد ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن أبيه ، عن عَلِيّ ، فذكره موقوفاً ([25]) .
فالرواية الموقوفة إسنادها صَحِيْح عَلَى أن الحَدِيْث مرفوعٌ صححه جهابذة المُحَدِّثِيْنَ: البُخَارِيّ والدارقطني - كَمَا سبق - وابن خزيمة ([26]) ، وابن حبان ([27]) ، والحاكم([28]) - وَلَمْ يتعقبه الذهبي – ، ونقل صاحب عون المعبود عن المنذري([29]) قَالَ : (( قَالَ البُخَارِيّ : سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه وهشام يرفعه ، وَهُوَ حافظ )) ([30]) .
أقول : هكذا صَحّح الأئمة رفع هَذَا الحَدِيْث ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ موقوفاً أيضاً ؛ وهذا يدل عَلَى أن الحَدِيْث إذا صَحَّ رفعه ، ووقفه ، فإن الحكم عندهم للرفع ، وَلاَ تضر الرِّوَايَة الموقوفة إلا إذا قامت قرائن تدل عَلَى أن الرفع خطأ .
مَعْرِفَة علوم الحَدِيْث:19 ، والكفاية (58 ت ، 21ه) ، والتمهيد 1/25 ، ومعرفة أنواع علم الحَدِيْث: 41-42،و117 طبعتنا، والإرشاد 1/158 ، و التقريب: 51 ، 95 طبعتنا ، و الاقتراح 194 ، و المنهل الروي:40 ،و الخلاصة:64،و الموقظة : 41 ، و اختصار علوم الحَدِيْث: 45 ، و المقنع 1/114 ، وشرح التبصرة و التذكرة 1/123،و1/184 طبعتنا، ونزهة النظر:154،و المختصر: 145،وفتح المغيث 1/103، وألفية السيوطي 21 ، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي 146 ، وفتح الباقي 1/123 ، 1/177 طبعتنا ، وتوضيح الأفكار 1/261 ، وظفر الأماني: 325 ، وقواعد التحديث: 130 .
الكفاية (58ت ، 21ه) ، و التمهيد 1/25 ،
ومعرفة أنواع علم الحَدِيْث: 117 طبعتنا وإرشاد طلاب الحقائق 1/157 ، و التقريب 50
، و 94 طبعتنا ، و الاقتراح: 195 ، و المنهل الروي: 40 ،
والخلاصة :46 ، والموقظة: 41 ، و اختصار علوم الحَدِيْث: 45 ، و المقنع 1/113 ،
وشرح التبصرة والتذكرة 1/116 ، و1/181 طبعتنا ، ونزهة النظر: 140 ، و المختصر: 119
، وفتح المغيث 1/98 ، و ألفية السيوطي: 21 ، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي:
143 ، وفتح الباقي 1/116 ، و1/171 طبعتنا ، وتوضيح الأفكار 1/254 ، وظفر الأماني:
227 ، وقواعد التحديث 123 .
([5])
شرح التبصرة و التذكرة 1/177 ، و 1/233 طبعتنا ، ومقدمة جامع الأصول 1/170 ،
وفتح المغيث 1/194 ، و المحصول 2/229-230 ، و الكفاية (588ت-417ه) ، شرح ألفية
السيوطي 29 .
([9])
نقله عَنْهُ النَّسَائِيّ في السُّنَن الكبرى 1/632 عقيب (2072) ، ونقله عَنْهُ
العلائي في نظم الفرائد:
367 بلفظ : (( حُفَّاظ علم الزُّهْرِيّ ثلاثة: مَالِك ومعمر وابن عيينة ، فإذا
اختلفوا أخذنا بقول رجلين مِنْهُمْ )) .
([12]) مقدمة شرح النَّوَوِيّ عَلَى صَحِيْح مُسْلِم 1/25 ، و التقريب : 62-63 ، و 107-108 طبعتنا ، والإرشاد 1/202 .
([15]) هُوَ معاذ بن هشام بن أبي عَبْد الله الدستوائي ، البصري ، وَقَدْ سكن اليمن ، ( صدوق رُبَّمَا وهم ) ، مات سنة مئتين ، أخرج حديثه أصحاب الكُتُب الستة . التقريب ( 6742 ) .
([16]) هُوَ هشام بن أبي عَبْد الله :سَنْبَر – بمهملة ثُمَّ نون موحدة ، وزن جَعْفَر – ، أبو بَكْر البصري الدستوائي ، ( ثِقَة ، ثبت )، مات سنة مئة وأربع وخمسين ، أخرج حديثه أصحاب الكُتُب الستة.الطبقات لابن سعد 7/279-280 ، وتذكرة الحفاظ 1/164 ، والتقريب (7299).
([17]) هُوَ أبو حرب بن أبي الأسود الديلي ، البصري ، ( ثِقَة ) ، قِيلَ : اسمه محجن ، وَقِيلَ : عطاء ، مات سنة ثمان ومئة ، أخرج حديثه مُسْلِم وأصحاب السُّنَن الأربعة . التقريب ( 8042 ) .
([18]) هُوَ أَبُو الأسود الديلي – بكسر
المُهْمَلَة وسكون التحتانية – ، ويقال : الدؤلي 0 بالضم بعدها
همزة مفتوحة – ، البصري ، اسمه : ظالم بن عَمْرو بن سُفْيَان ، ويقال : عَمْرو بن
ظالم ، ويقال : بالتصغير فِيْهِمَا ، ويقال : عَمْرو بن عُثْمَان ، أو عُثْمَان بن
عَمْرو : ( ثِقَة ، فاضل ، مخضرم ) ، مات سنة تسع وستين ، أخرج حديثه أصحاب
الكُتُب الستة . التقريب ( 7940 ) .
([19]) هذِهِ الرِّوَايَة أخرجها : أحمد 1/ 97 و 137 ، وأبو دَاوُد ( 378 ) ، وابن ماجه ( 525 ) ، والترمذي ( 610 ) ، وَفِي علله الكبير ( 38 ) ، والبزار ( 717 ) ، وأبو يعلى ( 307 ) ، وابن خزيمة ( 284 ) ، والطحاوي في شرح المعاني 1/92 ، وابن حبان ( 1372 ) ، وطبعة الرسالة ( 1375 ) ، والدارقطني 1/129 ، والحاكم 1/165-166 ، والبيهقي 2/415 ، والبغوي ( 296 ) .
([21]) هو أبو سهل التميمي العنبري عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد ، توفي سنة ( 207 ه ) .
الطبقات الكبرى 7/300 ، وسير أعلام النبلاء 9/516 ، وشذرات الذهب 2/17 .
([24]) علل الدَّارَقُطْنِيّ 4/184-185 س ( 495 ) .
تنبيه : مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ من أن غَيْر معاذ وعبد الصمد روياه عن هشام موقوفاً فإني لَمْ أجد هَذَا في شيء من كتب الحَدِيْث ، ولعله وهمٌ من الدَّارَقُطْنِيّ يفسر ذَلِكَ قوله في السُّنَن 1/129 لما ساق رِوَايَة معاذ : ((تابعه عَبْد الصمد ، عن هشام ، ووقفه ابن أبي عروبة ، عن قتادة )) . فلو كَانَتْ ثمة مخالفة قريبة لما ذهب إلى رِوَايَة ابن أبي عروبة ، والله أعلم .
([25]) وهذه الرِّوَايَة الموقوفة أخرجها عَبْد الرزاق ( 1488 ) ، وابن أبي شَيْبَة ( 1292 ) ، وأبو دَاوُد ( 377)، والبيهقي 2/415 .
([26]) صَحِيْح ابن خزيمة ( 284 ) ،
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يحكم عَلَيْهِ بلفظه ، إلا انا قلنا ذَلِكَ عَنْهُ لالتزامه
الصحة في كتابه قَالَ العماد بن كَثِيْر في اختصار علوم الحَدِيْث : 27 ، وطبعة
العاصمة 1/109 : (( وكتب أخر التزم أصحابها صحتها
كابن خزيمة ، وابن حبان )) . وَقَالَ
الحافظ ابن حجر في نكته عَلَى كِتَاب ابن
الصَّلاح 1/291 : (( حكم الأحاديث الَّتِي في كِتَاب
ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بِهَا )) . عَلَى أن الكِتَاب فِيهِ بَعْض مَا انتقد عَلَيْهِ .
([29]) هو أبو مُحَمَّد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري الشامي الأصل ، ولد سنة ( 581 ه ) ، من مصنفاته " المعجم " ، واختصر " صحيح مسلم " و " سنن أبي داود " ، توفي سنة ( 656ه ) .
سير أعلام النبلاء 23/319 و 320 ، والعبر 5/232 ، وتذكرة الحفاظ 4/1436 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق